قراءة الاديب والناقد: عقيل هاشم
"اعتراف أول"
"هذه الورقة ستثير حفيظة البعض مثلما ستشبع فضول البعض الأخر ، أو تثير بعض التحفظات. تبقى تحت طائلة"صواب يحتمل خطا أو خطا يحتمل صوابا" ستدفعبقوة لمزيد من المقاربات والاضاءات والبحث لإشباع نهمنا المعرفي والوجداني الذي يسعى الى الجمال والكمال والنزوع نحو الخلود من خلال النص وسيلتنا الوحيدة ضد التحلل والاختفاء قبل أن نصبح لأمرئيين كما يقول "ماركيز" ويغيبنا الموت ،عزاؤنا الوحيد بالكتابة والنصوص تبقى حاضرة بقوة طالما هناك إنسان على وجه الخليقة.."
"اعتراف ثان":
هذه الورقة الاستشرافية المبسطة تستهدف القراء الشغوفين بالق القصة القصيرة جدا كجنس أدبي ظهر نتيجة تحولات العصر عصر سمته السرعة الفائقة.
ومن غير المعقول ان نبدأ من البداية، بل سنبدأ من حيث ماوصل إليه الآخرون لان الزمن لايسعفنا للحاق بكل التفاصيل في عالم تمدد ابعد من الثقوب السوداء وانطوى في شريحة لاتراها العين المجردة. إننا بحاجة إلى حكاية وقصة أخرى تتلائم وهذه التحولات التي فاقت سرعة الضوء.
إن الكائن البشري يبقى محكوما بسلطة ألحكي والقص للتعبير عن ذاته وعن الأشياء الأخرى من حوله وصبها في نصوص سردية بأدوات المعرفة وصنوف الإبداع المتنوعة ولاتقل أهمية عنده عن رغيف الخبز اليومي (كل الخبز ياانكيدو.. بهجة الحياة)هذا ماقاله "كلكامش"لصديقه"انكيدو".
"اضاءات":
"إضاءة أولى":
يتصدى كتاب "الق الحكاية"للكاتب (عباس داخل حسن) إصدار دار سطور للنشر 2015 لرسم الإطار العام للنثر القصصي (القصة القصيرة) وما آل إليه التطور السردي من تعدد أشكال النثر القصصي ونضوجها واستواء الكتابة فيها، وتلا ذلك توصيف للمشهد القصصي تمثيلاً لتباين الممارسة وأساليبها السردية. بالإضافة الى كشف بسيط الى التحليل الموجز للكتابة القصصية الجديدة التي استحوذت على الإبداع القصصي خلال نصف القرن الأخير.
فما تزال القصة القصيرة هي الأكثر إنتاجاً وتنوعاً وغنى، بل إن نظرة عجلى إلى ثبت المنشور منها في مجموعات أو دوريات يشير إلى ذلك الكم الهائل بالنسبة إلى الأجناس الأدبية الأخرى، هذا الانحياز الى القصة قابله أيضا من غادروا بدرجات متفاوتة إلى أجناس أخرى، ولا سيما الرواية، فإن القصة القصيرة الجديدة تستأثر باهتمام الكتاب الجدد، وتثير حماستهم في الإبداع، ولا تنقل في هذا المجال إلا هوى كتابة القصة القصيرة، نظراً لطبيعتها اللاهثة المتوترة.. تجربة (بثينة الناصري مجموعتها "حدوة حصان"1974. القاص خالد حبيب الراوي خمس قصص قصيرة جدا في مجموعته القصصية 1975. ونشر القاص والروائي "عبد الرحمن مجيد الربيعي"القطار الليلي وهناك تجارب أخرى "احمد خلف وابراهيم احمد“ وكذلك تجربة "هيثم بهنام بردى"وكذلك القاص والتشكيلي "حمدي مخلف"وكذلك نصوص "إبراهيم سبتي".. الخ من الأسماء المهمة والتي غابت عن ذاكرة المؤلف ربما لبعده عن المشهد العراقي فترة خروجه من العراق الى الغربة وهذا يعتبر قصور في هذه القراءة لما تحمله تجارب هؤلاء من خلخلة في البناء الشكلي والموضوعاتي الجديد.
أيضا ذكر الكاتب أسماء عربية وأجنبية كان لها اليد الطولى للتعريف بأسماء من الأعلام في القص واختار عدداً من الأسماء الذين تميزوا بإبداعهم لهذا الفن على سبيل المثال "ليديا ديفيس" ومن أمريكا اللاتينية "مودليانو" أو العرب "زكريا تامر"من سوريا و"حسن برطال"من المغرب ..الخ.
