مامعنى الارتجال؟
الارتجال هو الملكة الذاتية للشخص المرتجل من خلال امتلاكه لمفردات الحوار الذاتي والغير المتفق على لفظه من خلال الاعتماد على حوار لنصوص مؤلفة وجاهزة للحفظ، انما هو لفظ مباشر لفكرة ما ومن غير تدوين لحوار متفق عليه في نص مؤلف وجاهز للحفظ. كان العرب يستعملون الارتجال في الرثاء والمديح والهجاء فيما بين القبائل وزعمائها، وفي تقوية عزائم وحماس افراد قبائلهم في المعارك، ومدح امرائهم.لم يقتصر الارتجال على اللغة والكلام، انما هناك ارتجال في الموسيقى، اي مانسميه بمصطلح (السماعي) اي من دون الاعتماد على النوته الموسيقية في العزف، وانما كان العازف يرتجل العزف على الته ارتجالا حينما كان يحاول مداعبة اوتار الته او النفخ بها، وتحرير المقامات والانتقال فيما بينها ارتجالا ومن دون وجود نوتة موسيقية يترجم من خلالها مقطوعته الموسيقية (اي من دون معرفته ماسيعزف معتمدا على ملكته وثقافته الموسيقية)ومن دون وجود نشازات في الانتقالات.
اما في المسرح فكان يعتمد الارتجال على خلفية الممثل اللغوية، وعلى سرعة بديهيته في الارتجال وتركيب المعاني والافكار بصيغة تجعله يصل الى الفكرة المراد توصيلها الى المتلقي، مع مراعات عدم الخروج في الارتجال عن محيط الفكرة الاساسية والمتفق مسبقا على تجسيدها وتوصيلها للمتلقي ومن خلال تبادل الحوارات المرتجلة مابين شخوص الحدث او المشهد، والى ان ياتي الممثلين على نهاية العرض المسرحي بنهاية متفق عليها مسبقا ومن دون الاعتماد على نص مدون فيه الحورات والديلوجات من قبل المؤلف.
بدأ ظهور الارتجال في القرن السادس عشر، وانتشر في عموم ايطاليا، انما جذور هذه الظاهرة تعود الى الاول ماقبل الميلاد، حينما كان التركيز على الممثل في الاداء للعروض المسرحية المرتجلة ولاسيما في العروض الكوميدية حينما كانوا يقدمون مشاهد من العروض ذات فكرة مرتبطة بافكار المشاهد اللاحقة، والمرتبطة جميعها بخط رئيسي يعتمد على تجسيد الفكرة التي يراد عرضها ارتجاليا ومن دون الاعتماد على نص مدون فيه الحوارات لاي عرض مسرحي، وانما هو فن مسرحي يعتمد على استحداث سيناريوهات يتفق على فكرتها مسبقا خاليا من الحوار معتمدين في ذالك على قابلية الممثل في الخلق والابتكار في مثل هذا العرض المسرحي مشاركا في هذا الارتجال بقية الممثلين الذين ايضا يعملون على الارتجال معتمدين كل منهم على ملكته اللغوية وبموجب متطلبات الدور في المشهد، ومثل هذا النوع من الفن المسرحي فيه شيئا من صعوبة الاداء لخلق حوار ارتجال واني في الوقت نفسه والمناسب لتجسيد الفكرة والذي يتماشى مع الخط العام للفكرة الرئيسية للعرض المسرحي.
ان ما يضع الممثل في حيرة وارباك في ارتجال الحوار المناسب، هو عندما يخرج عن الخط العام لمسار تجسيد الفكرة ولا سيما في مسرح المونودراما، حيث نلاحظ ان الممثل في بعض الاحيان يظطر للخروج عن مسار فكرة الطرح لاقحام الجمهور في لعبة الارتجال ومن خلال طرح صور ينتقيها الممثل المرتجل من واقع حياة المتلقي البائسة ووليدة لحظتها، مما يضعه هذا الاقحام، في مازق الرجوع الى ماحيث وصل اليه لمتابعة الاحداث التي توصله الى تنفيذ وتجسيد الفكرة الرئيسية.
وهناك طرح اخر في الارتجال الثنائي، والذي يعتمد على الاخذ والعطاء والاستلام والتسليم، ولا سيما في الشعر والقصيدة مابين اثنين متحاورين بابيات من الشعر، او متطارحين في دايلوجات كوميدية، ان كان شعري او نثري، حينما يباشرون بهذه المطارحات التنافسية مابين الحضور من الجمهور المستمع والمتفرج لهذه المطارحات والى ان ياتي احدهم على الاعجاز في المواصلة في الارتجال، ليأخذ الثاني بمبادرة التواصل لهذا الارتجال وينهيه بنهاية يكون فيها قد اجهز على تجسيد الفكرة من هذا الطرح الارتجالي ليفوز على صاحبه في تكملة التواصل ووصوله الى النهاية المطلوبة في هذه المطاردة الشعرية المرتجلة.
