لبست كمامة وخوذة ونظارة واقية فوق نظراتي الطبية حتى أصبحت مثل رجل آلي، في حفلة تنكرية، وتسللت خلسة من بعض معارفي في ساحة التحرير، وحشرت نفسي بين حشود المتظاهرين باتجاه المطعم التركي، لا لأنني أريد أن أتخذ موطئ قدم هناك، ولا لكي التقط بعض الصور للذكرى، بل لأتأكد من حقيقة ما ادعاه شخص أكن له حباً خاصاً وتقديراً منقطعاً لأسباب عديدة، وهو موضع ثقة لجميع من يعرفه، إنه تحدث بلغة العارف الحصيف، وبكل ثقة، ولو كان كلامه من باب (يقال) لهان الأمر، لقد أدلى بمعلومة غاية في الخطورة، على طريقة القادة الأمنيين، أو كبار رجال المخابرات، الأمر الذي دعاني للتأكد بنفسي، أنا الآخر تماهيت مع خطورة المهمة التي قدمت من أجلها، فرحت أتصرف كما لو أنني عميل سري للمخابرات المركزية الأميركية، وربما تقمصت دور (جيمس بوند)، إلى هذه اللحظة هو في نظري رجل صادق، لم يعرف عنه كذب ولا تدليس، ربما سمع المعلومة من أحدهم، لكن من أين جاء بكل هذه الثقة لتصديقها؟!
ربما قال الطابق الثامن أو العاشر، سأقضي نهاري متجولاً زوايا المطعم التركي، متنكراً، متلصصاً، مشمشماً، فالمعلومة تقلب موازين الأمور رأساً على عقب، فقد صرح صاحبنا بأن المتظاهرين يتخذون من أحد طوابق المطعم مخزناً للسلاح والذخيرة، حقيقة أنا متردد من ذكر هكذا إشاعة مغرضة، فتسريبها يؤدي إلى نتائج وخيمة، أقل ما يقال فيها إنها تحريض على قتل المتظاهرين، فلو صدقت - لا سمح الله- لانتفت قيمة التظاهرات وتهشمت صورتها السلمية وأصبحت تمرداً وعصياناً مسلحاً، لم تنتهِ مهمتي بسهولة، واجهت صعوبات جمة، على مدى يومين، لأتأكد بنفسي، من أن الشباب هناك استلموا ما يكفيهم من بطانيات لتدفئة أجسادهم الطرية لمواجهة موجة البرد المتوقعة.
أؤكد وبكل ثقة بأن المطعم التركي منطقة منزوعة السلاح، لا يوجد أي صنف من الأسلحة أو الأعتدة ولا حتى شفرة حلاقة، فاتقوا الله بأبناء وطنكم، يا من تجتهدون بتحويل الإشاعات إلى حقائق دامغة، بقصد أو دون قصد، وتتحولون إلى محرضين ومشعلي حرائق دون إدراك، العراق سينهض عاجلاً أم آجلاً، سيكون أكثر استقراراً واستقلالاً وحرية وديمقراطية وعدالة اجتماعية وتحضراً، شاء أعداؤه أم أبوا، وهذه التظاهرات واحدة من ثمار التحرر من عبودية الأنظمة الشمولية والاستبداد والطغيان، بل هي النقطة الفاصلة بين حلم المصابين بداء العبودية بعودة الزمن للوراء، وتطلعات أجيال المستقبل نحو الحرية.
في مثل ظروفنا العصيبة هذه، بعد أن تجاوزنا تحديات الإرهاب والفتن الطائفية، نحتاج إلى الحكمة تفكيراً وقولاً وسلوكاً، وأرى أن هذه التظاهرات من صالح الجميع، بمن فيهم الطبقة السياسية التي يعاني بعض الوطنيين فيها من الفساد والمحاصصة والتبعية وسوء الأداء وفقدان العدالة الاجتماعية، فلنتعامل معها بحسن النوايا، لا بنشر الإشاعات التي تنطلي على من لم يكلف نفسه عناء التفكير المنطقي بما يسمعه.