طباعة
المجموعة: الكاتب عبد الزهره زكي
الزيارات: 1068

ما أكثر ما نخطئ، لكن من الأخطاء ما لا يمكن نسيانه، وهي مما قد لا يغفره المرء لنفسه.
واحد من هذه الأخطاء التي بقيتُ لا أسامح نفسي عنها هو موافقتي على نشر مقالٍ لصديق شاعر اتّهم فيه شاعراً صديقاً آخر بالسطو والسرقة من شعر سان جون بيرس كما ترجمه أدونيس.    
لقد حصل هذا في عام 1993 بعد أشهر قليلة على صدور الديوان الشعري الأول للشاعر محمد تركي نصار (السائر من الأيام)، وهو واحد من أهم الدواوين الشعرية التي صدرت في بغداد التسعينيات، بل أرى أنه ديوان شعري مائز في عموم حركة تجديد الشعر العراقي التي كانت التسعينيات طوراً مهما من أطوار توثّبها وتحريكِها للركود الذي آل إليه هذا الشعر بعد توالي استبداد ظروف الحياة والحرب والطغيان بالشعر والشعراء مع مطلع الثمانينيات.
ففي صباح أحد أيام عام 1993 (لا أذكر التاريخ بالضبط) زارني في مكتب عملي بالقسم الثقافي لجريدة الجمهورية الصديق الشاعر عادل عبدالله، وفاجأني بالقول إنه أنجز مقالاً يكشف فيه سرقات ديوان شعري لشاعر وصفه بالصديق الأقرب لي، وإنه (عادل) حضر للتأكد من مدى استعدادي لنشر المقال. بعد حين عرفت أن الشاعر المعني بالمقال هو محمد تركي (وهو صديقي الأقرب حقاً)، وصار الديوان واضحاً، حيث لم ينشر محمد حينها سوى (السائر من الأيام) الذي حظي حال صدوره باهتمام استثنائي كان يستحقه من قبل النقاد وجمهور قراء الشعراء.
قبل هذا بسنوات كان عادل عبدالله قد عُرف عنه أنه من أوائل من تحدثوا عما سماه (سرقات) أدونيس من النفري، وعادل مجتهد ودؤوب في البحث والتقصّي ويتمتع بطول بال من أجل بلوغ أهدافه في الكتابة النقدية والفكرية.

قرأت المقال الذي سلّمني إياه من بعد ما اطمأن إلى أن المقال سينشر حتى وإن كنت أنا نفسي موضوعاً له. كان عادل منشغلاً في مقاله بالجهد ذاته الذي كان قد أولاه لقراءته لأدونيس ولتتبع ما رآه سرقات سطا فيها أدونيس على النفري، لكن الآن، وفي هذا المقال الذي بات تحت يدي، تابع عادل عبدالله مساراً آخر اعتمد فيه هذه المرة على ترجمه أدونيس لسان جون بيرس إنما لمطابقتها مع ديوان جديد لشاعر شاب (محمد تركي)، وكان ديواناً قصيراً اشتمل على نصوص شعرية متوسطة الأطوال.
ينبغي القول هنا أن أول مقال نُشر مشيداً ومشيراً إلى أهمية ديوان (السائر من الأيام) كان لي، حصل هذا بعد أقل من شهر على صدور الديوان.

قراءتي المباشرة للنصوص قبل جمعها في الديوان، وعمق الصلة الحية بيني وبين محمد تركي هما ما وفرا إمكانية الكتابة المبكرة عن (السائر من الأيام) والمتحمسة نقدياً له، وهي حماسة يستحقها الديوان والشاعر.
لم يخفِ عادل عبدالله في مقاله الاتهامي حماسته هو أيضاً للديوان، لكن حماسة عادل ذهبت به باتجاه آخر راح بموجبها يتحرى عن مصدر هذا الديوان، وقد وجد ذلك في أعمال سان جون بيرس.
ففي مقاله يؤشر عادل عبدالله على ديوان محمد تركي وجودَ تقارب قاموسي يجمعه بأعمال مختلفة للشاعر الفرنسي، ورصد بذلك كثيراً من المفردات، ومعها قليل من التعابير، المشتركة بين ديواني الشاعر الفرنسي الكبير والشاعر العراقي الشاب، فخلص إلى نتيجة أن ديوان محمد تركي هو شكل من أشكال الانتحال والسرقة.
أعدت قراءة المقال لمرات، وأحضرت الديوانين وطابقت ما أشار إليه عادل عبدالله بينهما من مشتركات.

