سجال الركابي، غيمة أينما امطرت عاد خراجها لمنحى من مناحي الحياة، مربية الأجيال المفعمة بغريزة الأنوثة الوهاج، المرأة اللطيفة الرقيقة الحنونة التي تتحمل المواقف الصعبة.
لقد جمعت مابين الأدب والفن والعلم حتى أصبحت مصدرا وهاجا في ظلمات التعصب وكلما تألمت ازدادت عاطفة وانتشر عبقها في كل اللحظات .
تفوقت الركابي فى مجال الفن، وأثبتت دورها على أكمل وجه، وأبدعت في الشعر فشهدت منصات المهرجانات لوعة صياغة اشعارها قلائد بابلية تزين أنوثة الأدب العراقي. نحلة تبحث عن أجمل الزهور في بساتين العشق لتمتص رحيقها، تبعث لنا شهد التوهج في مدارات الشوق.
كنت أينما اذهب الى حيث النشاطات الفنية، العلمية، والأدبية في أستراليا، يقع ناظري على تلك الفراشة الأنيقة التي يتناثر عطر ابتسامتها فيزداد المكان أناقة بوجودها. اقتربت منها وتعرفت اليها فوجدت تلك الغضاضة تحمل في طياتها كنوزا عجز عن حملها الكثير، فكيف للصخور الجلدة أن تنصهر في أيقونة رقيقة يخاف عليها من الخدش وحتى الانكسار؟
تعرفت عليها في العاصمة كانبرا، إذ كانت تشغل منصب المستشار الثقافي العراقي. مسؤولية كبيرة لم تأن على ثقل حملها، فكانت ممثلة للعراق وللمرأة بصورة اختلفت عما هو ظاهر من دور للمرأة العراقية في المجتمع الجديد.
أنها الدكتورة سجال عبد الوهاب الركابي، التي أبصرت أنوار قباب سيد الشهداء في أول صرخة لها في الحياة، فاقتبست من تلك الأنوار منهجا لحياتها، أكملت شهادة البكالوريوس في الأحياء من كلية العلوم في جامعة بغداد. في بغداد حيث المتنبي واضطجاع الكتب على الأرصفة والأزقة، تلقفتها كمن ينقذ غريقا وضمتها لصدرها في قبلة الحياة التي رسمت مسارب الشعر والأدب في حياة الركابي. كلما ازدادت ادراكا، كلما اتسع اناء علمها مطالبا بالمزيد. حثت الخطى وحملت حقائب الغربة لتغوص في بحار العلم مكملة بشرف المرأة العراقية شهادة الدكتوراه: بيولوجية خلية وفطريات من جامعة ريدنج في المملكة المتحدة.
عملت معيدة في جامعة البصرة، وحصلت على الاجازة الدراسية في التدريس والبحث العلمي في جامعة البصرة، جامعة بغداد، والجامعة المستنصرية
عملت معاون مستشار ثقافي ثم مستشار ثقافي ( وكالة) لجمهورية العراق في استراليا من العام 2006 للعام 2010، حيث برزت بنشاطاتها وحضورها ومشاركاتها المتعددة، ورغم مسؤولياتها الدبلوماسية إلا أنها لم تركن علميتها على رفوف الشهادات، فعملت أيضا استاذا مشاركا فخريا في جامعة جنوب كوينزلاند أشرفت على عشرات الأطاريح والرسائل لشهادتي الدكتوراه والماجستير.
وددت أن أقف عند كنوزها العلمية فوجدت لها ثلاثين بحثا منشورا في مجلات محلية عربية وعالمية ولها براءة اختراع كتاب منهجي لطلبة الجامعة في علم الخليّة، كما وأنها عضوة في العديد من الجمعيات العلمية، وشاركت في مؤتمرات علمية في العراق والدول العربية. تجيد الانجليزية وتهوى الرسم حتى أبدعت به، وحينما شعرت بالاجهاد العلمي، وجدت لنفسها فسحة وخلوة في معبد الشعر، تقاعدت من العمل وتوجهت لكتابة النصوص الشعرية التي نشرت في العديد من الجرائد والمجلات وفي مقدمتها جريدة بانوراما.
كتبت عنها دراسات نقدية من قبل العديد من الشعراء النقّاد العراقيين المرموقين ومنهم: داود سلمان الشويلي، شلّال عنوز، ناظم ناصر، د أنور غني الموسوي، د. صباح عنوز. ترجمت بعض قصائدها الى الانجليزية والكردية.
