القاص والروائي نهار حسب الله لـ "بانوراما":
أعيش في مقبـرة الازمات اللامنتهية في بلاد مزقهـا الظلم
حاوره / فهد الصكر
يتطلع القاص والروائي فيما بعد، نهار حسب الله إلى أن يكون فاعلا في تأسيس الوعي والتسلح به ضد الإرهابِ والخوفِ والعنفِ.، من خلال كتاباته في واحة القص القصير، وهو لابد كان قريبا من محيطه! وعانى هذه الأشكالية.. ولذا تجد جميع شخوصه تشتغل في هذه المنطقة الخطرة، رغم حداثة عمره الأدبي، فهو أقترب بجرأته الى حد بعيد من حل، بل والمساهمة في تشكيل فضاءات للخروج من هذه الأشكالية المعقدة، ونهار أمتلك أدوات وعيه المبكر للأحاطة نفسيا وثقافة بما يريد أن يذهب اليه، وأضافة شيء مغاير فيما يقرأه المتلقي، بعيدا عن التقليد فيما أنجزه الأخرون، وهو بذلك يخطو بثقة واضحة وجلية تؤشر الى كاتب قد تتميز رؤاه مستقبلا، وتضيف أعماله الى المكتبة العراقية والعربية وعيا قصصيا وروائيا، وهذا يتطلب صفات شخصية وفلسفة ذات بعد شامل قبل أن تكون كتابية. وهذ ما أكتشفته لدى القاص والروائي نهار حسب الله يحيى، وهو يمتلك رصيدا رائعا في منجزه الأبداعي (رواية ومجموعة قصصية) بالأضافة الى كم هائل من القصص القصيرة جدا. وقريبا من عالمه الهادىء أسجل هذا الحوار.
- هل لأسم حسب الله يحيى تأثير عليك، أو بصمة على منجزك الأدبي؟
- بالتأكيد.. حسب الله يحيى صديق جميل أكثر مما هو مجرد رب اسرة تقليدي.. دائماً ما كان يقرأ لي وينتقدني بموضوعية عالية شأنه شأن اي ناقد اكن لتجربته العميقة كل الاحترام والتقدير.. منذ البداية أردت أن أصنع لنفسي شخصية مستقلة لا تتبع الموروث ولا تشكل من الادب طابعاً وراثياً، فعلى الرغم من التزامه (حسب الله يحيى) باشراف وتحرير عدد من الصفحات الثقافية في الصحف، إلا انني كنت ومازلت اتحاشى، لا بل امتنع عن النشر في اي منبر يتواجد فيه.. حتى إذا أشرف على مسابقة إبداعية هنا وهناك.. كنت امتنع عن المساهمة فيها لمجرد وجوده في لجنة التحكيم.. وذلك للابتعاد عن الاحراج والعاطفة.
- هل تعد الرواية - هي عملك الأفضل بعد مجموعة كبيرة من القصص القصيرة التي كتبتها ونشرتها؟
- قبل الحديث عن الرواية، كانت قد صدرت لي في القاهرة مجموعة قصصية أولى تحت عنوان (ثورة عقارب الساعة) والتي تزامنت مع حلول الربيع العربي، وقد تناولت فيها المجتمع العربي والعراقي على نحو خاص بمزيج يجمع بين الواقع المُرّ والخيال الساخر، فضلاً عن نبذها للتطرف الديني والمجتمعي ووقوفها على الضد من لغة الدم.. وهو الأمر الذي دفعني للتعبير عن ابتسامات وانفعالات نزفت حروفها على الورق لتكون رسالة تهدف للحرية. وكانت معظم شخوص قصص المجموعة وأحداثها تتمحور في صورة سردية غاية فى البساطة والتلقائية والعفوية، من دون صخب؛ لتكشف زيف هذا الواقع الأليم الذي نعيش مشاهده المأساوية كل يوم، وذلك عن طريق تقنيات السرد المختلفة منها: الحلم، التأمل، مزج الخيالي بالواقعي، تداخل الأزمنة، استدعاء الماضى عن طريق التذكر ومزجه باللحظة الراهنة ثم استشراف الزمن الآتى. أما عن تجربتي الروائية الاولى (ذبابة من بلد الكتروني) والصادرة مؤخراً عن دار الينابيع في دمشق، فهي تجربة مهمة وربما تشكل انتقالة كبيرة في حياتي، بغض النظر عن كونها الافضل في عالمي السردي المتواضع.. فتلك مسألة يقيمها النقاد والقراء. (ذبابة من بلد الكتروني).. رواية تناولت فكرة غير مستهلكة بحسب شهادة عدد من النقاد والمختصيين، وتحمل نوعاً من الفنطازيا، باطار خيالي وواقعي معاً، تستقصي ظواهر المجتمع العراقي وما حل به من أزمات وتناقضات ما بعد تغيير النظام الحاكم والحرب العراقية الامريكية 2003. ما دفعني وحفزني الى خوض هذه التجربة، هو الكشف عن الحرية المطلقة التي اعتقد انها مجرد اسم على غير مسمى، أردتُ منها استقصاء حقيقة ما (حصده) الشعب العراقي بعد التغيير والخلاص من الدكتاتورية.