أيضا كان للمؤلف أن يجعل مسح شامل للقصاصين العرب من الأسماء المهمة والتي ساهمت في الانعطافة من التقليد إلى الحداثة وما بعدها مثل النظر في السخرية مظهراً من مظاهر الحداثة عند عدد من القصاصين وتحليل السرد الاستعاري مثالاً لتقانات القصة الجديدة والإنسانية والمباشرة وغير المباشرة المتعددة. خيرا فعل المؤلف بنشر نماذج من نصوص التحديث القصصي ونزوعاته لعدد من القصاصين المتميزين مثل سرد الحداثة وما بعدها والاعتمال بشعرية السرد والتجديد القصصي واستطاعته الرؤيوية والسرد السوريالي في إهاب الأسطرة ومحاولات تحديث القصّ الواقعي والسرد الواقعي ورحابته في نقد المجتمع والصدق الواقعي وفن الإيماء ومجاوزة التبشير العقائدي والتحديث من خلال التزام تقاليد القص الواقعي وأسلوبية النصوص السردية وتمثل السرد السيري والابتعاد عن غواية الإنشاء اللغوي.
وتظهر هذه النزوعات الكثير من مظاهر الانعطافة من التقليد إلى التحديث. وكذلك تأثيرات هذا الجنس السردي على الرواية منها (مدرسة امريكا اللانينية والفرنسية الجديدة) كتيار الوعي وتغير الضمائر وتناوب الرواة وتبديل الزمن وتعدد زوايا النظر، والتصرف بمسافة النظرفي تجديد السرد الروائي إلى التعالق النصي والإبداعي الجديدة ضمن صياغة متميزة في صنعات روائية مبتكرة في الموقف من الواقع أو المجتمع الروائي أو الزمن أو التاريخ..
إن نجاح القصاصين في تخليص القصة القصيرة من معضلات الممارسة الفنية التي تكمن في الإرث الطويل من تكريس الأوهام حول القصة القصيرة في النظرية والتطبيق. وقد تخففت القصة القصيرة من مظاهر التضييق المختلفة كالتداخل بين وظيفة القصة وموضوعها، والتداخل بين وظيفتها واتجاه كاتبها والتداخل بين فعالية القصة وفعالية المتلقي والتداخل بين الممارسة الاجتماعية والممارسة الفنية والتداخل بين الفن ومجرد الوثيقة أو المرحلية..فلقد وصلت القصة القصيرة إلى بلاغة مشهودة في تقنياتها وتعبيرها عن الجماعات الإنسانية والأوضاع الاجتماعية التي تصدت لها وتنوع الاتجاهات الفنية ولا سيما الواقعية بتقسيماتها المتعددة كالتعبيرية والانتقادية والانطباعية والاشتراكية والجديدة والطبيعية تحت وطأة تأثير الحداثة..
إضاءة ثانية:
"التقليد والتاصيل":
انطلقت تجارب القصاصين الجدد تتوسل إلى الحداثة بوسائل تعبير منسجمة حيناً، وغامضة أو مبهمة حيناً آخر.. على أن ساحة القصة القصيرة ما تزال تعتمل بالصراعات الخفية بين الاتجاهات المختلفة، حيث الرومانتية والإتباعية والتسجيلية والواقعية الانتقادية / وما تزال/ من أقوى الاتجاهات أيضاً، مثل هذه الحساسية المستمرة في حياتنا الأدبية، كما أظهر هذا الكتاب من أصوات جريئة مبدعة تخوض غمار التجريب، وتفلح في الإفصاح عن أساليبها وأفكارها لدى غالبيتهم، بل أن بعض الأصوات متميزة في المشهد القصصي الراهن..
إِنّ هذه الوقائع وغيرها تؤكد صدارة القصة القصيرة للكتابة الأدبية ربما أكثر من الشعر أيضاً، استخدامها في أكثر التجارب حفيظة دعاة التقيد بالأجناس الأدبية.
مما يتيح أوسع الفرص لمعالجة قضية الاتصال والفنون بين الأجناس الأدبية سواء في الالتفات عن تقاليد النثر الفني العربي أو التراث القصصي العربي أو في اللحاق اللاهث الواضح بأشكال التجديد عن أصالة أو مجرد شهوة التعبير المختلف، فثمة إشارات واضحة إلى ممارسة غالبة على الكتابة القصصية والتطلع إلى التجديد بخاصة، ولا سيما تطويع الحكائية والسرد لحاجات خطاب مباشر غالباً، وتعبير إنساني خافت أحياناً، وتحفل النماذج المنشورة غالباً بطوابع استحوذت على أساليب متوترة ومندفعة في استخدامات جريئة ومتأنية في بعض القصص مثل التقطيع والترقيم وتنوع الحوار وتعدد الأصوات وشاعرية السرد. واللافت للنظر في بعض المجموعات القصصية هو تنوع التجارب القصصية والسعي الواضح لتطويع أساليبهم باتجاه حداثية منشودة.
