د قُصي الشيخ عسكر
حين طالعت قصيدة الأديب ماجد الغرباوي اكثر من مرة راودتني فكرتان دفعتنا بي الى تامل نفسي وتأمل القصيدة فتساءلت:
هل يحق للناقد ان يراهن على كلمة في النص؟
أقول نعم اذا كانت الكلمة تستحق الرهان، وقد راهنت منذ البدء على كلمة النار :
النار مصدر النور، في الفلسفة الطبيعية اليونانية فليس الماء - وفق رأي اصحاب ذلك المذهب - ولا التراب ولا الهواء أصل النار بل هي نار خفية لطيفة لا تدرك بالحواس لكن يعتريها وهن فتصير محسوسة ويبدو ان الوهن الذي يعتري النار يمكن ان يكون الوشاية:
ويستعيد مزمارًا
سرقته نار الوشاية
ويبدو ان النار المقصودة قد مرت بمرحلة وهن سابقة فاعترتها الوشاية التي أميل الى تعني في هذه اللقطة الشك لتصير محسوسة. لقد بدأت من اخر النص وها انا اعود الى بداية المقطع اي انني قرأت النص بالمقلوب لاروض النار يقول الشاعر:
في مراياهم المقعرة
ذوت مصابيح الحانة
هي المرحلة الاولى من علامات الوهن والضعف اذن هي الحانة والمصابيح وهناك الحرف - شكل الكلمة البصري الذي يحولها من صوت الى بصر- الذي يتخذ شكلا مقعرا اي يمتد الى الداخل فيعني الماضي اذ يمكن ان نجعل القعر ماضيا والمحدد مستقبلا اما الذي كان مقعرا فقد تجسد صوتا داخل تلك المرايا لنبصر النبي داوود يرتقي الى الفجر بالمزمار نفسه:
استيقظي ايتها الرباب والعود
انا استيقظ قبيل الفجر
أحمدك بين الشعوب يارب ( المزمور ١٨٠)
ان نار الشاعر الغرباوي هي نور اعتراه ضعف التامل فأصبح يشيع البهجة والسكينة ولا يحرق ، ضعف هو مكمن القوة الإيجابية التي تحول القلق الى سكينة . كم هو قوي النبي داوود الذي لان له الحديد (والنا له الحديد) "سبا/١٠" لكنه امام النور النار والمزمار يبدو ضعيفا مسالما رقيقا .ان نص الغرباوي يدفعنا للمراهنة مع اكثر من نص قديم وحديث في مقارنات وموازنات ياتي شاخصا في جوهرها موضوع المعاناة من خلال السلام ونعومة العالم التي تكاد تضيع في خشونة صاخبة تستهلكنا كل يوم ، ولَك ان تتخيل ذلك مادمت في مرحلة المغامرة حيث جاءت مباشرة تتلو الرهان:
مــا جدوى ضفائر الليلِ!!
خيوط شمسٍ
ألليل حيث القتام والظلمة تكون الشمس ضفائره التناقض من خلال النعومة المتولدة عن الفجر يحل اشكالية وجوده بنفسه، الم يكن الوضع قبل ذلك وفق الشكل الذي نبه اليه حامل الآلام النبي أيوب:
يكشف الغمائم من الظلام ويخرج ظل الموت الى النور (سفر أيوب ١٢/٢٣)
ثم بعد المراهنة سالت نفسي هل يمكن ان أغامر على كلمة اخرى تعادل بمدلولها النارفاكدت لي التجربة امكان ذلك لأنني بدأت من النهاية الوقفة النقطية جعلتني استعرض النص لتقع رؤياي على اخره فانطلق منه قد تكون الخاتمة هي البداية في كثير من الأحيان حين ندخل في الرهان نرى ان المغامرة في النص تتطلب الا ننطلق من النهاية بل من اية نقطة كانت ماعدا الختام فتصدت لنا كلمة الضوء:
آلهةُ المعابدِ الرُخامية
تركوا البابَ موارباً
فتسمّرَ الضوءُ!!!!
يعانقُ أوهامَ الحقيقةِ ..
