يعشق المصريون تناول أنواع من السمك المملح، مثل "الفسيخ" ذي الرائحة النفاذة، متجاهلين جميع التحذيرات من تناوله. لكن هذا السمك إذا لم يعد بالطريقة الصحيحة، فقد يؤدي إلى الإصابة بالتسمم الغذائي، وفي حالات نادرة إلى الموت.
في كل عام، تصدر وزارة الصحة المصرية تحذيرا للمصريين بالابتعاد عن تناول "الفسيخ"، وهو السمك البوري المجفف والمحفوظ بالملح بالطرق التقليدية التي توراثها المصريون عبر الأجيال منذ آلاف السنين.
وحذرت الوزارة من أن السمك المملح الفاسد الذي لم يُعد بطرق آمنة وصحيحة، قد يؤدي إلى نوع خطير من التسمم، يعرف باسم التسمم الوشيقي (البوتيوليني)، وفي حالات نادرة قد يفضي إلى الموت.
ولكن تحذير الوزارة عاد بالنفع على محال "شاهين" لبيع الأسماك المملحة، والتي تعد من أشهر المحال المتخصصة في بيع هذا النوع من الأطعمة المميزة ذات الرائحة النفاذة التي يقبل عليها المصريون.
يقول صبري شاهين، من عائلة شاهين المالكة للمحل مازحا: "هذا التحذير كان بمثابة دعاية إيجابية للمحل، فقد زاد من بعده إقبال الزبائن".
منذ مائة عام مضت، انتقل محمد شاهين الأكبر من المنيا في صعيد مصر إلى القاهرة، وبدأ في بيع الفسيخ. وفي عام 1912، أسس محلا تجاريا يحمل اسمه في منطقة باب الخلق بمصر القديمة، ليصبح أول محل متخصص في بيع الفسيخ، أو ما يسمى "فسخاني" في القاهرة.
ثم ورث أبناؤه وأفراد عائلته المهنة عنه، ليصبح مشروعا للعائلة. والآن يبيع الفرع الرئيسي الذي دشن في منطقة "باب اللوق" بوسط القاهرة سنة 1955، بعض الأصناف المميزة الأخرى من السمك المملح، إلى جانب الفسيخ، مثل البطارخ، والرنجة، والملوحة.
ويقول شاهين، من بين جميع محلات بيع الفسيخ العديدة التي تحمل اسم شاهين في مختلف أرجاء القاهرة، لا يوجد إلا فرعان فقط لمحلات شاهين الأصلية، أما باقي المحلات، فيحاول أصحابها استغلال شهرة الاسم.
ولا شك أن شراء السمك من مصدر مناسب ومضمون سيجنبك مشاكل قد لا تُحمد عواقبها.
وبحسب إحصاءات وزارة الصحة المصرية عن التسمم الناتج عن تناول الفسيخ الفاسد، فقد كان عام 1991 هو الأسوأ، إذ توفي فيه 18 شخصا من جراء تناول الفسيخ الفاسد.
لكن العاملين في محل شاهين أكدوا لي عندما زرت المحل في يناير/كانون الثاني الماضي، أن هذا الفسيخ الفاسد لم يكن من محلات شاهين على الإطلاق، فمحلات شاهين حاصلة على شهادات جودة، ولم تتلق شكوى واحدة من الزبائن، أو من وزارة الصحة.
ولهذا السبب لا يشتري عماد اسكندر الفسيخ إلا من محل شاهين، ويعاود المجيء إليه بين الحين والآخر، رغم أنه، كشأن الكثيرين من المصريين، يأنف من رائحته.
يقول إسكندر: "أنا لا أحب الفسيخ، ومع ذلك أتناوله".
ويتابع مفسرا أن المصريين متناقضون في تعاملهم مع السمك المملح، الذي يقدم مع الخبز المصري البني الشهير "البلدي"، مع قليل من الزيت، وقطرات من الليمون، والبصل، لتخفيف حدة الطعم.
ويضيف إسكندر: "يقول بعض المصريين إنهم لا يأكلون الفسيخ لأنه مصري، ويصفونه بأنه دون المستوى، ليتظاهروا بأنهم مثل الأجانب، ورغم ذلك يواظبون على أكله في جميع الحالات".
وعلى عكس بعض أصناف الطعام الأخرى المحببة للمصريين، لا يقدم هذا النوع من السمك ذي الرائحة النفاذة وغير المرغوبة في المطاعم، ولكن زبائن شاهين يصفون تناول الفسيخ بأنه جزء من ثقافتهم المصرية.
وفي الواقع، تعود جذور الفسيخ إلى عهد الفراعنة، إذ كان انحسار مياه فيضان النيل في موسم الربيع يخلّف أسماكا فاسدة على اليابسة. ويحرص المصريون على إحياء عادة تناول الفسيخ كل عام في عيد الربيع، الذي يسمى "شم النسيم"، اعتزازا بإرث أجدادهم.
وفي كل عام يزداد الإقبال على متجر شاهين في الشهر السابق لشم النسيم، إذ يشتري المصريون السمك المملح بكيمات وفيرة.