وتشير هذه الكتابة القصصية إلى أن استخدام المنجزات الحداثية غير ناجز أو شاحب في بعض قصصهم، لأن كتابها تعمدوا التحديث الذي يصل إلى حدّ الاستغلاق على الدلالة ونقي الموضوع، إذ يحاول بعض الكتاب الجدد الترميز و”أسطرة “ لواقع وتعدد الرواة أو المنظورات السردية، إذ أن استخدام المنجزات الحداثية لا يتعلق بالنيات فقط أو وضع تقنيات قد لا تتناسب مع التجربة القصصية، والمهم في هذا المجال هو نجاح القاص في تحويل الواقع إلى أدب عبر ضبط القص وتنظيم السرد ووضوح التحفيز في تضافر البناء القصصي. و جديرة بالاهتمام هي انابتعاد البعض من القصاصين عن هموم البحث في السرد في تجاربهم القصصية.
إذ لا نجد قصصاً تعتني باستيحاء التراث القصصي أو ثراء السرد العربي الموروث، وإذا وجدت بعض المقاربات فلا تشير إلى وعي الهوية فثمة قصص كثيرة تعلن خيارات فنية غير حاسمة، وتقارب سردها الحداثي من منظورات شاعرية وحكائية ممعنة في تحديد علاقتها بالموروث القصصي، وهي أقرب إلى القطيعة منها إلى التواصل فتعتمد على الدلالة الثقافية، وتثير الإشارات في بنية القصة، وتوغل في اللغة والتغريب اللغوي وهو التماهي المصنوع، أو تصوغ تحويلها الأدبي للوقائع الحياتية من ذكاء مشروط هو بعض حصيلة الخبرة الفنية. إن السرد في مثل هذه القصص واثق متمكن من حكايته وكأنه يستند إلى الموروث، ويستوعبه.
إضاءة ثالثة:
جدل الريادة: مقاربات في النشاة:
مقاربة د.جميل حمداوي، نزار بريك هنيدي، غسان كنفاني، د.مجدي معروف.. كلها فيوضات مهمة تعكس هذه العلائق بين الموروث والتجديد وذكر تجارب كتابها، ولعل ميزة التجديد القصصي الذي كان علامة من علامات الفن القصصي هو الولع بالتجريب الشكلي اللغوي على أنه تركيب سردي مفتوح على تجربة تاريخية أعم، وإن كانت نمت في ظل هذه الوضعية واقعية جديدة أو واقعيات ذات ميل رومانسي أو طبيعي أو تعبيري أو انطباعي أو سوريالي أو نقدي مفسحة المجال واسعاً لتطوير ملحوظ للسرد في رحاب الأسطورة أو الرمز أو الوثيقة أو اللغة أو التاريخ أو الخطاب المباشر أو النفس أو الدراما، وهي ميادين طبعت التجديد القصصي من خلال تراكم طويل لتجربة القصّ المفتوح، وقد أثمر ذلك كلّه تيارات متداخلة كثيراً في أنماط رؤية العالم وفي تجسيد اللحظة القصصية وفي أشكال السرد وفي تقنيات الخطاب القصصي على وجه العموم.
يعسر عليّ أن نحصي القصص والقصاصين من انتاج القصة، ليس بوصفها مخصوصة بجيل أو عمر أو مرحلة تاريخية بل بكونها حساسيات أدبية جديدة تعبر عن روح جديدة في رؤية الأدب وعن أشكال مغايرة أو مختلفة تصل في بعض التجارب إلى تطوير الأجناس الأدبية المعروفة، وهذا ما حدث في فنون النثر القصصي، فقد صار لهذا التجديد ظواهر لا شك في أهميتها خلال ربع القرن الأخير، وهذا الاتجاه أدى إلى التركيز على الحياة اليومية مؤثر مقتطع من سيرورة السرد ليشبع بإيحاء إنساني مفعم بالدلالات، الاتجاه إلى تحويل القصة إلى نص سردي مفتوح على التجربة الإنسانية بمقدرة حكائية تمازح السوريالية على أنها سرد المخيلة في قيعان الشعور واللاشعور معاً، أو تمازح الأخيولة (الفانتازيا) على أنها صوغ سردي آخر لجموح المخيلة دون لوازم السوريالية كلّها، الاتجاه إلى انبثاق السرد من الأساطير والرموز أو إشباع السرد بالأساطير والرموز باجتهادات مختلفة إلى حّد التباين بين قاص وآخر.
وأخيرا أقول إن السرد القصصي الحداثوي من خلال تقنان جديدة من" تشظية السرد وتشظية اللغة "والتداخل النصوصي والأجناس والتماهي الوثائقي والسيري مع اللعبة السردية، وكسر الإيهام والخطاب الحواري في تعدد الضمائر السارد وتمازجها مع المشهدية والتداعيات الذاتية على الأنساق السردية هي ما وسمت بها المرحلة الجديدة.