سلمان النقاش / ادليد
يعرف المثقف بحسب بعض المفكرين الحداثويين على انه من يحمل صفات ثقافية وعقلانية مميزة، تؤهله للنفاذ الى المجتمع والتاثير فيه بفضل المنجزات العلمية الكبرى، وعرفه البعض ايضا على انه الشخص المتعلم الذي يمتلك طموحا سياسيا للوصول الى مراكز صنع القرار السياسي من خلال دوره المحوري الحاسم في توجيه المجتمع عن طريق التاثير على القرارات السياسية المهمة التي تؤثر على المجتمع ككل، وميزة المثقف قدرته العالية على استخدام رموز ودلالات ومفاهيم لغوية عالية متصلة مباشرة بالانسان والكون والفرد والمجتمع.
ولاننا نحكي هنا عن المثقف الذي يتعامل تاريخيا مع واقعه بمعطياته وجذوره سنجعل من رؤية المفكر العراقي الكبير (هادي العلوي 1933-1998) باعتباره مثقفا موسوعيا وعضويا، والثقافة العضوية بحسب المفكر الايطالي غرامشي 1891 – 1937 هي "وظيفة المثقف في تحقيق تصور للعالم أو أيديولوجيا خاصة بالفئة أو الطبقة التي يربتط بها عضويا، وان يجعل هذا التصور يطابق الوظيفة الموضوعية لتلك الطبقة في وضع تاريخي معين، كما تكمن وظيفته أيضا في الجانب النقدي من نشاطه الفكري، الذي يحرر تلك الأيديولوجيات من الأفكار السابقة لظهورها."ونحن نرى ان هذا يقترب من الصورة التي ظهر بها المفكر هادي العلوي حول المثقف واعتبار ما اشار اليه منطلقا لتسليط الضوء على دور المثقف الحالي بما يمتلكه من امكانيات في المساهمة والمشاركة لتجاوز ازمة المجتمع العراقي اليوم.
فهو "يرى ان دور المثقف مهم وضروري في ظل سيطرة السلطة على الفضاء السياسي والاجتماعي والثقافي، فطبيعة الدولة لدينا تقوم غلى تعزيز الفساد السياسي والاداري والمالي، وتحاول دائما اغراء المثقف للانضمام الى اجهزتها واحزابها وقنوات فعالياتها السرية، هذا الابتزاز المنظم للمثقفين والتكسب احيانا يقابل بتمرد وعدم خضوع المثقف لمثل هذه الابتزازات والاغراءات لان المستفيد ليس الدولة ولا الجماهير ، بل رؤوس من يسيطر على الدولة وازلامها الذين يمنون على الشعب على انهم حرروه واطعموه واصلوه الى وهم الدولة المستقلة"
وانطلاقا من هذا ولكي نتابع حركة المثقف العراقي ومستوى دوره ومساهماته في تشكيل مجتمع مدني يكون القانون بمفهومه العصري والذي يعكس سلوك الناس في تلبية متطلبات عيشهم وحاجاتهم المتجددة دائما، اذ ياخذ في توحيد نشاطتهم وحركتهم، ولمتابعة هذه الحركة بامكاننا العودة الى مرحلة الخمسينيات واعتبارها البداية في هذا التشخيص او الرصد على انها مرحلة نضجت نسبيا كانعكاس لمتغيرات جيو سياسية، عندها تم التسليم واقعيا وبحسب التصنيف العالمي والاتفاقات الدولية المنبثقة بعد حربين عالميتين على ان المجتمع العراقي هو مجتمع توحد بمكونات اصيلة، ومن الممكن ان يتاسس على قيم مدنية، لكن هذا المجتمع خاضع دون ارادته لحركة الصراع الدائرة بين مراكز القوى العالمية الكبرى بمتبنياتها الاقتصادية والفكرية اضافة الى الصراع الداخلي وصار تاثير هذا الصراع يتمظهر جليا باتجاهات رئيسية ثلاثة:-
