محسن بن سعيد/ سيدني
هناك الكثير من الأساطير والقصص الخرافية التي تصف رحلة النزول إلى العالم السفلي. قصص عن تيهان في غابة أو ركون إلى النوم، غالباً لسبع سنوات، "بريسيفون" تم جرُّها إلى العالم السفلي، إلا إن نزول إنانا هو الأقدم. كُتِبت هذه الأسطورة السومرية على ألواحٍ طينيةٍ في الألف الثالث قبل الميلاد. وهناك عدة روايات للقصة. اعتمدتُ نسخة الأسطورة في هذه الدراسة التي ترجمتها "دايان فولكستاين" بالاشتراك مع صامويل نوح كريمر.
قبل أن أروي لكم الأسطورة، لنتأمَّل لوهلة أهمية القصص: في كتابها "امرأة تجري مع الذئاب" تقول كلاريسا بينكولا إيستس "القصص فيتامينات الروح وتبثُّ الحركة في الروح. يكتسب هذا أهمية استثنائية حين تكون الحياة الداخلية خائفة أو عالقة أو محاصرة."
الحاخام بعل شيم - توف يقول "حين تنقطع الصلة بين السماء والارض وحين لا تنفع حتى الصلاة، وحدها القصة ترمم تلك الصلة."
في كتابها "مختصر تاريخ الأسطورة" تقول "كارين أرمسترونج" إن " الأسطورة أساساً دليل يخبرنا ماذا علينا أن نفعل كي نعيش على نحوٍ أكثر غنى."
و"جوزيف كامبل" في "قوة الأسطورة" يتحدث عن دور الأساطير في إحساسنا بالحياة الكاملة التي نبحث عنها حسب طرحه. يقول عن وجه حَق "يقول الناس إن ما نبحث عنه هو معنى الحياة، إلا إنني أختلف معهم. اعتقد إن ما نبحث عنه هو تجربة كوننا أحياء، لكي يكون هناك صدى لتجربتنا الحياتية مع كينونتنا وحقيقتنا الصرف وبالتالي نشعر فعلاً بنشوة كوننا أحياء."
والان إلى أسطورة إنانا.
إنانا إلهة السماء والأرض والمحاربة العظيمة والعاشقة وخالقة الشعر والأغاني تقرِّر أن تزور أختها أيريشكيجال، ملكة العالم السفلي. وقبل أن تشرع بالنزول إلى العالم السفلي، تطلب من خادمتها الأمينة "نينشوبور" أن تقرع جرس الإنذار أن لم تعد خلال 3 أيام. تصل إنانا إلى بوابة العالم السفلي الأولى وتطلب الدخول. ينطلق حارس البوابة ليستشير أيريشكيجال التي ما إن تسمع ما جاء به حتى يجتاحها الغضب. فتضرب على فخذها وتعضُّ على شفتها وتعتبر الزيارة تجاوزاً، لكنها توافق في آخر المطاف على مقابلة إنانا لكن شرط أن تصل إليها عارية منحنية.
يجب أن تجتاز إنانا سبع بوابات لتصل إلى قصر أيريشكيجال. وعند كل بوابة، أُجبِرت إنانا على أن تتخلى عن احدى شارات ملكها. حين اعترضت قيل لها إن العالم السفلي قد بلغ الكمال ولم يعد خاضعاً للتساؤل. تَمثُل إنانا، عارية منحنية، أمام أيريشكيجال في آخر المطاف. تصوب أيريشكيجال عليها عين الموت وتضربها فتمسي إنانا جثةً تُعلَّق بخطّافٍ على جدار، كقطعة لحم خضراء عفِنة.
تنصب نينشوبور مندبةً وتقرع الطبول بعد مرور ثلاثة أيام على غياب إنانا. تذهب إلى إلهين من آلهة السماء وتتوسل منهما العون إلا أنهما يرفضان بحجة إن إنانا قد سعت إلى المشاكل بنفسها وتستحق ما يحصل لها.