لكن الكثير من أهل القاهرة يأكلون الفسيخ والرنجة، الأطيب طعما والأقل إثارة للجدل، في بعض الإجازات الأخرى، والمناسبات الخاصة، وفي أيام الجمعة. ولهذا لا يتوقف شاهين عن تحضير السمك المملح طوال العام.
وقد تبدو خطوات تحضير الفسيخ بسيطة، في البداية يجفف السمك البوري في الشمس ثم يوضع في براميل خشبية مملوءة بكميات مناسبة من الملح والماء، ثم يحفظ لمدة 45 يوما.
ويقول شاهين إن السر في نجاح تحضير الفسيخ الجيد هو معرفة جميع خبايا عملية تحضير السمك وخصائصه. وبينما يظل السمك نيئا من الناحية الفنية، فإن الملح يساعد على إنضاجة من الناحية النظرية، ويحول دون تعفنه.
وستحصل في النهاية على سمك معتاد الشكل من الخارج، لكن لحمه طري يميل إلى اللون الرمادي، وتفوح من كل ذرة منه رائحة نفاذة مميزة.
وإذا لم تضاف كميات كافية من الملح عند تحضير الفسيخ، أو كان السمك المستخدم في تحضيره ميتا بالفعل ووجد طافيا على الماء، فسيصبح السمك مرتعا لبكتيريا كلوستريديوم بوتولينوم، التي تعيش في بيئات ينعدم فيها الأكسجين، وتسبب الغثيان والشلل، وفي حالات نادرة، تتفاقم الأعراض.
ويشتري اسكندر وعائلته الفسيخ والرنجة ويأكلونها في عيد الفصح، وفي بعض أيام الصيام عند الأقباط، التي يمتنعوا فيها عن المنتجات الحيوانية. وتهوى زوجة إسكندر الفسيخ لشدة ملوحته التي تعطل حاسة التذوق. لكن اسكندر لا يحب رائحته الكريهة التي لا تزول من المنزل لأيام، ولا ألم المعدة الذي يصيبه بعد تناوله في بعض الأحيان.
ورغم ما يسببه تناول الفسيخ من مشاكل، إلا أن اسكندر، كحال الكثيرين من المصريين، لا يحلو له الاحتفال بهذه اللحظات الخاصة من دون الفسيخ.
ولهذا السبب، مهما تغيرت أذواق الناس مع تعاقب الأزمان، فإن شاهين لا يشعر بالقلق حيال مستقبل السمك المملح على المدى الطويل، وإن كانت الظروف الاقتصادية القاسية التي تعاني منها البلاد في الآونة الأخيرة قد أضعفت من إقبال المصريين من جميع الفئات على شرائه.
فلا يزال الاقتصاد المصري غير مستقر منذ اندلاع الثورة في عام 2011، ثم تلقى ضربة قاسمة بعد قرار تعويم الجنيه المصري الذي أصدرته الحكومة المصرية في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2016 تمهيدا للحصول على قرض صندوق النقد الدولي، ومن ثم ارتفعت الأسعار بلا مقدمات ارتفاعا عشوائيا.
وقال شاهين إن من اعتاد سابقا أن يشتري ثلاثة كيلوغرامات من الفسيخ، ما يعادل نحو كيلوغرام واحد من السمك، أصبح يشتري الآن كيلوغراما أو اثنين فقط من الفسيخ. وقد باع في يناير/ كانون الثاني الماضي، كيلو الفسيخ بسعر 120 جنيها مصريا، والرنجة بسعر 50 جنيها، وقد تضاعف سعر الفسيخ تقريبا منذ سبعة أعوام مضت.
واتجهت شريحة أقل من زبائن شاهين إلى تحضير الفسيخ في المنزل، مثل أحمد (الذي رفض ذكر اسم العائلة)، الذي يقول إن زوجه بدأت منذ ثلاثة أعوام في تخليل الفسيخ في المنزل، بعد أن شاهدت الطريقة في أحد برامج الطهي وبحثت في الإنترنت عن بعض النصائح.
ويقول أحمد مفسرا: "تحضير الفسيخ يحتاج صبرا"، إذ يُنقع السمك في الماء المالح لما يزيد على شهر ويقلب مرة كل أسبوع، ولكن أحمد يشدد على أن "الطعام المعد في المنزل هو الأفضل".
وفي اليوم الذي ذهبت فيه إلى شاهين، التقيت حامد شاهين عطية، الذي جاء إلى المحل مدفوعا بحنين أصدقائه إلى مذاق طعام الوطن الذي لا يفتر مهما طال الزمن. وكان عطية يخطط للسفر في المساء إلى الكويت لزيارة أصدقائه المصريين الذين يعملون في الكويت، وطلبوا منه أن يحضر لهم الفسيخ من شاهين كهدية مميزة.
وحين سألته إن كان يخشى أن يفسد السمك في الرحلة، قاطعنا عامل الحسابات قائلا: "أخبرهم أن يضعوه في ثلج على الطائرة!"
هز عطية كتفيه غير مبال، فالفسيخ منيع، يمكنه التغلب على جميع الصعوبات.