- ما هي الحقائق التي تتوقعها حين تكتب الرواية، هل هو نزوع نحو الكشف الفلسفي لقراءة الكون ثانية؟
- الرواية لا تبحث عن الحقائق.. الرواية تكتشف الحقائق وتَعمل على تغييرها، الرواية أفق باتجاه بناء حقائق جديدة خارج الأطر التقليدية المتعارف عليها في حياتنا الاجتماعية. وهي نزوع فلسفي يقرأ الواقع بمنظور مستقبلي يعتمد للوصول الى منطوق جديد يسهم في تغيير المجتمع نحو البناء والسلام والحياة الافضل.
- ثورة الأنترنيت، وعالم التواصل الأجتماعي الفيس بوك هل أثرت على الكتاب المطبوع، كالرواية والقصة والشعر؟
- على الرغم من ان للكتاب او المطبوع الورقي احساس وذائقة خاصة لدى بعض المؤمنين بمقولة (إرنست همنغواي): (ليس هنالك من صديق أوفى من الكتاب) إلا ان سوق الكتاب الورقي بدأ يكشف عن همومه ونسبة القراءة بدأت تتضاءل في ظل عصر الثورة المعلوماتية والتواصل الاجتماعي (الميديا) التي تختزل لك الوقت في اكتساب المعلومة.. اعتقد ان المطبوع سيتأثر بشكل أكبر إذا ما توفرت خدمة الكتاب المسموع أو المرئي بقتنيات حداثوية افضل. في العراق تحديداً شكلت التقنية المعلوماتية كسب اجيال جديدة وبأعداد هائلة من القراء الجدد الذين يتواصلون مع الجديد والمفيد من القراءات.. خصوصاً مع افتقارنا الى مؤسسات حكومية تعنى بالترويج والتوزيع والنشر.
- في قراءتك للأعمال الأدبية التي أنجزت بعد العام 2003، هل تجد بحثا مغايرا في المشهد الأدبي العراقي؟
- اعتقد ان الابداع يولد في زحمة الازمات ليشكل أوراقاً احتجاجية على الواقع الملبد بالمأساة.. بعد التغيير حصدنا ثماراً متنوعة حملت عنواناً واحداً إذا ما اردنا حصره تحت أسم (الحرية العبثية)، وأعني بذلك (حرية التعبير، وحرية القتل العشوائي، وحرية انتهاك الحريات....) وكان المشهد الادبي العراقي أول من جنى وتذوق هذه الثمار، إذ اشتغل عدد من الادباء والاديبات على هذه الترددات والانفعالات.. وأذكر لك أمثلة مما يخطر في ذهني من روايات (سيدات زحل / للطفية الدليمي، مملكة البيت السعيد / لحنون مجيد، الحفيدة الامريكية / لانعام كجه جي، والذباب والزمرد / لعبد الكريم العبيدي..) إلا ان كل هذه الابداعات وغيرها لم تتمكن من كسب الشارع والسيطرة على تشظياته وتوعيته بالمفهوم الثقافي.. نحن أمام جيل مكبل بالازمات الحياتية الثقيلة التي لا تتيح له فرصة التفاعل مع الكلمة.
- كيف تنظر الى المشهد الثقافي العراقي، وأنت ترى هجرة الكثير من المبدعين؟
- دائماً ما نشعر بتأثير الهجرة القسرية التي تعرض لها عدد كبير من صُناع الثقافة والفن والابداع العراقي.. وكثيراً ما ندرك صعوبة ملء ذلك الفراغ ببدائل لها القوة والخبرة الابداعية التي كان يحملها من غاب عنا، إلا انه وعلى الرغم من محدودية دعم القائمين على الثقافة العراقية للمواهب الابداعية الجديدة، نستطيع الحكم على المشهد الثقافي عامةً بوصفه يشهد نقطة تطور ملموسة وإن كانت فردية.