ثم توجهت نينشوبور إلى "إنكي" إله الماء والحكمة الذي يُشفِق على إنانا، فيخلق من وسخ أظافره كائنين صغيرين بوسعهما التحليق عبر الأخاديد إلى حيث أيريشكيجال في العالم السفلي.
في تلك اللحظة، كانت أيريشكيجال في عزاء زوجها أو مخاض ولادة. تنوح وتندب من ألَمها. جلس الكائنان الصغيران معها ليكونا مرآة حزنها.
"آه، يا لقلبي التعس" كانت تندب فردّوا عليها، يواسونها "آه، يا لقلبكِ التعس" وحين بكت قائلة" آه يا لأحشائي التعسة“، بكوا معها قائلين "آه، يا لأحشائها التعسة" واستمروا على هذا المنوال.
وأخيراً، توقفت أيريشكيجال وتساءلت لماذا يندبون معي؟" وأردفت " أنا معجبة بكما، سأقدِّم لكما هدية."
طلب الكائنان جسد إنانا ووافقت أيريشكيجال فأخذوا إنانا وأعادوا الحياة إليها. وقبل أن تصعد إلى العالم العلوي ثانيةً، طلب إليها قضاة العالم السفلي أن ترسل بديلاً عنها. وافقت على مطلبهم. وأثناء صعودها، عند كل بوابة من البوابات السبع، استعادت شاراتها الَملكية.
حين تعود إلى العالم العلوي، تجد أن الجميع كانوا في عزائها، باستثناء زوجها "ديموزي" الذي كان جالساً على عرشها، يأكل ويشرب؛ مستمتعاً بوقته.
تصوِّب إنانا عليه عين الموت وتعلنه بديلاً عنها إلى العالم السفلي. يجتاحه الخوف ويحاول الهرب، لكن "الگالا" من العالم السفلي تطارده. يتوسَّل العون. "جَشتينانا"، أخت "ديموزي" التي تحبه حباً جماً، تقصد إينانا وتعرض عليها أن تحلَّ محلَّه في العالم السفلي.
في أخر المطاف، تقرر إينانا أن يُمضي كل منهما النصف من كل سنة في العالم السفلي. حين يعود أحدهما من العالم السفلي، يبدأ الآخر رحلة النزول.
وضعت "سيلفيا بيريرا" تحليلاً ناجزاً لهذه الأسطورة حسب منهج يونغ في كتابها "نزول الإلهة: أسلوب تكريس النساء". لن أحاول هنا أن أقدِّم عرضاً لكتابها، وسأعترف لم أفقه معنى أجزاء منه حقاً. لكنني أودُّ أن اتحدت قليلاً عن أفكاري واستجابتي لهذه القصة وكيف إنها ساعدتني على استيعاب الأزمنة العصيبة في حياتي.
لن يختر معظمنا النزول طوعاً إلى العالم السفلي. بل إن معظمنا سيقاوم قدر استطاعته ذلك النزول. تأخذنا الكآبة هناك أو انتهاء علاقة أو في حال مرضنا أو فقدان شخص مقرب. يصحُّ هذا على الكثيرين منّا. أدركت إنني قد قمت بزياراتٍ عدة إلى العالم السفلي.
في واقع الأمر، التزامي بتقديم هذه الدراسة افرز زيارةً إلى العالم السفلي. بعد أن وافقت على مشروع تقديم هذه الدراسة العام الماضي، بدى الأمر لبعده الزمني غير واقعي. قاربت على الذوبان حين اقترب الموعد النهائي.
أمضيتُ ليلة رعبٍ أصابتني بالشلل. كما إنانا، شعرتُ بالعجز عن الحركة، مسمَّرةً على الجدار. لم اعرف شيئاً، ولم يك لدي ما أعطي، عجزت عن الكتابة والتفكير. في الحقيقة، لم يك ثمة سبيل لإتمام هذه الدراسة. كنت منشغلة بإخراج نفسي من تلك المحنة المرعبة. إتصلتُ بصديقتي هيلين. "ليس عليك أن تقدِّمي الدراسة. لستِ بحاجة إلى إرهاقٍ أكثر في حياتك. أنا على يقين إنك قادرة على إتمامها لكنها لا تستحق كل هذا الغم." طيَّبتْ خاطري. بعد أن وجدت سلواناً عظيماً في كلماتها، توجهت شطر "صوفيا" عازمة على أن أقول لهم " إنني عاجزة عن إتمام هذه الدراسة. أنا آسفة جداً." "أنجيلا" كانت الشخص الوحيد هناك فعرضت عليها حالتي.