أقيمت لها العديد من الاصبوحات والأماسي الشعرية في البيت الثقافي البغدادي شارع المتنبي، نادي العلوية، المركز الثقافي العراقي في لندن، كما دعيت الى العديد من المهرجانات الشعرية منها الدنمارك والمغرب.
نشرت لها المجاميع الشعرية التالية: ترنيمات امرأة عراقية٢٠١٣ صوب بستان النخيل ٢٠١٣ لم يأتِ القمَر ٢٠١٤ حديث الياسمين (مشترك مع نخبة من الشعراء العرب) ٢٠١٥ صدى الفصول (مشترك مع نخبة من الشعراء) ٢٠١٥ وفي طور الطباعة : الوردُ يبكي والبارودُ يبتسمُ.
الناقد أحمد البياتي قرأ قصيدة الركابي وغاص في أعماق المعاني التي يخفيها الحياء الأنوثي فأخرج منها محارات كلما فتحت واحدة منها تلألأت منها جماليات المضمون المكنوز:
ترنيمات امرأة عراقية وصَوْبَ بُستان النخيل مجموعتان شعريتان للشاعرة د . سجال الركابي صدرتا عام 2013 الأولى صدرت عن منشورات ضفاف وتضمنت ( 28 ) نصاً والثانية صدرت عن الدار العربية للعلوم ناشرون ، بيروت – لبنان وتضمنت ( 57 ) نصاً .
تشكل اللغة في الكتابة الشعرية ركناً أساسياً ومهماً إذ لاتنهض بدونها القصيدة ، اللغة هي موطن الهزّة الشعرية التي تباغت وتنعش وتجسد الفاعلية الشعرية ، لاشك ان لغة القصيدة تمثل شعرها الجمالي الأول وتختزل كيانها المادي كونها مركز الفتنة والحيوية في القصيدة ، وان معظم مافيها من جمال ومعنى وفاعلية يجعلنا نشعر ونتحسس دلالتها الساطعة من حيث البناء في هذا الهيكل الممتلىء بالحرارة والشاعرية .
في نص وصية من ترنيمات امرأة عراقية ص 44 تقول :
لاتبكِ حين ينفكُ قيدي
غدا
سأتحرر من جسد يكبلني
اصير لونا في ورقة خريفية
في غابة ما
او ندى في غيمة خجلى لاتبلل اليمشون
في صيف بغدادي قائظ
غدا
اتسلل لارقب لوحات مونيه
بعد ان يغلق الحراس الابواب
غدا
اتهادى موجة كسلى في شط العرب
وتقول ايضا في مقطع من قصيدة ترنيمات ص 17 :
ينظرون يحدقون
عمياء أنا
ولكني أبصرُ السراب
الذي لايرونه
كيف يتسنى للشاعر ان يدخل القارىء في غمرة احساس جارف بحيوية موضوع ما من موضوعات الحياة اليومية التي نعيشها بتفصيلاتها المتغيرة ؟. الكثير من الشعر اعتاد ان يستجيب للموضوعات المختلفة وهذا شيء جميل، غير أن المرء يحس احيانا ان معظم هذا الشعر ماكان له ان يكتب لولا الإستثارة المهيّجة، وهذا يعني ان القصيدة ستكون خلقاً جديداً لتكون ردة فعل لواقع أو حدث ، الشعر اذاً لابد ان تكون الرؤية فيه مشتعلة يقظة تلتهم الواقع وتغور وراء قشرته الظاهرية بحثاً عن الجوهر ، لذلك كله فأن نار الرؤية وجمرها قادران دائماً على رؤية الجوهري والشامل في ماهو عادي ويومي من اشياء الحياة وتفاصيلها الكثيرة وهما اللذان يجعلان من الموضوعات الصغيرة العابرة تجسيداً جمالياً مدهشاً لإنشغالات الإنسان وحلمه ومخاوفه وتطلعاته .
