ي أقصى غرب اليابان، تقبع بين الجبال والبحر مدينة فوكوكا التي تحاول إعادة تشكيل ملامح مستقبلها. إذ تستعد هذه المدينة، التي تعد أسرع مدن اليابان نموا، لتصبح النسخة اليابانية من وادي السيليكون الأمريكي.
ولا يزال قطاع الشركات الناشئة في اليابان راكدا، رغم التقدم التكنولوجي المذهل الذي حققته البلاد. ولا يضم الاقتصاد الياباني إلا شركة خاصة واحدة تتجاوز قيمتها مليار دولار، مقارنة بـ 127 في الولايات المتحدة و78 في الصين.
لكن عمدة فوكوكا الشاب ذو الشخصية المؤثرة، سويشيرو تاكاشيما، يعتزم إنعاش قطاع الشركات الناشئة في اليابان، ويرى أن المدينة لديها كل المقومات التي تؤهلها لاستنتاخ تجربة وادي السيليكون، مركز الشركات التكنولوجية في الولايات المتحدة. وقرر في عام 2011، أن تصبح المدينة مركزا للشركات الناشئة. ومنذ ذلك الحين، سُجل أكبر عدد من الشركات على مستوى اليابان في مدينة فوكوكا.
وبالرغم من أن العاصمة اليابانية طوكيو لا تزال مركز الاستثمارات والكفاءات في اليابان، إلا أن قادة مدينة فوكوكا يأملون أن تجتذب مزايا المدينة، مثل توافر العمالة الشابة وانخفاض الأسعار ووجود مجتمع شركات ناشئة مترابط، الجيل الجديد من رواد الأعمال الذي يرغب في تجنب الحياة الشاقة في طوكيو.
وبعيد انتخابه عمدة للمدينة في عام 2010، زار تاكاشيما، المذيع التليفزيوني البالغ من العمر 44 عاما، مدينة سياتل واندهش من التشابه الكبير بينها وبين مسقط رأسه. ويقول تاكاشيما إن كلا المدينتين ساحليتين ومحاطتنين بالمناظر الطبيعية، وتتميزان بشبكة النقل المتطورة وتوافر الموارد البشرية.
ويضيف أن هذه المقومات في مدينة سياتل تدعم شركات عملاقة مثل "أمازون" و"مايكروسوفت"، بالإضافة إلى شبكة متكاملة من الشركات الناشئة. ويرى تاكاشيما أن فوكوكا بإمكانها استنساخ هذا النجاح وضخ دماء جديدة في شرايين الاقتصاد الياباني.
ويقول: "إن الشركات الناشئة ستغذي السوق بالقيمة والابتكارات الجديدة وتكسر الركود الاقتصادي، ولهذا وضعت دعم الشركات الناشئة في صميم استراتيجية تنمية المدينة".
وفي عام 2014، قررت الحكومة المركزية المصادقة على طلبه بتسمية فوكوكا "منطقة استراتيجية وطنية خاصة" للشركات الناشئة. وبموجب هذا القرار، أصبح بمقدور بلدية فوكوكا تخفيض الضرائب على الشركات الجديدة، وإصدار تأشيرة خاصة لرواد الأعمال الأجانب، وتخفيف القيود لتيسير أعمال تطوير قلب المدينة، وإطلاق خدمات رقمية لتسهيل عملية منح التراخيص لإجراء تجارب تكنولوجية بهدف ربط أجهزة الاستشعار والاتصالات وأجهزة الكمبيوتر بكل شيء في المدينة.
وكثف تاكاشيما حملته الدعائية للمدينة داخليا وخارجيا، وقاد وفودا تجارية ووقع صفقات تعاون مع مراكز الشركات الناشئة في العالم مثل مدينة سان فرانيسيكو والعاصمة التايوانية تايبيه والعاصمة الفنلندية هلسنكي، لتقديم الدعم والتوجيه للشركات الناشئة في فوكوكا التي ترمي إلى إقامة فروع لها في الخارج والشركات الناشئة التي ترغب في إنشاء فروع لها في اليابان.
وأقامت الحكومة مركز "فوكوكا غروث نكست" في منطقة التجارة والأعمال بقلب مدينة فوكوكا لتقديم جميع خدمات واحتياجات رواد الأعمال المبتدئين ودعمهم. ويتيح المركز لرواد الأعمال الكثير من التسهيلات، منها تخفيض أسعار الوحدات الإدارية وتقديم استشارات قانونية وتجارية ومحاسبية مجانية في مقهى الشركات الناشئة.