وانا اتذكر في حياتنا الدراسية، كنا نتفق على سيناريو ومشاهد متعددة، وكل مشهد نحاول تجسيده من خلال حوار مرتجل، ومن ثم الدخول على المشهد اللاحق مع ذكر اسماء الاكسسوارات لفظيا، ورسم حركات فعل بدلالات رمزية كفتح الباب او النوافذ والتي يتم من خلالها تصوير الفعل مع الارتجال بحوار مرتجل، وجودة هذا الحوار يعود الى ثقافة الممثل اللغوية في الارتجال.
بداية حركة الارتجال في ايطاليا، اي في عصر النهضة سنة 1550 م، اخذ العاملون في المسرح (من ممثلين وواضعي السيناريوهات للمشاهد الصامتة اضافة الى المخرجين) بالاعتماد على الارتجال الذاتي والذي كان يتماشى مع الخط الدرامي والمتنامي مع الاحداث المصاحبة للحوار المرتجل، حيث بدأت حركة المسرح المرتجل من قبل الممثلين الذين لم يلمسوا الحداثة والتغيير في اساليب كتاب الدراما انذاك، اضافة انهم لم يلمسوا طرح اي افكار جديدة ذات مواضيع تهم معالجة قضايا الانسان والمجتمع عند هؤلاء الكتاب، فاخذوا بالاعتماد على انفسهم بتناول المواضيع المختارة والتي تعالج احداث الساعة بطرح كوميدي او ماساوي او يجمع مابين الاثنين.
ان مثل هذا الطرح الارتجالي كان يتدرب عليه ستانسلافسكي في مختبره المسرحي، مع ممثليه في مشاهد ارتجالية الحوار، غايته من هذا الاعتماد هو تنمية القدرة الخيالية واللغوية، وخلق من جراء هذه التمارين سرعة بديهية عند الممثل، لتكون لديه تجربة ذاتية مختزنة، يسترجعها الممثل في اعماله المسرحية المستقبلية فيما اذا دعت الحالة الى استرجاع مثل هذه التجربة باحاسيسها واسلوب طرحها للاستفادة منها في بعض المسرحيات المشابهة لمثل هذا الطرح.
هل في المسرح العراقي نموذجا للممثل المرتجل؟
نعم، كان هناك نموذجا في المسرح العراقي وكثيرة عن طريق فرق مسرحية مشهورة، كانت تنتهج هذا المنهج في الارتجال في بعض المواقف والمشاهد والتي كانت تستدعي لطرح فكرة لها مساس حيوي في حياة المتلقي، مما يستدعي بعض الممثلين بالخروج عن سياق احداث العرض المسرحي بحوارات مرتجلة ذاتية لها مساس بواقع طرح الفكرة الرئيسية لمثل هذه العروض، نالت استحسان واعجاب الجمهور المتلقي لمثل هذا الارتجال سيما في العروض الكوميدية الساخرة لبعض الفرق المسرحية في العراق:
- (فرقة 14 تموز للتمثيل،
- الفرقة القومية للتمثيل،
- فرقة المسرح الفني الحديث)
كان المشهور من الممثلين لمثل هذا الارتجال كل من الاستاذ الفنان المرحوم وجيه غبد الغني، والفنان يوسف العاني، والفنان قاسم صبحي، والفنان قاسم الملاك، والفنان المرحوم خليل الرفاعي) وغيرهم من ممثلي المسرح الكوميدي، والذي يظطر كل منهم بالخروج عن الحوار المكتوب واستبداله بحوار مرتجل ومن ثم العودة الى حواره المكتوب لتكملة عرض المسرحية، كان الاستاذ الفنان وجيه عبد الغني يفاجئنا في كل يوم عرض للمسرحية بحوار مرتجل يساعد على تصاعد الفرجة الكوميدية للعرض المسرحي عند الجمهور، وكذا كان الحال مع الفنانين العرب من امثال الفنان عادل الامام والفنان المرحوم سعيد صالح واحمد بدير ومحمد صبحي، ولا سيما بالذات الفنان عادل الامام، حينما كان يرتجل حواراته خارجا عن النص الاصلي ليفاجىء زملائه من الفنانين بهذا الارتجال ويدعهم في مطب محرج لا يستطيعون مجارات ارتجاله الا بصعوبة، وخاصة بالعودة الى تكملة العرض المسرحي والشروع على تكملة ومواصلة هذا البناء المسرحي للوصول الى نهاية الفكرة الرئيسية.
ان تاريخ الارتجال كان قد بدأ في عصور قديمة يوم كانت الفرق المسرحية ومن خلال افراد يقدمون عروضا كوميدية غير خاضعة لنصوص مكتوبة او محفوظة، كانوا في وقتها لا يعتمدون على قيود حفظ النص ولا الاعتماد على حركة مسرحية يتفق عليها مسبقا، لان في الارتجال لا يمكن الاعتماد على تثبيت حركة ما على المسرح ومن دون حوار مسبق، ولهذا تبقى مهمة الحركة من رؤية وثقافة الممثل المرتجل، ورؤيته الفنية في تحريك شخصيته وفق حركة متلائمة يتحاشى من خلالها الحجب المسرحي وفيها شيئا من جمالية التعبير والرؤية الواضحة ومتفقة مع الحوار المرتجل والذي ياتي متطابقا مع الطرح شكلا ومضمونا على المسرح.