في قصيدة نهاية ام بداية من نفس المجموعة ص 41 تقول :
بعد كد وعناء كبير
تتراءى لك باب
عليها عبارة
هنا انتهاء المسير
تلتفت وراءك ضارعا
ان يكون
مشيك على الرمل
ترك اثرا يشير
إلى وجودك
غدران الفرح
وضحكات الطفولة البريئة
وتقول ايضا في قصيدة خشية ص 49 :
أخشى أن تعلو دقات قلبي
على دقات ساعة الحائط
وأنا أرتشف صوتك
وأنتَ تطلبُ جريدة الصباح
أخشى أن تنتشر رائحة البخور
من مسامات جلدي
المتقدة ، لمجرد
نظرة عابرة
ترمقني بها وأنت منشغل
بتنسيق رباطكَ
الشاعرة تغامر لتعبر عن عطائها وتجاربها الفكرية والجمالية بشكل محسوس باعتبار ان الرموز هي ميدانها الذي فيه تبتكر وتغتنم للأفق الإيقاعي لقصائده ومفصحة عن أنشغالها ومكابدتها لإطفاء الحرائق المشتعلة داخل نفسها اعطتنا قدراً من المتعة وأثار في نفوسنا نحن مثل ماأثارتها في نفسها .
تقول في قصيدة الأرض وأنا وأنت من مجموعة صوب بستان النخيل ص 74 :
تشققت الأرض
ظمئي إلى قطرة مطر
المرآةُ نبذتني
عُيون أذبلها السهر
ووجه فقد ملامحه
ظاميّ إلى قطرة مطر
الأرض عطشى
تكاد تميز غيضا
أحشاؤها تتلظى
ظمئي إلى قطرة مطر
إنسانيتي خلعتني
فرَّت نحو أرضٍ
مازال يسقيها المطر
وتقول في قصيدة إنتصار من نفس المجموعة ص 61 :
مهلاً أيُها الحُزن
لن تسحبني الى القاع
سأبقى صامدة
مهلاً أيتُها الوحدة
لن تعبثي بروحي
سأظل قوية
مهلا أيتُها الغُربة
لن تجرفيني
لمحاتها الشعرية توّلد جمل شاعرية مصاغة بدقة متناهية ، كان واضحاً في إيصال بنائها الشعري بإحكام متدرج نحو النمو مستندة الى الوجدانية الشاعرية معبرة عن تجربتها العميقة للحياة بما فيها من الخليط المتجانس للأحداث. استطاعت الشاعرة د. سجال ان تضّمن في اشعارها كثيرا من الصور والأخيلة لتكسبها روعة وجمالا وتوشح نصوصها بالقوة والتأثير، اشتعالات الروح في داخلها شكلت عندها اجواءاً شعرية لكل نص من نصوصها إذ جمعت الى جزالة البيان رقّة العاطفة
في قصيدة أتوقُ إليكَ من نفس المجموعة ص 37 تقول :
أتوقُ اليكَ لعينيكَ
نجمتين
في عُتمة حيرتي
لمنكبيك
صخرتين
تتكأ عليها وحدتي
ليديك
دليلي لهويتي
لصوتكَ
عطرٌ رجولي يؤجج صبوتي
ياسهيلاً
يُخفق في ليل وحشتي
يارجلاً
إحتكر شوقي ولهفتي
وتقول ايضا في قصيدة أيُّها الوجع من نفس المجموعة ص 56 :
أيّها الوجع أنبت سوسنا
لاتنبت شوكاً ولا حنظلاً
أيّها الوجع
إرفعْ غشاوة رؤيتي
لأرى مجرات جديدة
أزِل الصدأ عن حُنجرتي
أُغرِّد لغات عديدة
أيّها الوجع
لقّح عريشة أفكاري
تحمل عنبا شهيا
نقي الكُدرة من نفسي
ينساب شلال مودّتي نقيا
كما وجدت في اكثر نصوصها درراً منسقة وكأن منتجتها صائغة ماهرة، اضافة الى امتلاكها الرؤى في عباراتها الجميلة الهادفة والمعبرّة ومفرداتها العميقة حين اوصلتنا الى اللحظة الصادمة المثيرة .
كما كان التعامل مع نصوص الشاعرة بوصفها موضوعاً جمالياً يمنح أدواته الفنية من تصور خاص لمفهوم الشعر ووظيفته، حيث يتجدد الإشتغال الشعري في هذه المجموعة باعتباره فعالية لغوية ابداعية تقوم على التنظيم الخاص لوسائل التخييل الشعري من لغة وصور وأساطير وإيقاع ورموز.
لتنزيل الصفحات كما نشرت في بانوراما بصفة pdf يرجى الضغط هنا
لقراءة النص كما نشر على النسخة الورقية للعدد السنوي