- انا طفلة بعمر كبير وأول قصائدي هي آخر قصائدي
- القصيدة سجدة وصلاة كونية في حضرة من القداسات والتأمل لمعنى الوجود والأيمان
حاورها فهد الصكر
بدات النشر عام 1984، وتوقفت بعد تعرضها للتحقيق من قبل أجهزة النظام المقبور عن قصة قصيرة نشرتها في مجلة الكلية حيث تدرس الطب البيطري، وبنصيحة من الأهل، غادرت فضاء الشعر والنشر والوسط الثقافي، لكن هاجس الشعر وملكوته ظل يراود مخيلتها في كل حين، لتنتصر أرادته في ذاتها وهي تنشده في مدوناتها السرية.
أصدرت بعد التغيير اربعة دواوين شعرية هي "ذاكرة الجرح واحلام الرماد وغيمة الشيطان وجنوب تنحته الأنوثة" ولديها تحت الطبع ديوان "لعشاء الاخير لإخوة يوسف" الى جانب العديد من المقالات والدراسات النقدية نشرت داخل العراق وخارجه.
كتب عنها الناقد ياسين النصير وهو يتناول تجربة واحدة من تجاربها الشعرية " تعد التجربة الشخصية للشاعرة الدكتورة سلامّة الصالحي إحدى مستويات القصيدة الفنية، ولكن المستويات الأخرى وهي ما سنشير إليها تعد اليوم ميدان الشعرية واتجاهاتها، أي تضمين القصيدة البعد المثيولوجي الذي يعتبر الخلفية التي تتحرك فيها كل الأفعال البشرية، وترسم أفقاً استعارياً يبقى مغذياً للشعرية الحديثة، والبعد المعرفي حيث صياغة الحدث فنياً وبطريقة جديدة تعد إضافة معرفية للشعرية العربية، والقصيدة التي تكتبها شاعرة وبمثل هذا الزخم من المعرفة أعتبرها نقلة مهمة في تجربة الشاعرة سلامّة، يعني ذلك أننا أمام تجربة يمتزح الواقع فيها بالمثيولوجي، الصحو بالحلم، الرغبات بالإحباطات، المعلوم بالمجهول، والمرئي اليومي باللامرئي الكائن في أعماق الروح." وقريبا من عالمها الأبداعي كان هذا الحوار:
- اي العوالم شكلت حضور القصيدة الاولى لدى سلامة الصالحي؟
- ربما نشأتي وجينات الشعر التي ورثتها من سلالتي التي سكنت الصحراء، وجاءت الى ارض العراق بقوافلها المحملة بالذهب لتشتري الاراضي المحيطة بمدينة الديوانية فسكنتني فضاءات البساتين ،وصهيل الخيول التي اعشقها وتلك البراري التي كنت اجوبها برفقة ابي وهو يمتطي صهوة جواده وانا التف بعباءته من عرس الى فرح بالحصاد، وبيادر القمح او جني النخل في أواخر تشرين، او حقول الزرع وهي تشرب الماء وقد رافقته الاسماك الصغيرة التي تعلق مع النواعير وهي تدور لتوزع الماء بكرم على تلك المزارع التي ظل جمال المنظر وهداته يشكلان وجداني وحبي للحياة والناس، ووجه أمي الجميل وهي تحكي لي تلك القصص التي مرت بها والتي يختلط فيها العجائبي بالحلم، بالواقع أو تلك الليالي الطويلة ونحن نجلس حول موقد النار في قريتنا او بيتنا في المدينة، وجداتي وهن يرتلن أخر الاهازيج والقصائد والحكايات واخي ذلك الشاعر الجميل حين يجلس بيننا وانا بعمر صغير ليحكي لي عن البياتي والسياب وادونيس ودرويش واليوت ،فكنت انصت بخشوع لصوته الرخيم وهو يتلو قصائده او قصائد من الشعر العربي او العالمي تأثر بها واثرني بها فكان عرابي ومعلمي وصديقي.
كان الشعر يستهوي روحي فأطير مع عوالمه الى الغيم واسكن عوالم غريبة اشبه بالفردوس بعيدا عن واقعي الارضي كان القصيدة امرأة ساحرة تأخذني بعربتها التي تجرها الخيول الى اميري الموعود فيضج قلبي بحنين غامض لا اعرف تفسيره الى ان انضح ذلك السيل الذي يموج بروحي وهي لحظة نزف القصيدة فتخرج كائنا يحمل ملامح روحي من رحم المخاضات التي اعيشها كأنثى وكإنسانة خبرت المخاضات الحقيقية وجربتها كأنسانة، ولا ادري متى ولدت أول قصائدي ولان الشعر كائن دائم الخضرة يسكن الروح فهو يمدك بالشباب ولا يجعلك تشيخ بسهولة فانا طفلة بعمر كبير واول قصائدي هي اخر قصائدي.