- ما هو موقفك كأديب ومثقف، مما يجري في العراق، وهو يعيش فوضى سياسية لم تستقر ملامحها بعد؟
- شأني شأن اي مواطن عراقي يعيش في مقبرة الازمات اللامنتهية في بلاد مزقها الظلم، وسادها الخوف.. اتابع فوضى السياسة والتصريحات المتناقضة التي يطرحها علينا صناع القرار بلا خجل من وجوهنا التي اغرقتها دموع الالم والفقر.. ان الكتل السياسية تتفنن في صناعة الازمات وبناء خلافات جديدة بدلاً من بناء ما يعيد لنا الامل بالحياة.. وقد بدأت الساحة العراقية تعي جيداً (الاسلمة السياسية) و(التطرف السياسي) الذي يمارسه عدد من الساسة بهدف تهميش الآخر وسلب ابسط حقوقه لنيل مكاسب شخصية.. هنالك أيادٍ قذرة تحفر نهر دم طائفي يعيدنا الى أيام الموت العبثي، مع ان الجميع يتحدثون عن الوطن والأنتماء اليه، ولو كان هناك احساس صادق لتخلى كل واحد منهم عن مكاسبه الاستثنائية.
- يشير بعض النقاد الى محدودية حضور الأدب العراقي في الخارج والى أشكالية تأكيد حضوره، كيف تفسر ذلك؟
- يقول (تشرشل): (الانتقاد قد لا يكون محبباً لكنه ضروري لانه يقوم بوظيفة الألم نفسها في جسم الانسان وينبهنا الى أمر غير صحي).. إشارات النقاد المتكررة حول محدودية حضور الابداع العراقي في الخارج ينم عن متابعة موضوعية تهدف لإصلاح الواقع الثقافي العراقي، وإعادته الى بريقه اللامع.. نعم.. هناك اسماء عراقية كبيرة عملت على نحت ابداعاتها المتنوعة في سماء الغربة ولا يحق لنا تهميش منجزاتها الرصينة.. ولكن باب النقد مفتوح على وزارة الثقافة العراقية التي اصبحت وزارة للايفادات والسفرات والندوات المحصورة على مدرائها العامين الذين لا يجدون وقتاً كافياً لمعالجة الشأن الثقافي العراقي الغائب منذ عام 2003.. والكل يعمد على ترحيل الثقافة الوطنية في العراق الى الخارج فيما هي منطفئة في الداخل.. القائمون على الثقافة العراقية.. لا علاقة ولا اهتمام لهم بالتنمية الثقافية للبلاد.. من هنا نجد الثقافة العراقية منطفئة ولذلك نجد معظم الكتاب العراقيين يلجأون لطباعة كتبهم في الخارج.
- ماذا يكتب نهار حسب الله ، اذا مر ذات يوم من تحت نصب الحرية لجواد سليم؟
- انا اعالج نفسي من خلال كتابتي المتواضعة، لاني اعتقد انها توفر لي علاجاً نفسياً وجسدياً، استخدمها كمشرط لاستئصال اورام خبيثة تنمو في داخلي يزرعها الواقع المتردي الذي يدور حولي اينما توجهت! الكتابة تبعدني عن الاحساس بالوحدة القاتلة وتشكل لي انفاساً جديدة وتعيد إلي انسانيتي الغائبة.. (أنا أكتب لأشفى) كما تقول الروائية التشيلية إيزابيل الليندي. سأكتب.. وسأصرخ في كل مكان، مطالباً بحياة حرة، وسأتوسل الجوع ان يغادرنا ولو قليلاً، وسادعو الموت ان يراجع ارواحنا التي سرقها عن طريق الخطأ. عليّ ان ابتعد قليلاً عن تمثال جَواد سليم ونصب الحرية بوصفه رمزاً لأني اريد تفعيل واقع حريتي كإنسان في كل مكان.. وإذا أردتُ القول بأني مؤمن بالحرية فانني أرى ضرورة ان اعمل بعيداً عن هذه المساحة حتى لا احدد حريتي.