منذ أن أعلن رئيس الوزراء اللبناني، سعد الحريري، يوم السبت الماضي، عن استقالته من منصبه، من العاصمة السعودية الرياض، أمام كاميرا تلفزيون "العربية" السعودي وحده، ومن دون دعوة وسائل إعلام إلى مؤتمر صحفي، كما جرت العادة وكما هو متبع في مثل هذه الحالات، لم يعد الحريري إلى الظهور. مرّت خمسة أيام منذئذ، دون أن يظهر، وبدأ القلق يساور اللبنانيين حول مصير رئيس حكومتهم.
الاستثناء الحاصل في هذه الموضوع، موضوع اختفاء الحريري بعد استقالته من الرياض، هو أن وسائل إعلام "مملوكة للسعودية"، حسب وكالة رويترز، (وكذلك تلفزيون "المستقبل" المملوك للحريري) أفادت بأن الحريري توجه يوم أمس، الثلاثاء، إلى أبو ظبي للقاء أميرها، ثم عاد إلى الرياض، وليس إلى بيروت.
والأمر الثاني، وفقا لوكالة "وفا" الفلسطينية، هو أن الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، الذي زار السعودية، أجرى اتصالا مع الحريري وبحث معه شؤونا لبنانية وفلسطينية. أية "شؤون" كهذه يمكن لعباس أن يبحثها مع الحريري في حالته هذه، وقد ترددت مخاوف وتساؤلات ساخرة في الشارع الفلسطيني، قبل الزيارة، حول ما إذا سيعلن عباس أيضا عن استقالة مفاجئة من الرياض وبطلب (أي أمرٍ) منها.
فقد أجمعت كافة الأنباء والتحليلات، من خارج السعودية، على أن السعودية، وولي العهد محمد بن سلمان على وجه الخصوص، أمر سعد الحريري بالاستقالة. في هذا السياق، قالت صحيفة "نيويورك تايمز" إن "الحريري الذي لم يظهر أي علامة عن نيّته الاستقالة أو أنه يحضر لها، سافر إلى السعودية وأعلن استقالته من الرياض، وصدم مستشاريه المقربين". وتساءلت الصحيفة الأميركية: "أين هو سعد الحريري؟ لبنان يريد أن يعرف... ماذا حصل في الأيام الأخيرة؟".
وتابعت الصحيفة أن "لا أحد يعرف متى وإذا كان سيعود"، مشيرة إلى أنه "بعد ساعات من إعلان الحريري استقالته، أوقف ولي العهد الأمير محمد بن سلمان 500 شخص، بتهم الفساد بينهم 11 أميرا، و الحريري يملك جنسيتين ولديه مصالح وأعمال في الخليج".
وأحد الأسئلة المطروحة هو ما إذا كان الحريري قد استقال فقط أم أنه محتجز في فندق ريتز كارلتون الرياض، حيث يجري احتجاز الأمراء والوزراء، ويفترشون الأرض هناك؟ ونقلت الصحيفة الأميركية عن مدير تحرير في مركز "كارنيغي" للشرق الأوسط في بيروت، مايكل يونغ، قوله إنه "في الوقت الذي لا أعتقد أن الحريري رهينة بشكل فعلي، فإن إقامته الغريبة في المملكة العربية السعودية شكلت مظهرا ماديا جديدا لما يعتقد الجميع في لبنان أنه صحيح، وهو أن قوة الحريري تأتي من حقيقة أنه رجل السعودية"، مضيفا أن "هامش المناورة ضد السعوديين محدود جدا، إنه رهينة في كل الأوقات".
وذكرت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) أن اللبنانيين يتساءلون عن مصير سعد الحريري، بعد أن تحدث الإعلام اللبناني عن أن السلطات السعودية أجبرته على الاستقالة. ووصف بعض اللبنانيين الحريري بـ"الرهينة"، فيما استغرب آخرون عدم قيامه بعقد أي مؤتمر صحفي. ولم يصدق لبنانيون على "فيسبوك" و"تويتر" أن الحريري حر طليق بعد أن زار أبو ظبي، واعتزامه زيارة البحرين، ويقولون إنه "فقط يتنقل من قصر إلى قصر في الخليج".