كما يوجد معمل لمساعدة رواد الأعمال في إجراء تجارب على النماذج الأولية من الأجهزة ومركز لمساعدة رواد الأعمال الأجانب في تأسيس شركات في فوكوكا أو رواد الأعمال المحليين للتوسع خارجها، وحانة لتسهيل التواصل بين أصحاب الشركات. ويعقد المركز بانتظام محاضرات وحلقات نقاش لربط الشركات الناشئة بالعملاء والمستثمرين.
صحيح أن الطريق لا يزال طويلا أمام الشركات الناشئة في المدينة لتصل قيمتها إلى المليار دولار، لكن هناك الكثير من البوادر التي تدل على أن جهود الحكومة آتت ثمارها. إذ جمعت المدينة من المستأجرين حتى سبتمبر/أيلول 2018، 7.1 مليار ين، في حين أن المبلغ المستهدف في البداية كان 500 مليون ين فقط.
وهناك بعض العوامل التي ترجح كفة مدينة فوكوكا على كفة سائر مدن اليابان، ففي الوقت الذي أصبح فيه ارتفاع نسبة المسنين وتراجع القوة العاملة يقض مضجع الساسة والاقتصاديين، فإن فوكوكا هي المدينة الأسرع نموا في البلاد، ولديها أعلى نسبة شباب على مستوى اليابان، ولا تتعدى أسعار الإيجارات في فوكوكا نحو 60 في المئة من أسعارها في طوكيو، فضلا عن أن المدينة أقرب إلى مدينة سيول وشنغهاي مقارنة بطوكيو، ولهذا تعد بوابة اليابان إلى آسيا.
وهذه العوامل هي التي دفعت ياسوهيرو آيد لنقل مقر شركته في مجال التجارة الإلكترونية "نيو ويرلد" من طوكيو إلى مسقط رأسه فوكوكا، لأنه رأى أن التوسع في الصين سيكون أسهل إذا كان مقره في فوكوكا.
ويقول هاشيموتو ماسانوري، رئيس مجلس إدارة شركة "نولاب" للبرمجيات، إن مجتمع رواد الأعمال في المدينة مترابط ومتنوع بسبب صغر مساحة المدينة، ولهذا من السهل بناء شبكة علاقات وتكوين فرق عمل.
وتسلط بلدية فوكوكا الضوء أيضا، في حملتها الترويجية للمدينة، على ملاءمة المدينة للعيش، وسهولة التنقل في طرقها وقصر المسافات، علاوة على وفرة المناظر الطبيعية وقربها من الشواطئ الخلابة والجبال. ويقول تاناكا: "إن فوكوكا هي المقصد المثالي لمن يريد الحفاظ على التوازن بين الحياة العملية والحياة الأسرية".
وهذا ما جذب رائدي الأعمال ياسمين جودي وتوماس بوبلين الفرنسيين للاستقرار في المدينة. إذ حضر الاثنان إلى المدينة في إطار برنامج دراسي لتبادل الطلاب، وعندما قررا تأسيس شركتهما الناشئة "إيكاي"، وهي منصة عبر الإنترنت لمساعدة الطلاب على العثور على عمل قصير الأجل، فضلا تأسيسها في فوكوكا بدلا من طوكيو.
وتقول جودي إن انخفاض الأسعار في المدينة من المزايا الرائعة التي يحتاجها رواد الأعمال عند بداية تأسيس شركاتهم، وأدركنا أن معدل الإنفاق في فوكوكا أقل بمراحل منه في طوكيو. ولو كنا أسسنا الشركة في طوكيو لما كنا حققنا نصف ما حققناه هنا.
وكانت جودي وبوبلين من أوائل الحاصلين على تأشيرة مؤسسي شركات ناشئة بفوكوكا. ويقول بوبلين إن الحواجز اللغوية والضوابط الصارمة لا تزال تعيق محاولات الأجانب للاندماج في المجتمع، لكن فوكوكا هي أفضل مدن اليابان في تسهيل جميع الأمور لمؤسسي الشركات الأجانب.
وقد لفت نجاح المدينة كمركز للشركات الناشئة أنظار الصحف المحلية والأحنبية، رغم أن المدينة لا تزال تفتقر إلى الكفاءات والاستثمارات. ويقول بوبلين إن فرص الحصول على تمويل من الصناديق الاستثمارية في فوكوكا محدودة، ولهذا عندما تنمو الشركة الناشئة تنقل مقرها إلى العاصمة بحثا عن استثمارات وعملاء.