اقتنعت بجدية عمل عادل في مقاله ولكن لم أقف بدقة كان لابد منها عما إذا كان هذا الاشتراك سرقةً أم لا، وكان هذا هو داعي وقوعي بالخطأ الذي لم أغفره لنفسي.
بقيت لثلاثة أيامٍ متردداً بين أمرين: التزام أخلاقي إزاء شاعر هو صديقي الأقرب، والتزام مهني بضرورة الإيفاء بكلامي لكاتب المقال ونشره ما دام يستحق النشر بالمعايير الصحفية.
واقعاً لا يتردد أيّ محرر صحفي عن نشر هكذا مقال، لكن ماذا عن اعتبارات أخلاقية لابد من الوقوف عندها ومراعاتها ضمن صلتها بصداقتنا بشكل أساس.. ؟

لم أستطع حسم الأمر حتى جاءني إلى الجريدة محمد تركي نفسه ليطلب مني نشر المقال، حاول تخفيف العبء الذي أعانيه بالقول: إن لم تنشره أنت فسيُنشَر حتماً بصحيفة أخرى، وسيكون امتناعك عن نشره داعياً لزيادة اللبس.
عرفت أن محمد تركي لن يرد ولن يعلق على المقال إذا مانُشر. لقد كان يفكر جاداً بمغادرة البلد إلى عمان في هذه الأثناء ومن دون رجعة، وكان هذا شغلاً أجدر بالتركيز وبالاهتمام الذي يجب أن يوليه إياه دون سواه، كما عرفت ذلك من محمد نفسه وهو الصديق الأقرب كما ذكرت.
نشرت المقال، وكان له وقع كبير في الوسط الثقافي العراقي. مثل هكذا مقالات هي التي تلفت الانتباه إليها أكثر من سواها، فنحن في أوساط ثقافية مفتونة بـ (الفضيحة)، وفي العادة أن هذه الفضيحة تتضخم وتكبر بالتداول والجلسات والتعليقات.

لم يتحدث محمد تركي بأي شيء، لكن الناقد حاتم الصكر وحده الذي كان قد ردّ على مقال عادل عبدالله وذلك بمقال بعث به إليَّ فنشرته مباشرةً في المكان نفسه بجريدة الجمهورية. لقد ركز حاتم الصكر بمقاله على الجانب النظري المتعلق بنظريات التناص وبالتفاعل بين نصوص الشعر.
لكننا أبناء ثقافة عربية تظل تنظر حتى إلى التناص، ومهما آمنت به وبتصورات الكتّاب الغربيين عنه، على أنه سرقة يراد تحسين سمعتها وصورتها.
وفعلاً فإذا نظرنا من منظور النقد العربي القديم فإن (التناص) لن يكون إلا باباً من أبواب السرقات كما صنفها نقادنا القدامى المؤسسون.
ففي نقدنا القديم توسّع النقاد العرب في باب السرقات حتى بات المرء يشكّ أن يكون هناك بيتٌ واحد من الشعر لا تطوله شبهة السرقة، لكن هؤلاء النقاد أفاضوا في التبرير والتسويغ حتى ليكاد المرء يقول إن ليس ثمة من سرقة في الشعر.
لقد جرت التوسعة والإفاضة، بالتعسف، بحيث جرى إدخال ما ليس من السرقات في هذا الباب الذي جرت تسميته سرقات الشعر، فيما تم التوسع، بالتسامح، حتى جرى تسويغ بعض السرقات فلم تحسب على السرقة بمفهومها الأخلاقي ولكنها ظلت تسمى (سرقة).
لم يخطئ النقاد العرب بتعسفهم، ولم يتساهلوا بتسامحهم، لكن الخطأ في هذا الحقل النقدي المهم كان يكمن في التسمية التي أُسبغت عليه: (باب السرقات)، وكان المراد به هو (الأخذ).
(الأخذ) هو مفهوم تفاعلي محايد أخلاقياً؛ فهو ينطوي حيناً على قيمة سلبية حين يكون (الأخذ) سرقةً، سواء بالانتحال أو الغصب أو الإغارة (وهذه كلها من أصناف السرقات في لغة القدامى)، كما ينطوي حيناً على قيمة إيجابية، سواء بالتوليد أو الاجتلاب أو الاتباع (وهذه أيضا من أصناف السرقات في لغتهم).
حقيقةً ليست هذه التصورات التي أتحدث بها هنا عن مفهومَي (السرقة) و(الأخذ) وليدة هذه اللحظة التي أكتب فيها هذا المقال، فهي من كتابنا (طريق لا يسع إلا فرداً) الصادر مؤخراً.

في أثناء تدوين تلك التصورات في هذا الكتاب كان مقال عادل عبدالله وديوان محمد تركي حاضرَين في بالي، وكانت مشاعر الإحساس بالذنب والخطأ تتفاقم في داخلي، ولعل هذه الكتابة هي شكل من التطهر والاعتراف ولو بعد أكثر من عشرين عاماً.
أعتقد أن أحداً منا نحن الثلاثة، أنا وعادل ومحمد، لم يكن يتوفر على قناعات واضحة وحاسمة بهذا الشأن المعقد.