وفي بيروت، كتب صاحب إحدى المحال التجارية على بالونات باللغة الإنجليزية، "أين سعد؟" وأطلقها في سماء العاصمة اللبنانية.
وكتبت ميشيل تويني في صحيفة "النهار" اللبنانية أن "مجرد السؤال أين الرئيس سعد الحريري أمر مرفوض وغريب، إذ كيف يمكن لشعب أن يتساءل لأيام أين رئيس حكومته؟ وأكثر من ذلك، يسأل عن مصيره ومستقبله. ننتظر خبرا أو تغريدة أو صورة لنستجلي غوامض استقالة...".
وتحدثت تقارير إعلامية لبنانية عن أن ملك السعودية سلمان بن عبد العزيز نصب فخا للحريري، عندما استدعاه إلى الرياض بشكل عاجل، وكان ذلك يوم الجمعة الماضي، عشية يوم الاستقالة. وغادر الحريري بيروت على عجل، من دون مستشارين أو مرافقين، لكن رافقه الحرس الشخصي فقط. وعندما وصل إلى الرياض يوم السبت، تم الفصل بينه وبين مرافقيه، وإدخاله إلى غرفة تواجدت فيها كاميرا، وقال له أفراد الأمن السعودي: إذهب إلى هذه الغرفة، هناك يوجد نص، تدرب على قراءته ثم اقرأه أمام الكاميرا.. كان هذا إعلان استقالته.
وكان حساب "مجتهد" السعودي الشهير عبر "تويتر" قال إن "السبب الحقيقي لإعادته (الحريري) للرياض هو حشره مع الأمراء ورجال الأعمال الموقوفين (في ريتز كارلتون)، لهدف ابتزازه واستعادة الأموال التي لديه في الخارج، وليس مرتبطًا بلبنان" كونه يحمل الجنسية السعودية.
ورجح المركز في مقدمة تقريره أن "استقالة الحريري جاءت بقرار سعودي، وجاءت في سياق صراع القوى بين السعودية وإيران وعلى أثر إنجازات إيران في سورية والعراق، التي منحت إيران تفوقًا ملحوظًا في أكثر من دولة في الشرق الأوسط، ومن غير الواضح ما إذا كان هذا القرار جزءًا من إستراتيجية وضعتها القيادة السعودية، والتي تشمل إدراك الخطوات القادمة التي على المملكة اتخاذها لوقف التوسع الإيراني في المنطقة".
وأشار المركز إلى أن الاستقالة فاجأت كل الأطراف الفاعلة في لبنان، باستثناء السعودية، وهذا يقوي الانطباع حول ملاءمة التوقيت مع الحلفاء السعوديين للحريري، خاصة بعد لقائه بولي العهد، محمد بن سلمان، ومسؤولين سعوديين آخرين.
وفي عام 2016، تحسنت العلاقات السعودية اللبنانية قليلًا، خاصة بعد مباركة السعودية الصفقة السياسية التي عقدت في لبنان، والتي منحت الحريري رئاسة الحكومة مقابل تولي ميشال عون رئاسة الجمهورية. ورجح المركز أن السعودية توقعت التأثير على الرئيس الجديد لفك شراكته مع حلفائه السياسيين حاليًا (حزب الله وقوى 8 آذار)، ودار الحديث في الآونة الأخيرة عن زيارة مرتقبة للملك سلمان إلى لبنان، بعد سنة لم يتواجد خلالها سفير السعودية في بيروت.
وعلاوة على ذلك، أدت التسوية السياسية التي عقدت وتحسن العلاقات مع السعودية إلى ارتفاع في عدد السياح السعوديين الوافدين إلى لبنان، إذ تضاعف عددهم هذا العام بالمقارنة مع العام الماضي.