وتعد شركة "سكايديسك" التي تستعين بالذكاء الاصطناعي لمساعدة العملاء في زيادة الإنتاجية، واحدة من أبرز الشركات الناشئة في فوكاكا وتنبأت لها إحدى الصحف المالية بأن تصل قيمتها لمليار دولار. ويشيد يوشيهيكو سويناجا، المدير الاستراتيجي للشركة في الخارج، بجهود حكومة المدينة ويقول: "استأجرنا المقر بمبلغ زهيد، وأتاح لنا مركز دعم رواد الأعمال بالمدينة فرصا عديدة، والتقينا أحد شركائنا وكبار عملائنا في أحد الملتقيات التي نظمها المركز".
وتزاول الشركة أنشطتها من فرعيها في فوكوكا وطوكيو، حيث توجد مقار أغلب عملائها. ولا تزال طوكيو تجتذب رواد الأعمال بسبب وفرة الكفاءات. وبينما قد تجد في فوكوكا بعض المطورين المهرة، فإن أصحاب المهارات التقنية المتطورة يتركزون في العاصمة طوكيو. ويقول سويناجا: "من الصعب أن تجد مهندسين متخصصين في الذكاء الاصطناعي خارج طوكيو".
وأقامت حكومة فوكوكا حملات وملتقيات في طوكيو لاستقطاب أصحاب الكفاءات. ويقول سويناجا إن أمهر الكفاءات في فوكوكا أيضا قد يجدون صعوبة في مقاومة إغراءات الانتقال للعاصمة طوكيو، كما هو حال حديثي التخرج في سائر مدن اليابان.
ويرى شون ناغاو، مدير فرع "وايت ستار كابيتال" للتمويل في طوكيو، إن فوكوكا لا تزال تعد بيئة غير ناضجة للشركات الناشئة، مقارنة بمدينة كيوتو، التي اشتهرت بأنها مركز للشركات الناشئة في مجال أجهزة الكمبيوتر، بعد أن أقامت شبكة من الشركات التكنولوجية حول جامعة كيوتو المرموقة.
ويرى أن مدينة فوكوكا قد تجتذب الكفاءات من الخارج نظرا لقربها من آسيا، لكنها لن تتمكن من استقطاب الاستثمارات إلا إذا حققت بعض الشركات الناشئة في المدينة نجاحا ملفتا يشجع المستثمرين على ضخ أموالهم في المدينة.
ويقول ناوكاتسو ماتونو، مدير إدارة الشركات الناشئة بالمدينة، إن هدف الحكومة الحالي هو إقامة 100 شركة ناشئة قيمتها مليار ين في السنوات الخمس القادمة، ومساندة إحدى الشركات لتصل قيمتها إلى مليار دولار.
ولا تزال حكومة المدينة تبذل جهودا حثيثة لتطوير قطاع الشركات الناشئة بالمدينة، منها التخطيط لبناء مدينة ذكية جديدة، تعتمد على تقنيات متطورة، مثل تقنية "إنترنت الأشياء"- أي ربط كل شيء بالإنترنت - وتحليل البيانات لربط وسائل النقل والمرافق والدوائر الحكومية بالإنترنت وتقديم خدمات رقمية أكثر تطورا.
وتعتزم الحكومة الدخول في شراكة مع مجموعة من الشركات التكنولوجية لتوفير البيئة المواتية لاختبار التقنيات المتطورة، مثل شبكات الجيل الخامس من الإنترنت، والمركبات ذاتية القيادة، والطب عن بعد. ويقول ماتونو إن الحكومة تهدف من وراء ذلك إلى تشجيع إقامة شركات ناشئة جديدة، وإثبات كفاءة التقنيات والأجهزة التكنولوجية الجديدة لحل بعض المشكلات الملحة التي تواجه اليابان.
قد يستغرق استقطاب الكفاءات والخبرة والتمويل اللازمين لدعم هذا النوع من "المختبر الحي"، على حد قول عمدة فوكوكا، وقتا طويلا، لكن المقومات الفريدة التي تتمتع بها المدينة، بدءا من إقبال حكومتها على المجازفة وخوض المخاطر ودعمها المتواصل لبيئة رواد الأعمال ووصولا إلى جودة الحياة، تؤهلها لتصبح وجهة مناسبة لكل من يرغب في بناء مستقبل جيد.