عندما يكون الشاعر صانعا للأحلام
قراءة في ديوان (وسط بعيد) للشاعر احمد العسم
ناظم ناصر القريشي/ بغداد
عرف مالارميه الشعر بكونه ”التعبير عن المعنى السرّي لجوانب الوجود بواسطة اللغة الإنسانية المعادة إلى إيقاعها الجوهري“ ونحن دائما نبحث عن قصيدة لا حدود لها ولا إتجاهات تتبرعم وتزهر في أعماق الروح القصية تعبر عن هذا المعنى وهذا ما نجده لدى الشاعر احمد العسم وفي ديوانه (وسط بعيد) .
فالشعر عند العسم هو التعبير الذي يحاكي الحياة من أوله الى المعنى في أقصاه التأملي؛ فأول الشعر تمرد ومن بعده تتسع المعاني؛ وأول الشعر رغبة دائمة للامتلاء ومن بعدها تتسع الرؤيا وتتمرد على ضيق العبارة؛ فالشعر يكتب من أقاصي الحلم، الذي يقيس المسافة فيه بين الحياة والقصيدة، وهو يقاس بالتأويل. ربما في ذلك الوسط البعيد وهو (يتأمل قمر الليل يجلس على التل البعيد) ص 33 في انتظار الذي يأتي ولا يأتي والذي قد يغيب في حضوره وقد يكون حاضرا في غيابه، يصنع لنا الشاعر من أشيائه اليومية أحلاما يحاول أن يأسر المعنى عبر سربها الذاهب نحو الزوال، تلك الأشياء البسيطة والواضحة والقريبة والمنسية في أحيانا كثيرة والمستبعدة، والمنتقلة خلف الصمت. وتوجيهها نحو صياغة الايقاع الشعري للمفردة وهذا يدل على نزوع الشاعر للحداثة (بمعناها الأمثل انا هنا والأن، أي حداثة الزمان والمكان)؛ هائما في لحظته الشعرية منتشيا باكتشاف الأسرار حيث تدخر الرؤية ويبدأ حواره الشعري بين الروح والأحلام، وبين السمو والأتحاد بالمطلق، كمن يمسك بالموجات بين ضفتي الشعر؛ في ماورائية اللغة عبر الايقاع الشعري، نجد أن الحلم يؤكد وجوده، فلقد تشكل كليا باللغة عبر القصيدة التي أصبحت كالأنهر لها لغة أخرى غير الموجات والضفاف التي تحتويها؛ لغة تعبر عن ذاتها تنساب عبر مطلق تكوينها الذي يحمل سر الحياة، مما يجعل تكوين النص يتشكل ولا يكتمل مبني على هاجس الأيحاء والتأويل الذي ينتهي ولا ينتهي بتنوع دلالاته، حيث أفق الكتابة الشعرية يتسع وينفتح على التشكيل فيقول بقصيدة (الماء).
(اخطف قدمك سريعا، من المسافة
أيها البعيد البعيد، عن الإحساس بجسدك
ما فيك جميل، يشبه لون البرتقال
ونيابة عنك سأتصدى، للذي يحاول أن يشبهك
...
الحب ماء، لن أدفعه للريح التائهة
...
تعال اخطف ، الطائر الأبيض المنزوي
امنحه فضاء قلبك، هذا التشكيلي
ينحت في الغيمة ) 44،45
لذا في أحياناً كثيرة، سنشعر بأن ما يدونه الشاعر نحن الذين دوناه، فإن تشكيل المعنى على شكل صور هي أحلامنا التي تحررنا من فيزياء الجسد؛ وهي أحلام صوفية، فنجد أن (الأحلام أكبر من العرض المختصر) 12 وأن (الجدران لا تتحدث بصوت عال لكن تتسع حدقة العين لذلك). وللأحلام مواعيدِها على خزائن الخيال الموصدة، يعزفها قوس الكمان على أوتاره؛ على عجالة الوقت فهي مزن ترخي أغصانها على الحواس، يبذل فيها الشاعر مهجته فيقول في قصيدة المستطيل.
(المكان يفيض بالأحلام، سرير النوم، صور أصدقائي
تتزاحم بالذكريات القديمة، نسخة من دفتر قديم، كل الأفكار التي يختزلها عقلي، حركة تستمر من أجل،
كتابة نص زاحف) ص15
فيرتدي أحلامه كلمات ويجعل منها مرآة ذاته؛ فهو لا يشرط علينا افتراضاته أو يوهمنا بها، لكنه يمنحنا هذا الشعور الهائل بان الحلم كالحب قريب جدا، ويمكن أن يتحقق وتلامسه حواسنا. لنتأمل قدرة الشاعر الخلاقة وما يمتلكه من حس مرهف وخيال إبداعي ووعي متيقظ وهو يحول إحساسه الى كلمات مرئية كالألماس عندما يكون نقيا..