لقد ظلت أصالة العمل الشعري ومدى صيانته لطبيعته الشخصية الفردية موضوعاً مقلقاً جداً في حياة الشعر والشعراء العرب وحتماً في ثقافات أخرى، وأحيانا نتعسف في ذلك حتى ضد أنفسنا، ولعل حماسة الصديق عادل عبدالله لـ (اكتشافاته) هي ما دفعت به إلى أن يذهب بها مذهباً متشدداً في أحكامه ونتائجه.
ما حصل في ديوان (السائر من الأيام) لا صلة له من قريب ولا من بعيد بالسرقة والانتحال.
الكلمات المشتركة وحتى الصياغات التعبيرية المتقاربة بين نصين ليست دليل إثبات مقنع على نية السرقة والسطو من أحدهما على الآخر.
الشعر هو تركيب كلمات؛ هو وضع الكلمات في سياق خاص وبما ينتج معنى شعرياً.
السرقة هي في انتحال معاني الشعر ولن يحصل مثل هذا الانتحال إلا بنقل تركيب تعبيريٍّ نقلاً حرفياً لضمان بلوغ المعنى نفسه، وإلا فإن أي تغيير في المبنى يفضي إلى تغيير في المعنى، وتغيير المعنى يعفو عن صانعه تهمةَ السرقة والسطو والانتحال.
في تلك السنوات وما قبلها خلال الثمانينيات كانت أعمال سان جون بيرس (بترجمة أدونيس) أشبه بكتاب شعري مقدس يتداوله الشعراء الشبان وقراء الشعر بكثير من الافتتان بالنسبة لبعضهم وبشيء من المباهاة بالنسبة لبعض آخر.

محمد تركي نصار لم يخفِ شديدَ تعلقه ببيرس.هل كنتُ آثماً في ذلك؟ ربما، فالنسخة الأولى من أعمال بيرس كنت قد أهديتها أنا لمحمد ولزعيم نصار، وكانا شاعرين في مقتبل تجربتيهما في الشعر. لم تغادر تلك النسخة محمد الذي حفظ كثيراً من نصوص بيرس، وكان مثاله الدائم في الاستشهاد وفي التمثل.
من الممكن أن تكون هذه الأعمال قاموساً لشاعر شاب، ولا ضرر في هذا. لكن هذا يظل مشروطاً بالكيفية التي تكون عليها كلمات قاموس في تجربة نصية شعرية. ولعل الأهم الجدير بالاعتبار بهذا الصدد أن نصوص (السائر من الأيام) تنشغل باهتمامات أخرى هي أنأى ما تكون عن طبيعة عالم سان جون بيرس الشعري ورؤيته الشعرية.
نصوص الديوان القصيرة والمتوسطة بمعظمها تهتم بإقامة اليغوريا شعرية يشفّ معها الشعر عن صلة غائمة بتفاصيل الحياة اليومية للشاعر، عنوان الديوان هو لافتٌ في هذا المجال.
ليس بين هذه النصوص أيّ نص يشير من حيث مؤداه ونتائجه إلى أي نص بيرسي ولا إلى أي اهتمام نصي وتعبيري للشاعر الفرنسي الكبير.
المفردات المشتركة وبعض التعابير لا تكفي للقول بالنقل ولا حتى بالتأثر.

من الممكن كتابة قصيدة كاملة من كلمات أية قصيدة سابقة إنما يمكن أن تكون القصيدتان مختلفتين تماماً، يمكن من كلمات نفسها، أية كلمات، تشكيل أكثر من قصيدة. كيف يمكن النظر إلى تجربة السرياليين بتجميع كلمات وربطها مع بعض بعفوية من أجل الظفر بتعبير شعري مجاني؟

ماذا عن الصيغ التعبيرية وعن الكلمات المشاعة والمشتركة في شعرنا العربي القديم؟

لم يعمد محمد تركي إلى مثل هذه التجارب لكن قاموسه، وهو شاعر شاب، تشبّع بقاموس بيرس كما قدمته الترجمة، وما حصل هو أن قاموس الأخير كان مُعيناً للشاعر الشاب في عمله الشعري ولم يكن موجِّهاً أو مستبداً بتوجيه ذلك العمل.
كان يجب أن أتفاهم مع الصديق الشاعر عادل عبدالله بكل هذا، هذه من مسؤوليات المحرر الثقافي إذا أراد أن يكون دقيقاً في حفظ الحقوق، حقوق الجميع؛ الكاتب والمكتوب عنه وحقه هو كناشر ملزم بالدقة والأمانة.

لكن هذا ما لم يكن بالمستطاع حينها، فهذه تصورات جديدة عن مشكلة قديمة، ولا أحسب أن عادل نفسه سيختلف عني الآن كثيراً بهذا الشأن.
بعد أكثر من عشرين عاما أجدني ملزماً بالاعتذار لمحمد تركي، وبتوضيح ماحصل.
وكل ما أتمناه أن يسع المتبقي من أعمارنا لنعتذر خلاله عن أي خطأ ارتكبناه بحق الآخرين (وهو بالتأكيد ضد أنفسنا أولاً)، وما أكثر أخطاءَنا، حسبنا إننا بشر.