الاتجاه الاول هو الميل نحو التسليم باعطاء وكالة لقوى عالمية انتصرت في الحرب وهو يعني ضمنا اتجاها سياسيا يحاكي النمط المعمول به في دولة الوكالة، وبالنظر الى الفارق الحضاري والفجوة الواسعة بين عناصر المدنية بكل وجوهها وبين مستوى تطور المجتمع العراقي صار لابد لمقدرات هذا المجتمع المادية والثقافية والسياسية ان تخضع الى الدولة الحامية او المتكفلة بالحماية، ما ادى الى نوع من التبعية تدعمها قوى سياسية تتفق مصالحها اصلا مع المشروع البريطاني ومرتبطة به، هذا الامر ورغم ضعف القرار المحلي وضعف في السيادة الوطنية ايضا لكنه يفتح بابا امام الاطلاع والاحتكاك على المنجز الحضاري بجوانبه العلمية والثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو بالتالي ومن خلال هذه التبعية يتحصل على نمو طبقة انتلجنسية تتناغم مع التحول الذي يستلزم ان تحتلها هذه الطبقة في المؤسسات التي استجدت كالجامعات والمصانع والدوائر الخدمية ومتطلبات التبادل التجاري والمصرفي وما يلحق بها من تغير في انماط الاسلوك الاجتماعي لتظهر اساليب الاعلان والدعاية لتغير او تستفز الذوق العام ما يجعله قابلا لاستيعاب انماط ادبية وفنون جديدة.
الاتجاه الثاني جاء موازيا للأول اذ بدا هو الاخر يسري بين المكونات الطبيعية الجديدة ومصدره ايضا ثقافة المنتصر الاخر في الحرب والذي بدا بدوره ينشر مفاهيمه في العالم تلك المفاهيم التي تحمل طابعا مدنيا ايضا ولكن باتجاه سيطرة الدولة على جميع المؤسسات والبدء في عمليات التحول والبناء، والجميل في الامرين معا ان التوجه الاول الذي مثل الانحدار الطبقي للسلطة المدنية المتكونة اذ زجت هذه الطبقة بأبنائها في المؤسسات التعليمية الكبرى بما يحملونه من قيم والهدف هو توسيع مساحة السلطة والتمسك بها، وبإمكاننا القول ان البيوتات الاقطاعية والتجارية العراقية وبواسطة ابناءها الذين درسوا في الجامعات العراقية او الامريكية او البريطانية شكلوا طبقة مثقفة بإمكانها ادارة مصالحها ما استلزم الانسجام مع التوجه المدني التي تفرضه قوى السوق العالمية المتمثلة في المعسكر الغربي وصياغة قوانين وتشريعات تتفق مع هذا التوجه، وبذلك نستطيع القول ان شكل الدولة وقوانينها استمد شرعيته من القبول الذي ابدته طبقات محددة كانت قبل قيام الدولة لها نفوذ ومساحة من السلطة لكنها ايضا انتجت طبقتها المثقفة ،لكن في المقابل فان هذه المصالح والجامعات والمؤسسات كانت بحاجة هي الاخرى الى كوادر ادارية وسطية وعمالا مهرة لكي تدور عجلة الانتاج، ما فتح المجال واسعا امام الطبقات المسحوقة والفقيرة التي زجت بعجلة الانتاج الجديد والتي اصبحت عمليا ضمن لحمة المدينة نتيجة لهجرة الريف الى المدينة، والدفع بابناءها نحو التعليم او العمل في خطوط الانتاج وان في مستويات متدنية وتحت ظروف غير انسانية، وكونت لها طبقة متعلمين من البديهي ان تستفزها الافكار والثقافة الثورية والاشتراكية والقومية.
