محمد الاخرس- العراق
ويقولون: حدثنا عن أيام الخير يا أبتي، فأخرج لهم من الألبوم صورة بقدر ما هي بائسة بقدر ما تحمل في باطنها تحد للضيم، صورة عمرها عشرون عاما تقريبا وفيها أبدو أنا وأم العيال ومعنا ابنتي ذات الثلاثة أعوام نور الحسن، مقعين على أرض ينتثر فيها الجص. كنا يومها، أنا وأم العيال، نعمل في بناء جدار فوق سطح البيت لفصل شطرين فيه، شطر لنا وشطر لمؤجر نختاره لنعبر بواسطته أزمة مالية خانقة.
كنت أنا أقعي منهمكا في خبط جص بطاسة بناء بينما زوجتي تنتظر أن أكمل مهمتي كي تبدأ هي في مهمتها، فهي كانت “الخلفة” وأنا كنت عاملا تحت يديها.
صدقوا ذلك رجاءً، فشريكة عمري امرأة عظيمة ولولاها لما كنت كما ترونني الآن. وقفت معي في وجه العاصفة وتحملت نزقي ومزاجي وآمنت برهاني على الكتابة.
وللطرفة فقط أقول إنه بينما كنت أنا أخبط الجص في تلك الساعة، لربما كان زملاء القلم يقبضون مكافآت مجزية ويسيل لها اللعاب مقابل مديحهم للسلطة وطاغيتها! ماذا بعد، لماذا كان أمثالنا يعمدون آنذاك لشطر بيوتهم وبناء جدران بينها؟
لأنهم فقراء طبعا، يحتاجون أن يؤجروا شطرا من منازلهم ليعتاشوا بذلك، وهذا ما فعلناه وكان المؤجر أبو مريم ذكره الله بالخير.
نعم، كانت التسعينات مرّة مذلة، من قطعها ولو زحفا على ركبتيه محتفظا بكرامته فقد فاز فوزا عظيما.
هي “أيام خير”، بدليل أنها تبدو لي أيام جحيم لا زلت أرتعب من مجرد تذكرها.
اقول ذلك لأولادي منفعلا كي لا “يتعافوا” على أيامهم هذه.
أقول لهم هي “أيام خير” بدليل إننا كنا نصبغ بناطيلنا مرات ومرات هربا من اضطرارنا للشراء، بدليل أننا كنا نتعارك على البلوزات في الصباح، بدليل أننا كنا ننظر إلى علب البيبسي كما لو كانت أعمالا فنية في متحف.
الحال أننا، نحن الذين ولجنا الستينيات والخمسينيات من أعمارنا، اشتغلنا في كل المهن، بعنا على الأرصفة وغسلنا الصحون في المطاعم، وافترشنا الأكشاك ووقفنا في المساطر بانتظار المقاولين.
قبل أسابيع مثلا جاءتني إشارة فيسبوكية للمشاركة بمنشور رائع لمخرج ومنتج تلفزيوني شهير، سأل فيه ذوي الشأن عن المهن التي جربوها.
كان في المنشور درس عظيم للجيل المرفه من شبان اليوم. ابتسمت وأجبت ذاكرا المهن التي جربتها والطريف أنها كانت أهون بكثير مما جربه مذيعون وصحفيون مشاهير قدموا قائمة بمهن ما أنزل الله من سلطان.
لا أدري لماذا كتبت هذه المقالة؟ أجوابا عن سؤال يشيع اليوم عن “أيام الخير” الوهمية أم لأنني أريد تسلية نفسي وتشجيعها للمضي برهانها؟
لا أدري، ولكنني سعيد بتلك الصورة النادرة، سعيد جدا.