فلم ابيض وأسود
(تحتفل بحياة مرتفعة النجوم
رغيدة الأسرة في العرض، ارم بعتبك للبحر،
يلتقطه بعض السيارة،
صورة خجلك منكسرة في الماء) 33
يحاول دوما أن يرى الحياة بأكملها من خلال أشياء صغيرة كأحلام عابرة منتشيا بموروثه وبيئته حيث تتجسد اللحظة الشعرية لدى الشاعر في قدرته على استلهام هذه البيئة ورصد حركة الأشياء والموجودات من حوله، وتجاوزه للتمثيل الوصفي للغة؛ فلغته لغة تكوينه خلاقة دائمة التجدد ومتماثلة تماماً مع وهج الحياة، فهي كما يقول الفنان الإيطالي رافائيل "لا تصور الأشياء كما هـي، بل كما يجب أن تكون."، فالدهشة معقودة على نواصيها والكلمات فيها أشرعة لسفر بعيد؛ فهي مخلصة لروح الشعر و لما تعنيه وما تحمله من أفكار وتشكله من صور فيقول في قصيدة (حماس رجل ينتظر الحافلة)
(لا تتحمس كثيرا، ربما تمر حافلة نقل الركاب
دون أن ينتبه لك السائق، أو أي من الركاب ينبهه
أو يغلق الباب رجل سمين، ينهي حماسك
ويفلت منك الموعد، أغبطك على هذا الحماس
لكنني لا أحب الفراغ) ص 8
ستتهدل وأنت تستمع الى إيقاعات القصيدة وهي تمنحك سلافه الأحلام، وروحها الخفي وهي تحاول أن تمنحك أجوبة جمالية عن أسئلة ميتافيزيقية، بدفقات من شجن طويلٍ كعزف الناي أو مرور الأصابع وهي تمسد الموجات وهذا ما سنجده في قصيدة (في التابوت مع النص)
(الطموح لدي مجروح،
في كتابة نص طويل
تمر عاصفة رمل تحت أضلعي،
المسافات في عقلي، بتضاريس مختلفة، أفكر بقدمي واكتمالي لحظة انتهاء الكتابة) 34
(إنها الحياة تنزل آخر الوقت، بعينين مفتوحين
وترى أفكاري الغريبة التي تفقد ثقتها
تمد يدها و تقطف من الفراغ، أشياء ضخمة) 35
اعتقد أن انحياز الشاعر دائما للذين فقدوا الأمل وكل رغبة في البقاء هو الوحيد الذي يعطي الشاعر مبررا لان يكتب من جديدا ويجعل القصيدة تبدأ حيث تنتهي أحلامهم فيقول في قصيدة (خزانة)
(أيها الوحيد ليس عليك إلا الاجتهاد
كل سعي تشكر عليه،
كل محاولة جيدة
حتى لو فشلت) ص22
نحن نتوقع دائما أن ما يكتبه الشاعر يصدر عن نفس ما يفكر به الرسام التشكيلي فالاثنان يشكلان الحياة بطريقة واحدة منذ البداية؛ بما يعني ذلك من تعويض للوجود الحقيقي للأشياء وللذات، فهو بوجود اللون يختزل ذاته إلى العدم، ليتجلى في القصيدة من أجل تحريك لانهائي للمعنى، بواسطة لغة تعبيرية تؤثر على وجدان المتلقي تنبض بالحياة، ومن جهة أخرى، يجعل الكلمات تغمر التلقي كالمياه فهو ذاهب نحو اللون الأزرق فبإمكان اللون أن يحقق القوة التعبيرية إذا كان تدرجه منتظما ومتناسقا ومتماثل مع إحساسه الشاعر، فاللون الأزرق هو كلام الصمت الذي يعبر عن ذاته فيقول في قصيدة (الأزرق)
فراغ الأزرق، خلف الزجاج الأزرق
قرب الماء الأزرق، داخل العمارة الزرقاء
أعمل ما تتركه الرطوبة من عرق
على الزجاج يحجب رؤية البحر
والتفاصيل الصغيرة بين أشجار الشارع) ص31
الشعر هنا كمساء مليء بالدهشة يحمل كمية من المعاني الإنسانية ويعبر عن العلاقات الصامته للأشياء نجد أن قصائد هذه المجموعة الشعرية حريصة على التعبير عن الحياة وكأنها استعادة أزلية لفكرة أن القصيدة هي حياة أخرى نسعى إليها دائما، فيقول في قصيدة (طين الجالسين)
أعرفهم من رائحة ثيابهم،
طبقا للمواصفات القديمة
أعرفهم، جالسين كالغرباء، لا متسخين،
ولا مشاكسين لا أصحاب مشاكل،
ولا مقالب مدرسية، هم مثل الأغنية الصادقة في الذاكرة
ونحن نتتبع أشيائه اليومية في الحياة كأحلام عابرة، سيجد الناظر الى تجربة احمد العسم؛ أن الشاعر يعيد للأحلام والقصيدة سيرتها الأولي، ورغبته الدائمة بجعل اللغة تعبر عن ذاتها وعن طاقتها الإبداعية بحرية؛ فلغته تتسع لصدق إحساسه المرهف ومشاعره، وتنتمي إلى الحياة مباشرة وتحاكي الطبيعة ببساطتها. فهي كنسمة أحيانا وأحيانا كغيوم جامحة، فهو شاعر دائم الإقامة في القصيدة وكلماته لا تتحول إلى غبار لكن ممكن أن تكون أزهار أو أحلام، فهو السهل الممتنع، والصعب لسهولته وسيجد المتلقي يتأمل نفسه في الأحلام المبثوثة كالندى فوق عشب الكلمات.