"أنتِ من الصنف الرابع للشخصيات (راجع يونغ - المترجم)، أتفهم كيف تشعرين. مررت بنفس المشاعر. ليس عليكِ إلا إتمام الدراسة بطريقتك الخاصة. كل شيء على ما يرام."
ثمة شيء ما يتعلق بالتفهُّم والتقمص العاطفي الذين غمرني بهما هاتان المرأتان، وهذا ما ساعدني على تخطّي خوفي الذي تركني مشلولة. ثم فكَّرت مع نفسي "حسناً، لستُ باحثة أو معالِجة يونغية، ويوجد الكثيرون ممن هم أكثر دراية مني وبوسعهم أن ينجزوا هذا البحث على نحو أفضل مني. إلا إن المؤسسة طلبت منّي إنجاز بهذا البحث، وبوسعي إتمامه بطريقتي وأتمنى أن اعرض فيه أموراً جديدة. حان الوقت الآن، وانا على عتبة الستين من عمري، أن أُظهِر حقيقة إنني قادرة بما يكفي على تقديم البحث." تماماً مثل الكائنين اللذين خلقهما الإله إنكي من الوسخ العالق تحت أظافره، قدمت لي هيلين وإنجيلا تقمصاً عاطفياً وتفهماً أعانني على تخطّي شللي وخوفي وان أجد حياة جديدة وطاقة جديدة لإتمام هذه الدراسة. وفي كل مرة تفتر فيها همَّتي، أتذكر "مارغريت" وهي تشرق قائلة "استمري. بوسعك إتمام العمل."
توفر في شخصين صغيرين كانا قادرين على مواساة أيريشكيجال، بالإقرار المِرآتي لألمها "آه يا لأحشائي التعسة" تصرخ أيريشكيجال فيردّان عليها "آه يا لأحشائك التعسة."، توفر لنا أقدم مثالٍ عن التقمص العاطفي والإقرار المِرآتي وهما عنصرين أساسيَّين في العلاج. تقول لنا "سيلفيا برينتون بيريرا" إن الاله إنكي هو راعي المعالِجين.
إتَّضحت الآن بجلاء أهمية التناغم العاطفي بين الأهل وأطفالهم من اجل صحة انفعالاتهم وسلامة حياتهم، إثر البحوث المثيرة عن الدماغ، وعُرِضَ ذلك بشكلٍ جميل ٍ في كتاب "نظرية عامة عن الحب" لم يتلق معظم من يحتاجون للعلاج هذا النوع من المعاملة حين كانوا صغاراً أو أطفالاً.
يساعد التناغم العاطفي على تكوين دماغ متَّزن وسليم. إذا يبتسم الطفل، تبتسم الأم، وإذا يبكي، تجعِّد وجهها مع طفلها وتأتي بأصوات لمواساته، بل إنها متناغمة مع طفلها بمكان إنها تتوقع حاجاته مسبقاً. الأمهات يضربن مثلاً لطيفاً. طفلة، تتعلم لتوها المشي، تقع في المتنزه. تلتفت إلى أمها. إذا ابتسمت الأم مطمْئِنةً إياها وتشير بإيماءة أن "إنهضي، أنت بخير." في معظم الأحوال، ستنهض تلك الطفلة واثقة من إنها بخير. ولكن في حالة نفس الحادث، وكانت الأم مفرطة القلق، قد تهرع إلى طفلتها وعلى وجهها علامات القلق. وهنا ستلتقط الطفلة علامات الخوف وتبدأ بالبكاء وتطلب أن تُحمل. هكذا تتعلم الطفلة ويتشكَّل دماغها. الأمر الأكثر إثارة في بحث الدماغ اكتشاف مطّاطيته، أي قابليته للطرق. يستطيع الدماغ أن يواصل خلق ممرات عصبية طوال حياتنا. ومن الممكن أن يحدث هذا في فسحة العلاج المقدسة. حقاً، إننا نؤثر على ونغير دماغ كل منا الآخر طوال الوقت.