والاتجاه الثالث، هو النمط الثقافي والتعليمي السائد قبل قيام الدولة واستمر بوجودها وسار بالتوازي مع الاتجاهين الاول والثاني ولكن بالاتجاه المعاكس محاولا وبصراع واضح استعادة مجده، ونحن نعني هنا الثقافة الدينية والقبلية والمذهبية والاثنية وظلت مؤسسات هذا الاتجاه تقاوم التهديد المدني وتمكنت من خلال الموروث الثقافي والديني وضعف الدولة من ترسيخ مؤسساتها وفصلها عن الدولة اذ عجزت الدولة واجهزتها وقوانينها من الحد من سلطتها، لا بل انها ونتيجة الكبوات والتوقفات الحضارية والتمزقات الاجتماعية عادت هذه السلطة وبقوة لتفرض قوانينها وسيطرتها.
بقي لنا ان نوزع ادوار المثقفين وقفا لما اتجهنا اليه من تحليل اذ تبدو الصورة الان وبحسب هذا التوجه ان الثقافة ومن ضمنها جانبها الابداعي والمثقف بشكل خاص هو محصلة او نتيجة تكونت فعاليتها او فاعليته بحسب علاقته بالسلطة او بعبارة ادق بحسب موقف السلطة منه، ولانه جزء من من طبيعة المجتمع ويمثل لسان حال انتماءه الطبقي او الثقافي فانه ايضا يسعى نحو التقرب من السلطة سواء باعتبارها مشروعا يجب ان يكون ضمنه لحماية مصلحته المتمثلة بانتمائه او التماهي مع السلطة بقابالياته وقدراته وان اختلف معها ثقافيا او فكريا.
فالتاريخ الثقافي العراقي يرسم منحنى الاداء الثقافي والابداعي سواء ما ظهر منه على انه نتاج مؤسسات السلطة، او المساهمات الفردية للمبدعين بحسب المساحة المتاحة من قبل السلطة، اذ لا تشير صفحات التاريخ الحديث على ان المثقف العراقي قد ساهم فعلا في ترسيخ المبادئ المدنية لإنشاء الدولة، فلو قسمنا مراحل نشاط الثقافة العراقية في عصر نشأة الدولة العراقية بعد العام 1920 بحسب انماط السلطة المشكلة: "سلطة مدنية ملكية دستورية، سلطة مدنية جمهورية (العسكر) سلطة مدنية دكتاتورية (العائلة) ".
سنجد ان المثقف العراقي كان عضوا فعالا في ترسيخ اسس هذه السلطات مهما كان موقعه او موقفه ومساهم فاعل في التراجع عن المطلب المدني لبناء الدولة، برغم ان مستوى الثقافة العراقية قد وصل في بعض مراحله الى محاكاة العالمية بالنسبة الى مستوى الابداع او التنظير او حتى التطور الفكري والعلمي، لكنه تطور على المستوى الشخصي او المجموعات وان اصحاب هذا المستوى قرروا مغادرة العراق نهائيا وبلا رجعة ضمن سنين مرحلة الستينيات والسبعينيات، واذا اعتبرنا مرحلة الخمسينيات هي بداية النضج والانطلاق فاننا وبحسبة بسيطة سنكتشف ان اغلب الرواد في هذه الفترة وما بعدها قليلا ونتيجة لعدم قدرتهم على ان يكونو جزءا عضويا من عملية التغيير المدني فانهم تحولوا تماما الى مشاريع فردية ابداعية ولكن ضمن مجتمعات اخرى، لقد كانت مرحلة الثمانينيات هي المرحلة الاخيرة في محاولة تكوين نخبة قادرة على المقاومة ويمكن اعتبار مرحلة الثمانينيات ايضا بداية الانزلاق الحاد نحو الفقر الثقافي وبداية لتقهقر الثقافة والمثقفين.
اليوم وفي هذه المرحلة الحرجة والمازومة من تاريخ العراق تترك الثقافة ساحاتها لقوى تتصارع على النفوذ والمال ويدخل المثقف معها في التيه محملا بكل اخفاقات الوطن، ولكن هل فعلا هناك ثقافة ومثقف؟