أ.د. داخل حسن جريو/ سيدني
يواجه المثقف العراقي في عصرنا الراهن تحديات كبيرة بسبب التطورات العلمية والتقنية في جميع التخصصات، وبشكل خاص في مجالات تقانات المعلومات والاتصالات والإلكترونيات والتي كادت ان تجعل هذا العالم الفسيح قرية كونية صغيرة، نجم عنها تأثيرات ثقافية خطيرة قد تهدد مصير الهوية الوطنية ليس في بلدان العالم الثالث فحسب بل في معظم الأمم والشعوب الصغيرة وبخاصة تلك الشعوب غير الناطقة باللغة الإنكليزية، وذلك نتيجة السعي المحموم للولايات المتحدة الأمريكية والدول الناطقة باللغة الإنكليزية لتكريس ثقافتها بصورة عامة والثقافة الأمريكية بصورة خاصة عبر وسائلها الهائلة في جميع مجالات الحياة.
وتطورات خطيرة كهذه لابد أن تبعث على القلق لأية أمة تحترم نفسها وتعتز بتراثها الحضاري والإنساني، لاسيما إن آلة الإعلام الأمريكي واسعة الانتشار تروج بصورة منهجية ومنتظمة ومخطط لها بعناية فائقة لمفاهيمها الثقافية وأنماط حياتها وعادات شعوبها، بصورة مباشرة وغير مباشرة ليل نهار عبر محطاتها التلفازية الفضائية وشبكات معلوماتها وأجهزة النشر الإلكتروني والتواصل الإجتماعي والأشرطة والأقراص الحاسوبية المسموعة والمرئية وغيرها من وسائل إعلامية عديدة لا حصر لها.
تكمن خطورة هذه الهجمة الثقافية الأمريكية على بلادنا وبلدان العالم الثالث بأنها تبدو للناس بعامة، والشباب بخاصة، بإطار طابعه علمي وموضوعي، وكأنها تهدف إلى نشر العلوم والثقافة وتحري الحقائق، والانفتاح على حضارات الأمم الأخرى بشفافية وإنسانية، وتشجيع الحوار وسماع الرأي والرأي الآخر في أجواء الحرية والديمقراطية والتعددية السياسية والدينية بعيداً عن التعصب والانغلاق الفكري، كما يروجون لذلك عبر وسائل أعلامهم المختلفة.
ويذهبون أحيانا ابعد من ذلك بإظهار حرصهم على حقوق الاقليات العرقية والدينية في هذه الددولة او تلك بدعاوى التسامح واقامة المجتمع المدني القائم على العدل والمساواة بصرف النظر عن اللون والعنصر والمعتقد، وذلك عبر إيماءات واضحة بان هذه الافكار إنما هي من بنات افكار المثقفين الغربيين وإنها نتاج صناعة فكرية غربية.
ولعل ما حل بعراقنا الجريح بعد غزوه وإحتلاله عام 2003 من قبل القوات الأمريكية ومن تحالف معها ،يشير إلى خلاف ذلك تماما حيث آلت أحوال بلادنا إلى بؤس وشقاء وتشرذم وضياع وفقدان لهويتها الوطنية لحساب هويات فرعية زائفة، روجوا لها من منطلقات دينية وطائفية وعرقية بدعاوى باطلة بضمان حقوقها وحفظ هويتها من الذوبان في الهوية الوطنية الشاملة الجامعة لجميع الهويات الفرعية وخصوصياتها،جعلوا منها منطلقا للفتنة والتنازع على أبسط الأمور لدرجة يصعب فيها على كل طرف التعايش مع الطرف الآخر وقبوله، وكرسوها في دستور طائفي مقيت بدلا أن يكون دستورا موحد للبلاد والعباد، جعلوه منطلقا للخلافات، وأقروه في ظروف غير آمنة عبر إستفتاء شعبي مثير الغرائز في إطار مخاوف الكراهية والحقد تجاه الآخر، وجعلوا من هذا الدستور صنما مقدسا لا يمكن تجاوزه او حتى تعديله بدعواى الحفاظ على الديمقراطية التي أطلقوا عليها الديمقراطية التوافقية، وهم يقصدون بذلك المحاصصة الطائفية والأثنية، أي توزيع ثروات العراق حصصا بين أمراء الأثنيات والطوائف بحسب حجومها، وحرمان الناس من التمتع بثروات بلادهم لدرجة بات فيها أغلب العراقيين يعيشون تحت خط الفقر ويفتقرون إلى ابسط الخدمات، ويتفشى بينهم المرض والجهل وكل أشكال التدليس والشعوذة.
والأدهى من كل ذلك باتوا يشككون بحضارة العراق وتاريخه التليد، لدرجة باتوا يروجون لفكرة أن لا وجود للعراق عبر التاريخ، إنما هو كيان مصطنع أوجدته المصالح البريطانية في مطلع القرن العشرين، ويسعون الآن لتفتيه وتقسيمه طائفيا وأثنيا إلى مقاطعات يتحكم بها أمراء الطوائف والأثنيات، بينما يعلمون جيدا ان العراق هو مهد اقدم حضارات العالم، فيه صيغت القوانين ونظم الادارة، ونظريات الفلك والرياضيات وهندسة الري وغيرها.