وترى السعودية، بحسب مركز الأبحاث الإسرائيلي، حزب الله كذراع لإيران في المنطقة، هدفها زيادة النفوذ الإيراني وإثارة القلاقل في الدول العربية، ولا تراه حركة مقاومة لبنانية. ولذلك، حتى لو كان السبب الحقيقي للاستقالة مبهم، يرجح أنه نتيجة مباشرة للاستنتاج السعودي أن الصفقة السياسية التي عقدت في لبنان لم تنجح بالحد من قوة ونفوذ حزب الله، وأن الحريري، كرئيس حكومة، لم ينجح في تقويض تأثير حزب الله او إيران في لبنان، بل على العكس، بات التأثير الإيراني أكبر.
ورجح المركز كذلك أن السعودية توقعت أن تؤدي الاستقالة إلى سحب الشرعية التي أخذها حزب الله من وجوده في الحكومة اللبنانية.
وفي آذار/ مارس عام 2016، أعلن مجلس التعاون الخليجي عن حزب الله منظمة إرهابية، وكذلك منعت السعودية هبة بقيمة 4 مليار دولار كانت مخصصة للجيش اللبناني، خشية من وصلها لحزب الله، لكن قسمًا من السلاح المصنوع في فرنسا كان قد وصل لبنان بالفعل.
ورأى المركز أن هذه الخطو قد تتماهى مع الإستراتيجية الأميركية التي أعلنها الرئيس ترامب، والتي تسعى للضغط على إيران وحزب الله، وقد تكون الخطوة السعودية جزءًا منها، والتي من ضمنها كان فرض عقوبات جديدة على حزب الله. ومن الجدير بالذكر أن صهر ترامب ومستشاره، غاريد كوشنر، زار السعودية مؤخرًا وأجرى محادثات مع بن سلمان.
وفاقمت استقالة الحريري، بحسب المركز، الأزمة السياسية بلبنان وزادت التوتر بين الفرقاء، واعتبر أن الهجوم الذي شنه أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، على السعودية واتهامها بالوقوف خلف الاستقالة، يشير إلى رؤيته أن الصفقة السياسية خدمت مصالح حزب الله، وأن الفوضى السياسية التي تتلو الاستقالة ستصعب عليه تحقيق أهدافه.
وفي ختام التقرير، رجح المركز أن الضغوط التي سيتعرض لها حزب الله بعد الاستقالة لن تجبره على التراجع عن تحقيق أهدافه، وعلى رأسها تطوير قدراته العسكرية، والاحتمال أن يتحمل حزب الله المسؤولية بسبب استقالة الحريري، كما يريد السعوديون، ضعيف للغاية.
ومن المرجح أن يستغل حزب الله، بالتعاون مع الرئيس عون، الوضع الجديد في لبنان لزيادة قوته وتأثيره، ومن المحتمل أيضًا أن تقوض الاستقالة التأثير السعودي في لبنان، وأن يشكل هذا الوضع فراغًا تملؤه إيران.
واختتم المركز تقريره بالقول إنه "في نهاية المطاف، يظهر حتى الآن أن الاستقالة لم تؤثر على سياسة حزب الله اتجاه إسرائيل، وأنه سيبقى يحاول قدر الإمكان عدم الانجرار لأي مواجهة مع إسرائيل".
فرصة سانحة
ومن جانبه، قال رئيس مجلس الأمن القومي السابق، غيورا آيلاند، إن الوضع اليوم يمنح إسرائيل الفرصة للتدخل والتأثير في لبنان، ليس عسكريًا كما حدث عام 1982، إنما عن طريق حشد ائتلاف دولي للضغط على الرئيس عون وإجباره على منع التأثير الإيراني وتقويض قوة حزب الله.
