ابراهيم علي/ سيدني
أن أية قراءة سطحية لواقع الثقافة في العراق تظهر بوضوح مدى ارتباط الثقافة بمنهج التحليل المثالي الذي ينطلق من النصوص الدينية خارج محتواها الاجتماعي والتاريخي انطلاقاً من استنتاجات نظرية راسخة مستمدة من القاعدة المنهجية لثقافة السلطة وقيم الواقع القبلي وفي استخدام الدين كأداة سيطرة في دعم مصالحها الخاصة وتثبيت شرعيتها والتمسك بالتقاليد الموروثة ورفضها الاستفادة من الثقافة الوطنية بحجة أن مفاهيمها مستوردة لمجرد أنها غير مستمدة من الماضي والتراث مختلفة عن الأوضاع السائدة بناء على سلطة مقدسة تحول الثقافة والابداع إلى قيود ومحرمات؟
فالمؤسسة الدينية تمارس العمل المنهجي في تهميش العقل الفلسفي وترسخ المفاهيم المتعلقة بالميتافيزيقيا وتأطير المؤسسات الثقافية التي تقع خارج دائرة السلطة ومؤسساتها مستوحاة من ثقافة الماضي ورموزها الفقهية التي كانت تقوم على إنتاج الماضي واعتقال العقل المستنير في محاولة تقويض الإبداع وصولاً الى مرحلة الاحتقان لكثرة ما كابدته الثقافة من القيود النصية المتحجرة التي لم تعد تصلح لمجابهة الأوضاع المستجدة وتحدياته أضافة إلى سيادة الخطاب الديني التكفيري الذي يلغي كل بؤرة ضوئية يستنهض به الثقافة الوطنية في تطوير المجتمع. فالمناخ الثقافي في العراق هو سجين قوالب تقليدية ضمن آفاق تقليدية غائرة في القدم تقوم على تجذير سلطة النص والجمود العقائدي والعقم الفكري وثقافة تتمحور حول الماضي وتقديس النصوص الدينية التي لفظتها حركية الواقع وخلق جيل منقطع الجذور عن ثقافة العصر وهي إحدى تجليات الثقافة الدينية المتزمتة التي تحمل بين طياتها أكثر المفاهيم تحجراً والمسقطة على الواقع الثقافي أسقاطاً قسرياً لإعادة إنتاج الوعي التقليدي الذي وصل ذروته الوهمية الى أنها استطاعت ان تصبغ المؤسسات الثقافية القائمة بصبغة ميتافيزيقية (لا جديد تحت الشمس) وترسخ شرعيتها انطلاقاً من أنها تمثل الإرادة الإلهية وتصدر عن الله بذلك أضفت الشرعية على النظام من أن يدعي أنه ينفذ إرادة الله على الأرض. والمفارقة الباعثة على الاستغراب فلا زالت النشاطات والفعاليات الدينية تجري بشتى الصور وتأخذ طابع الالتزام نتيجة تجهيل العقل وخداع بسطاء الناس بهدف قمع أية محاولة لتجاوز الوعي الأسطوري الذي يقوم على معالجة القضايا المستعصية من قبور الموتى والتحايل على دورة التاريخ في السير الواقعي ضمن قوانين المجتمع والمفجع في الأمر هو ذلك الانغلاق المطبق الذي حصل على مستوى الثقافة التقليدية الاخذة بالاتساع ولا تزال قائمة على العديد من المستويات مشدوداً برواسب عقدة الماضي والاساطير التي تحكمه في تشويه إدراك إمكانية تغيير الواقع!وتحوله إلى حلبة صراع متعدد الأوجه نتيجة اهتزاز المنظومة الفكرية وتأرجحها في صومعة المراجع الفقهية وتباين الرؤى والاهداف والمصالح وضعف الانتماء الوطني والتمسك بالوحدة الوطنية وغياب مبدأ المواطنة الذي يعتبر ركناً أساسيا من أركان النظام الديمقراطي وان مايجري حالياً في العراق هو دليل دامغ على ان النخب الثقافية والسياسية الدينية مازالت خاضعة للعامل الخارجي في تنفيذ أجندتها أسفرت عن إحداث شرخ هائل في بنية المجتمع العراقي وصراع دامي بين المذاهب والطوائف الدينية وتكريس النكوص للوراء بعيداً عن عالم الحرية وحقوق الإنسان التي طبعت كل مفاصل الحياة في العالم المتحضر..
أن انعدام شروط العمل الثقافي غير المتحقق في العراق يرتبط بهيمنة الثقافة الدينية التي ما زالت وليدة مأزقها التاريخي ونموذجها الماضوي هذه الهيمنة التي عملت تاريخياً على لجم أي تحديث حقيقي في بنية الثقافة العراقية وعملت على تعميق واستمرار التأخر عبر تكريس منهجية الطائفية والمذهبية وبؤر الفساد والانحطاط السياسي والاجتماعي اقترنت بالتفريق بين أبناء الشعب والثقافة الوطنية التي تواجه نسبياً أفاقاً مسدودة نتيجة محاولات طمس معالم البعد الوطني وإبراز دور الثقافة الدينية الى الواجهة بسب الخوف من أن يصل التناقض بين طرفيها إلى ما يهدد المجتمع فالوطنية ليست خطراً وافداً من الخارج حسب المنظور الديني وإنما وعي ضدي يتغلغل داخل أبنية المجتمع.
إن التراكم المعرفي العقلاني هو الذي يمكن أن يحقق التوجه نحو قلب المعادلة الثقافية ويخلق مساراً جديدا في عملية إعادة الارتباط بالوقع الحقيقي غير الافتراضي وهذا لا يتم بسهولة في وضع العراق الثقافي الذي لا يرتبط بتغيير أدوات الإنتاج المعرفي على نحو يؤدي إلى تولد تناقض بين أبنية المجتمع السائدة وما تطلبه أدوات التغيير .