ونبوءة المرمى الأخير
تُمزّقُ اكفانَهُ البالية
ماذا يجد قاريء النص هنا بعد ان راهن فدخل النص من الختام يجد المعاني التالية:
الزمنكان في آلهة المعابد تلك التماثيل الجامدة هي التي تركت الباب مفتوحا ولعله باب الماضي الذي يدخله كل بطريقته الخاصة: الشاعر العربي القديم وجده في الاطلال التي هي من اثار الزمن وفعله السلبي فينا فوقف واستوقف وبكى وحن، والشاعر المعاصر مثل نزار قباني الباحث عن جذوره وجد آلهة المعبد التي تركت الباب مفتوحا وجدهم في غرناطة :
ما اغرب التاريخ حين أعادني
لحفيده سمراء من أحفادي
اما نحن المغتربين فقد وجدناه في حضارة لخصت الزمان بتماثيل في الشوارع وحدائق في المقابر، والتراث الاوروبي الجميل الذي ينطق بالحاضر ثم اعود اسأل نفسي أليس الاولى ان نعود الى أسطورة خلق العالم الإسكندنافية التي جسدت عملية الخلق بتحرك الجنوب الدافيء المنير نحو الشمال البارد المظلم فكانت الحياة من انصهارهما فيستمر الصراع ويتحطمً العالم فينبثق من جديد وفق خاتمته وهكذا نظل مادام هناك ظلام نور!
ان الضوء نفسه يتسمر مع كل مشهد نقف عنده لنتأمل ، فهو واقعنا الظاهر وعالمنا الخفي او الباطن الذي يبصر ما لا تبصره عيوننا.
إذن نحن بين أمرين مراهنة ومغامرة استخرجنا من خلالها النور من الظلام والماضي الى الحاضر والحياة من السكون لذلك كان لابد لي ان أبدا من نهاية قصيدة النثر تلك التي بدأت بسطر موزون:
شاهقا كان المدى
فاعلات فأعلن
ليتوزع بعد ذلك إيقاع البداية الى موسيقى داخلية هادئة تشبه تحول النار الى فجر وخروج النور من الظلمة وهدوء مزمار داوود ذلك النبي الذي يخرج من الظلمة ليلاحق الفجر وهو يتحول من نار الى مظاهر متباينة تهب الحياة وتبحث عن سر تألقها.
حقا ان النهايات في بعض الأحيان تدلنا على البدايات مثلما راينا في قصيدة " تسمر الضوء" شرط ان نراهن ونغامر من دون ان نضل طريقنا.
د. قُصي الشيخ عسكر
..................................
تسمّرَ الضوءُ
ماجد الغرباوي/ سيدني
شاهقا كان المدى
يتوسّدُ ناصية َالسماءِ
غارقا في هَذيانهِ
يَتَصَفحُ جُرحاً
تقرَّحتْ زَفَراتُهُ العاتية
****
أي ذهولٍ ينتابُ شجرةَ الغِوايةِ ..؟
.
.
سرابا ارتدى
حُلْمُ المتاهاتِ القصيةِ
راح يتلو سورةَ الماءِ
وشيئاً من آياتِ الحطامِ
يستعيدُ بقايا موبقاتٍ
وثرثرات
****
مــا جدوى ضفائر الليلِ!!
خيوط شمسٍ
تَلعَقُ تَمتَماتٍ وَلهى
وأُخرى .. تستعرُ ناراً حاميةً
****
يــــالدهشة السؤال!!
.
.
آلهةُ المعابدِ الرُخامية
تركوا البابَ موارباً
فتسمّرَ الضوءُ!!!!
يعانقُ أوهامَ الحقيقةِ ..
ونبوءة المرمى الأخير
تُمزّقُ أكفانَهُ البالية
****
في مراياهم المُقَعَّرَةِ
ذَوَتْ مصابيحُ الحانةِ
فتلعثمَ الحرفُ
يشكو انبهار خيبته
وراحَ صفيرُ العاديات
يستبيحُ مأوى القداسةِ
ويستعيدُ مزماراً
سَرَقَتهُ نارُ الوشاية
...................
للاطلاع على نص: تسمّر الضوء لماجد الغرباوي
http://almothaqaf.com/index.php/nesos2014/83033.html