ظل العراق بتاريخه وحضارته منطلق اشعاع فكري وحضاري وثقافي على مر العصور .
ومنذ القدم اولى العراق التعدد الثقافي الذي لم يقتصر على دين أو طائفة أو أثنية معينة، اهمية ورعاية خاصة بدلالة ان الكثير من العلماء والادباء قد اموا العراق، وتفاعلوا مع مدارسه.
ومن هنا ينبغي ان يتصدى المثقفون العراقيون الأصلاء بقوة وحزم لجميع محاولات الغزو الثقافي الذي يستهدف انهاء دور بلادنا الحضاري وتقليل اهمية تراثها العلمي والثقافي وإشعاعها الفكري عبر حقب التاريخ المختلفة.
ولانهم يدركون جيداً اهمية لغتنا العربية في نهضتنا العلمية والثقافية، لذا راحوا يسيئون الى هذه اللغة بدعاوى عدم قدرتها على الايفاء بمتطلبات حركة تطور العلوم والتقانة، ويسعون لاستبدالها باللغة الانكليزية بدعوى النهوض العلمي ومواكبة مستجدات العلوم والتقانة بلغة المصدر، وهو يهدفون من وراء ذلك خلق حالة انفصام بين المثقفين ومواطنيهم وانماء حالة الشعور بالتعالي، والتعامل بلغتين لغة اجنبية للعلم والتقانة، ولغة عربية محلية للتعامل في شؤون الحياة اليومية، وتكريس مفهوم ان العلم والتقانة إنما هما نتاجان أجنبيان، وليس كما هما في حقيقة الأمر نتاجان إنسانيان، كان للعراقيين فيها إسهام فاعل على مر العصور.
وما يؤسف له حقا ان تجد بعض هذه الدعوات الزائفة أذانا صاغية لدى بعض المثقفين، والانكى من ذلك لدى بعض صناع القرارات العلمية والتربوية والثقافية.
ومن هنا ينبغي ان تتضافر جهود المثقفين بالإفادة من تقانات المعلومات والاتصالات ومعطيات العلوم المختلفة بتوظيفها للنهوض بثقافتنا الوطنية على وفق رؤى حضارية متفتحة وبأساليب شفافة دون تعصب او تزمت من منطلق حوار الحضارات وتعدد الثقافات.
وهذا يتطلب ان يناصر المثقفون ورجال الفكر العراقيون قضايا بلادهم وهي تواجه تحديات مصيرية لاتهدد هويتها الثقافية ورسالتها الانسانية وارثها الحضاري حسب بل كل وجود بلدهم كبلد موحد الكيان والوجدان والمشاعر، وذلك، اولا" بالتصدي الحازم للفكر الإمبريالي المعادي الذي يروج لمفاهيم تتنافى وقيم امتنا بدعاوى التحديث ومجاراة العصر، والايحاء بان التقدم العلمي والتقني مرهون بالارتباط التام والارتماء في احضان الحضارة الغربية وقيمها المادية حصرا، وان حضارتنا لا تتناغم مع عصرنا الراهن ولا تستجيب لمتطلبات الحياة العصرية، وكذلك التصدي للفكر القطري الضيق الذي يروج له البعض من منطلقات يصفونها بالخصوصيات الوطنية، كما لا تقل خطورة عن ذلك تيارات الفكر الشوفيني المتعصب الذي لايقيم وزنا "لحقوق الاقليات القومية المتآخية في اطار الوطن الواحد، ناهيك عن الفكر الضيق الذي يتخذ من الاديان غطاءا "ومبررا" لدعاواه التي غالبا" ما تتسم بالتعصب والافق الضيق والرؤية المحدودة والانغلاق على الذات وعدم التفاعل مع تطورات الحياة وارهاصات العلوم والتقانة واثر ذلك في الفكر الانساني.
ولا نقصد بالتصدي هنا القاء الخطب والمواعظ، وانما الانتماء الصميمي لجماهير الشعب وتبني قضاياه المصيرية، والعمل بكل الوسائل على نشر الثقافة الوطنية وخاصة في اوساط الطلبة والشباب لرفع حسهم الوطني وتحصينهم ضد محاولات التخريب الثقافي الاجنبي التي تستهدف كل ما هو وطني وقومي شريف.
وهذا يتطلب ان يكون المثقفون مرايا صادقة تعكس هموم وتطلعات وآمال جماهير شعبنا المناضل، ذلك ان المثقفين ينبغي ان يمثلوا ضمائر شعبهم الحية وان يلتحموا التحاما "صادقا"وصميميا"مع جميع المناضلين الساعين لاقامة وطن حر ينعم ابناؤه بالامن والسلام والرفاهية بالافادة من معطيات العلوم الحديثة والتقانات المتقدمة والسعي الدؤوب لافشال مخططات الامبريالية الامريكية وشريكتها الصهيونية العالمية المعادية لكل تطلع انساني شريف، وسوف لن يرحم التاريخ كل مثقف تخاذل عن نصرة قضايا وطنه وامته ايا "كانت الاسباب والمبررات، ووقف متفرجا" بانتظار ما تسفر عنه الاحداث من نتائج ليصفق لمن يكسب الجولة، ذلك ان الدفاع عن الوطن امانة في الاعناق يجب ان تصان وشرف رفيع لايعلوه شرف.