سلمان النقاش / ادليد
ان المادية والمثالية باتفاقهما على ان المنجز الحضاري يفرز حالة سياسية تستلزم تماما وحتميا وحدة الوجود الانساني في اي مرحلة من مراحل التاريخ المطروحة كمنهج قراءة للتاريخ البشري بحسب المادية التاريخية وان الانتاج الفكري بكافة صنوفه سواء في الفلسفة او الادب والفن او في السياسة نفسها انما هو هو عملية صراع بين المتناقضات تشترك الطبيعة به كعنصر فاعل اذ تترجم عملية استغلال الانسان للانسان على انها ارادة متخلفة، بمعنى ان استغلال الانسان للانسان ماهو الا وجه من وجوه مقاومة الطبيعة من اجل البقاء، وبهذا تقول المثالية على لسان هيغل بضرورة الدولة وقوتها وسلطتها لتنظيم هذا الصراع وفرض المنجز الحضاري كحقيقية مطلقة حتى لو استلزم هذا استخدام العنف باخر قدراته التدميرية، وهذا يعني ان الدولة المقصودة هنا هي الدولة العالمية او النظام الدولي الذي يشمل الوجود الانساني كله.
يبدو ان هذا ما يحدث الان، والا كيف نفسر هذا الاستخفاف المرعب بحياة الملايين من البشر ممن يعيشون على هامش التطور البشري اذ يساقون نحو الموت وكانهم يقذفون في محارق الجحيم الاسطورية لانهم ببساطة غير ضروريين لا للاستهلاك ولا للانتاج، واليوم نحن نقترب من الغاء انتماء الانسان للمكان الضيق واعتباره انسانا عالميا اذا صحت التسمية ولكن بشروط القيم الاخيرة للانسان المتحضر فالامريكيون والاوربيون والاستراليون وغيرهم اناس عالميون بمعنى الكلمة كلهم يخضعون لقيم الانسان المتحضر وتحديداته القانونية الصارمة سواء على مستوى السلوك او تحديدات السلوك القانونية، وسواء كانوا اصليين ام مهاجرين حتى لتبدوا حياتنا هنا اكثر تحررا من حياة الانسان عندهم، فنحن نقطع الشارع بلا اشارات ونتعامل بفوضى مع كل اوجه الحياة، واننا هنا بلا دولة او بعبارة ادق نحن لم ننتم حتى اللحظة الى الدولة العالمية، ياللرعب اذن، نحن امام فوهة الجحيم الجائعة التي تطالب بالمزيد، نحن.. نعم نحن تحديدا الرافضون الاندماج مع الدولة العالمية. او بعبارة اكثردقة نحن الخاضعون لارادة الانسان المتثبت في مراحل التاريخ القديم وسلطته.ترى ما السبيل الى النجاة من الجحيم؟
نظرة واحدة نحو ما يحدث في العراق وسوريا واليمن وليبيا وافغانستان وبنغلاديش والهند وبورما ودول افريقيا وشمالها وغيرها، تؤكد اننا في مازق عظيم، مازق مروع.
في نهاية الحرب العالمية الاولى وبعد ان سحقت الدولة العثمانية التي كنا جزء من رعياها وانا اعني العراق هنا تحديدا بان لنا اخيرا ان الدنيا تحددت بخرائط واصبحنا كعراقيين لنا خارطة ايضا حددها عالم الانسان المتحضر (بريطانيا - فرنسا) وتبدل انتماؤنا من عثمانيين الى عراقيين بموجب اتفاقية سايكس بيكو ، عام 1916، والتي كانت اتفاقا وتفاهمًا سريًا بين فرنسا والمملكة المتحدة بمصادقة من الإمبراطورية الروسية على اقتسام منطقة الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا لتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا بعد تهاوي الدولة العثمانية، المسيطرة على هذه المنطقة.
الم نكن قبل هذا عراقيين، شعب عراقي؟ هل كنا بلا وطن؟ وهل نحن مواطنون؟
اعتقد ان الاجابة عن هذه الاسئلة تكفل بها ثلاثة من الكتَاب وان اختلفت مناهجهم، اذ يتفق كل من الدكتور الباحث العراقي علي الوردي (1913- 1995) في سفره الكبير "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث" مع الدكتور حنا بطاطو الامريكي الفلسطيني (1926-2000) في بحثه المميز عن العراق وكذلك الروائي الدكتور عبد الرحمن منيف(1933-2004) السعودي في روايته "ارض السواد" التي تعد سجلا تاريخيا كبيرا للعراق الحديث اتفق هؤلاء الكبار الثلاثة على ان الناس هنا برغم تنوعهم الثقافي والطبقي والبيئي والعرقي الا انهم يقرون بهذا الاختلاف ويتعاملون معه كهويات لا تلغي انتمائهم للارض التي يعدونها وطنهم، فحين يتنقل هؤلاء الثلاثة في سردهم للوقائع العراقية كل حسب وجهته ترى ان هناك الفة متشابهة يطلقها العراقيون اينما كانوا ضمن رقعته الجغرافية.
لكن الامر يتجاوز العاطفة والرغبة في الانتماء، انه واقع الحياة نفسها، وجود أنساني كثيف في رقعة ارض تتعرض يوميا للتصدع والتشقق بسبب مسافات التخلف التي تتسع منذ ان تقرر للعراقيين ان تكون لهم دولة تحاكي صورة الدولة التي افترضها فلاسفة عصر النهضة، وكان الصراع بين الانتماء الى عالم الانسان المتحضر والذي فرض طريقته بشكل صريح او الانجرار بكلية نحو ارادة مراكز القوى المندكة في تراثه العتيق حتى جاء حدث تموز 1958 ليكون فيصلا حادا وحرجا فإما الالتحاق بالمدنية والاتفاق مع العالم على اننا جزء منه كمجتمع مدني او التسليم بان هذه الارض ومن عليها لايمكن الا ان تكون مجرد ارض.
وجاء الغرباء، ودمروا اور، فقال احد شعرائها
ايها الرب انانا، لقد دمرت المدينة
كقطع الخزف المهشمة، ملأها اهلوها جنباتها
هدمت اسوارها وناح الناس
ناحوا عند البوابات العالية، حيث كانوا يتنزهون
وفي الشوارع، حيث اقاموا الاعياد ونثرت اجسادهم
وفي كل الدروب، حيث كانوا يتنزهون، فتناثرت الاجساد
وفي ساحاتها تراكمت اكوام القتلى
ايه يا اور.. ان ضعفاءك واقوياءك قضى عليهم الجوع
الامهات والاباء الذين لم يغادروا منازلهم التهمتهم النيران
الاطفال في احضان الامهات جرفتهم المياه كالاسماك
وفي المدينة، الزوجة تركت ، والابن اهمل
والممتلكات نهبت
ايه انانا ا ن اور نهبت
واهلها شتتوا