- متى اكتشفتي ذاتك الشاعرة وان باستطاعتك التاثير في الوسط الذي تكتبين فيه؟
- الذات الشاعرة لا يكتشفها الانسان، الا لأنه مولود بها. والعرب قديما تعرف الشاعر منذ طفولته حين يرمز الاشياء ويعطي صور لغوية عن الاحداث التي تواجهه، وتقول امي انني عندما كنت صغيرة كانوا يسموني العرافة، كانت إيماءات وجهي وحركة يدي واقدامي تسترشد بها امي لمعرفة ما ستأتي به الايام وكنت لاأزال احدس بالأشياء واتنبأ بها، وامي كانت تخاف من احلامي لأنها ستتحقق بكل تفاصيلها، والآن عرفت لماذا كانت امي تخاف من احلامي فقد رأيت تفاصيل حادثها المروع الذي رحلت به هي وحفيدتها الصغيرة، حدسي يرعبني احيانا لأنه علم بالشيء قبل ان يحدث دائما، والشعر حدس ونبوءة لما سيحدث وترميز لحوادث الكون الازلية وقراءة بعين الشاعر لصور الكون وهو يتصفحها بتوترات روحه واختلاجاتها لتفاصيل الكون واسراره، والقصيدة هي ماتلتقطه الروح الشاعرة لبرق وهذيان الصور الكونية التي يختزنها العقل الباطن على هيئة رموز وايماءات اشبه بالسحر، ذلك هو لحظة الابداع التي يسجلها المصور الكوني الذي هو حلقة الوصل بين الواقع والعالم المتخيل لتمر لحظة الانجاز الابداعي ببرزخ الغيمة الماطرة التي تكون قصيدة او لوحة او رواية او سمفونية، اي هذا التواصل الانساني مع القوى الخارقة، ربما لعوالم قديمة او عوالم مستقبلية، من هنا تولد الصور الشعرية او الفنية والترميز الذاتي للكون الموضوعي، لذا فلغة الشعر ليست بالغامضة بالنسبة للشاعر او الوسيط الجمالي، انما هي لغة مشفرة لعالم يحسه ويراه الشاعر ويحس به من يمتلك الذات الشاعرة التي يصاب احيانا بالخرس اللغوي فلا يستطيع التعبير بذلك عن طريق اللغة فيرسم او يعزف تلك طرق اخرى للتعبير عن الشاعرية.
ولانه عالم جمالي محض تتحول لغة الواقع الى لغةاخرى، فهو محلق حالم طائر بأجنحة الحنين الى البدء الاول واللحظة الاولى والجمال الاول تلك اجنحة الشعر الطويلة التي تحلق به بعيدا الى لحظات ابداعه فالشاعر باعث للجمال والحب بطاقته الإبداعية التائقة للحفر والتنقيب عن مكامن الجمال الانساني وكشف روح الله بالوجود كله ليرتقي بالنتيجة بالذات الانسانية الى عوالم السمو والنبل الانساني، ولذا فان الشاعر ولا اظنني مبالغة، مخلوق يشرب من الغيم ويتغذى من الضوء، وهو ساطع ونقي وجميل وكل من افتقر للنقاء والحب ليس بشاعر وان ادعى ذلك او حاول استراق ذلك من انبياء الشعر.
- هل يحتاج الشاعر - الشاعرة، الى فضاءات مغايرة لأطلاق مخيلته؟
- الفضاءات المغايرة هي التي تصنع روح القصيدة، الواقع يطلق ماء القصيدة وترابها والفضاءات المغايرة هي التي تعجن القصيدة بالضوء والخمل الذي يأخذ خلاصة الكون بترميز عال فقد يحول الشاعر البحر الى دمعة غزيرة او الشجرة الى امرأة تحكي حكايتها الخرافة لان الشاعر هو مترجم الكون للبشر وربما الفضاءات المغايرة تخلق لدى الشاعر الاحساس بعبثية الحياة وان هناك عالم اخر اكثر جمالا ينتظره ويترقب مجيئه.
- المرأة رمز الخصب والنماء، تحفزنا على الحلم، هل حركت فيكِ جذوة الشعر؟
- الانثى في داخلي تنشطر الى ام واخت وصديقة وحبيبة وحارسة للحياة وانسان ينتمي الى الكون الشاسع، اشعر دائما اني انتمي الى كل البشرية في اصقاع الثلج او مجاهل افريقيا، احب جميع البشر بكل اعراقهم ولغاتهم، انتمي الى الارض التي هي عائلتي في هذا الكون الشاسع والانسان يعنيني في كل مكان. واي ألم يشعر به بشر في هذه الارض يوجعني، ليس في قائمتي اعداء كلنا جزء من بعضنا وننتهي الى ارومة واحدة وتكاثرت انا ام لكل انسان واخت وصديقة وهذه الانثى التي بداخلي اعطتني ثراءي الروحي الذي نضح مني شعرا، قلبي يمتلئ بالحب للحياة والمعنى واحب وطني حبي وحرصي على جنيني الذي اخاف عليه حتى من نفسي اشعر ان الحياة قيمة كبيرة وامانة اودعها الله للبشر، وهي ابداع كوني هائل يجسد صورة الله الجميلة وكل من يعتدي على الحياة هو لا يعرف الله وكل هذا الحب لله والخلق والجمال هو الذي يمدني بطاقة الابداع التي تبقى بعد رحيلي ارث لمن احببتهم، انا الراعفة بالحب ورعشة الحياة وسعيدة جدا اني انثى امتلكت رحما انجبت منه خمسة نوارس ينضحون حبا وجمالا، لأن الانثى حارسة الحياة والجمال والمعنى وطبيعي جدا ان تكون الانثى بداخلي قد حفزت بداخلي عشق الكلمة وكل مايمت للابداع والجمال بصلة.