وذكر آيلاند في مقال نشره في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، اليوم الثلاثاء، أن الوضع مشابه إلى حد ما بالوضع عام 2005، عندما كان يشغل منصب رئيس مجلس الأمن القومي، إذ شكل اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق ووالد رئيس الوزراء المستقيل، رفيق الحريري، فرصة لإخراج القوات السورية من لبنان.
وذكر آيلاند أنه في حينه أقيم ائتلاف دولي طالب بإخراج القوات السورية من الأراضي اللبنانية، وأن الحكومة الإسرائيلية برئاسة أريئيل شارون اعتبرت أن المبادرة الدولية هذه تتلاءم مع المصالح الإسرائيلية، "لكن، كوني رئيس مجلس الأمن القومي رأيت غير ذلك، وقلت لهم إنه بتقديري سيؤدي سحب القوات السورية إلى فراغ في لبنان ستملأه إيران، التي تشكل خطرًا على إسرائيل أكثر من النظام السوري"، وفي نهاية المطاف تمكن الائتلاف الذي قادته السعودية وفرنسا وأميركا، وحاز على دعم الأمم المتحدة، من تشكيل الضغط اللازم وإخراج القوات السورية من الأراضي اللبنانية.
وأكد آيلاند على أن الضغط يجب أن يكون على الرئيس عون، واعتبره داعمًا لسيطرة إيران على أرضه وهو الذي صرح بأن حزب الله يشكل الدرع الأمني للبنان، وأن قوله هذا يحمله مسؤولية كل أفعال حزب الله، خاصة أنه اعترف أن حزب الله يملك القوة الكافية لفرض السياسية الأمنية في لبنان.
ورأى أنه عوضًا عن محاولات إقناع بريطانيا تغيير الاتفاق النووي مع إيران، وهو ما فعله نتنياهو خلال زيارته الأخيرة للندن واعتبره آيلاند هدرًا للوقت لأنه لم ولن ينجح، يجب توجيه السهام إلى التحركات الإيرانية في لبنان وسورية.
وتابع آيلاند "يجب توجيه الجهود السياسية نحو الدفع بالمجتمع الدولي لمطالبة الرئيس والبرلمان والشعب اللبناني لاتخاذ القرار، هل هم معنيون أن يصبحوا دولة ذات سيادة أم أنهم راضون بالسيطرة الإيرانية عليهم بواسطة حزب الله؟ في حال كان الاحتمال الأول هو الإجابة، يجب ترجمة ذلك، في المرحلة الأولى على الأقل، بإلزامهم بثلاثة أمور: 1- انسحاب القوات الإيرانية، وعلى رأسها الحرس الثوري، من لبنان. 2- إلزام حزب الله بالعمل وفق توجيهات الحكومة الشرعية اللبنانية. 3- اعتراف من الحكومة اللبنانية بمسؤوليتها عن حفظ الهدوء وعدم التوتر على الحدود الإسرائيلية.
واعتبر آيلاند أن حلف شمال الأطلسي (ناتو) يشكل لاعبًا مركزيًا في حال قرر لبنان تبني الخيار الأول، كون الحكومة اللبنانية ستكون بحاجة لدعم عسكري في حال قرر حزب الله معارضة ذلك، وقال إن "الغرب تردد في العراق وسورية وذلك ما أسقط هذا الدول في يد إيران، وفي حال أرادوا منع التوسع الإيراني عليهم منع لبنان من السقوط".
وقال آيلاند إنه لا يجب على إسرائيل التدخل بشكل مباشر حتى لا تنجر إلى "الوحل اللبناني"، كما حدث في 1982، لكن يمكنها فعل أمرين مهمين، الأول هو محاولة إقناع الغرب بتبني المبادرة المطروحة، والثاني هو التأكيد على أنه "طالما يفضل الرئيس والجيش والشعب اللبناني خدمة إيران، سيكون لهذا القرار تأثير مباشر على حرب لبنان الثالثة، وانه عند قيامها لن تحارب إسرائيل حزب الله فقط، بل ستحارب الدولة اللبنانية التي تدعمه".