- القصيدة كاللوحة الفنية، ابجديتها الألوان، ماذا تعني لك هذه العبارة؟
- القصيدة طاقة ابداعية رمزية ولغة ساحرة، والمفردة الشعرية مفردة مبتكرة، أي لغة امل ومستقبل، هي ابتكار للحلم والامل والمعنى والحدس الذي فيها ياتي بطائر الفرح واحيانا بسرب هائل من سجدة وصلاة كونية في حضرة من القداسات والتامل لمعنى الوجود والايمان بمقدرة الانسان على فهم الكون ورؤية الخالق بكل جماله وتفاصيله الهائلة المعنى الشاعر رائي ونبي والقصيدة رسالته للوجود والشعر فلسفة محببة وموقف من الوجود والاحداث التي يمر بها الناس وبصمة تاريخية للإنسان على هذا الكوكب.
هو الارث الانساني الذي عرفنا به مامرت به النفس البشرية من مراحل تطور وكيف عبر الشعر عن حضارة واناقة الفكر الانساني وعظمته ،عالم بلا شعر هو عالم جامد بلا روح او معنى، لذا فان لغة الشعر لغة مقدسة كهنوتية مباركة لانها سجل للاوقات المباركة.
- ثمة محاولات مغايرة بعد التغيير، هل انطبع ذلك على الشعر، القصة، التشكيل؟
- ربما ظهرت تجارب هنا وهناك لكن للأسف لم تكن بمستوى الحدث ومستوى العصف الذي حدث في حركة التاريخ الراهن للعراق، وذلك الطوفان الذي لازال يمد فوهته بين حين واخر من موت وخراب قيمي وفساد وخواء ولصوصية تجعلني احيانا بحالة ذهول عما يحدث وكيف يقف الشعر وغيره من القيم الجمالية عاجزا عن التعاطي في إيجاد مخرج من مازق التردي الذي نراه وقد تأنقت الناس بمظهر تاركة المضمون وقد تشوه بهذا الشكل الذي نراه من اباحة للدم وهدم للحياة ومستقبل الوطن وقد انعكست هذه التداعيات على ما تشهده الثقافة العراقية مع هذا الهامش الكبير من الحرية على هيمنة انصاف المثقفين، وحتى من يمارس الارهاب وسحق الاخرين واقصائهم من المشهد الثقافي تحت اسقاط الواقع المريب الذي مر به العراق بعد التغير، وكان هذه الشلل المشتغلة بالثقافة كما تدعي هي انعكاس لصورة من خرجوا عن القانون ليدمروا على قدم وساق ان تكون هناك ثقافة ناصعة تأخذ بيد الناس الى ان تكون قائدة للوعي الوطني والانساني، وهذا لا ينفي ان هناك تجارب قيمة وقد اخذت مكانتها وفرضتها بابداعها الحقيقي وقيمتها العظيمة من رواية وتشكيل وشعر وموسيقى، وانا على ثقة ان المسوخ التي ظهرت بعد التغير ستكون اعمارها قصيرة لان الثقافة انتماء جمالي وانساني ولايمكن ان يمنح الخواء في الوجدان والمعنى، وأي قيمة للحياة لابد ان يظهر في الآفق الفرسان الحقيقين للجمال تلك هي مراحل التغيير التي لابد وراء كل انحطاط نهضة وصحو وارتقاء بالقيم الحقيقية للثقافة والوعي الان.
- هل هناك ثمة مدرسة نقدية عراقية في فضاءات الشعر تحديدا؟
- ليس هناك مدرسة نقدية عراقية جدية تتبنى مايحدث في الثقافة العراقية على مستوى الانساق الرفيعة للثقافة، وكل النقاد في العراق تبنوا تجارب فردية، حتى على المستوى الاكاديمي لاتزال المدارس الغربية هي المتواردة في الدراسات والتحليل والنقاد العراقيين الحقيقين والمعترف بهم مشغولين في تحديد بصمتهم الخاصة بهم في رؤيتهم للوجود والفلسفة وليس دراسة وتحليل ما يكتب الآن ولا تتعدي دراساتهم الا الاشارة الهامشية لما ينتج وهذا مدعاة للقلق لان اهتماماتهم اكثرها موجهة لما ينتج خارج العراق ربما للبحث عن وجود خارج منظومة الوطن، ولان النقد مدارس ومتسع الميدان وربما كسدت بضاعتهم تحت سيل الخارجين عن الثقافة فنأوا بوجوههم بعيدا عن دخلاء الثقافة الذين اشهروا خناجرهم بوجوههم تحت مقولة الاكل في مائدة معاوية ادسم وليس الصلاة خلف علي اثوب.