في فسحة آمنة، يتسنّى للمعالج ان يعكس مرآتياً ويتناغم عاطفياً مع تجربة الشخص الباحث عن العلاج، بطريقة لم يتلقّاها أثناء طفولته. وعلى هذا المنوال، وببطء وتردّد، يتعلم الناس ان يثقوا بمشاعرهم ومعارفهم وببطء وتردّد يلي ذلك قبول الذات والثقة. وهنا يحدث إصلاح الدماغ. وتُخلق ممرات عصبية جديدة معافاة.
نتعلم ان نقتفي إثر تجارب الناس، حسب منهج "هاكومي" الذي اعتمده في عملي، ليس فقط القصة التي يرونها لنا، لكن غالباً الأمور الغامضة التي تحدث في الجسم او ما يشكِّل قسمات الوجه. على سبيل المثال، قد تضع امرأة يدها على فمها حين تتحدث. انتابها شعور بالذهول حين لفتُّ انتباهها لما فعلت، كانت غير مدركة لحركة يدها. وحين تقوم بذلك ببطء وإدراك، تنسجُ علاقات عديدة لمعنى ذلك. تصبح حركتها فعل واعي.
بطبيعة الحال، ما قمت به يعدُّ تبسيطاً شديداً لعقدة عميقة لاتزال في أوجه كثيرة عملية غامضة. إلا انه الأمر ذاته القائم على التقمص العاطفي والإقرار المِرآتي الذي كُشِفَ لأول مرة في الألف الثالث قبل الميلاد في هذه الأسطورة. إنها تلك الفتافيت الصغيرة، من الوسخ العالق في أظافر الاله إنكي، التي تجلس مع أيريشكيجال بحنِّية وتشهد ألمها. أجد هذا مثيراً واستثنائياً وكأن العلم يلحق أخيرا بركب حاجة إنسانية أساسية بعد أن كانت قيد الممارسة لآلاف السنين.
"وينيكوت"، المحلل النفسي البريطاني الشهير، أدرك هذا أيضاً حين علَّق على عملية العلاج "أنا أُرى إذن أنا موجود". هذه المشاهدة الحادة والتوكيدية تساعدنا على خلق إحساس بالذات، ينتفي دونها.
غير إن هذا لا يعني إن الأهل أو المعالجين لا بد وان يكونوا على صواب دوماً. يبدو إن الأمر المهم هو إننا نترمَّم بعد أن نجتاز مرحلة التقمص العاطفي والعون.
بوسعنا أن نعتذر أو نعود قائلين "أنت تشعر بالغضب، هذا حسن، أو ما شاكل."
يعود الفضل إلى هذين المخلوقين من وسخ أظافر الاله إنكي ان يتسنّى لإيريشكيجال تخطِّي ألمها ولإنانا أن تستعيد حياتها حسب ما طلبا.
لعل أصعب تجارب النزول وأكثرها شقاءً كانت تلك السنوات التي خاضت فيها احدى بناتي صراعاً بين الحياة والموت مع الأنوريكسيا.
خلال سنوات الشقاء تلك، استمع الأصدقاء لألمي، ووقفوا إلى جانبي أيام غضبي ويأسي وحزني وإحباطي، هم من أعانني على تجاوز ذاك الزمن الكابوسي. انهم أولئك الأصدقاء وليس مَن انشغل بتقديم النصائح. ثمة الكثير من النصائح. ومع إنني أدرك انه كان السبيل الوحيد أمامهم لمواجهة مشاعر عجزهم أثناء تلك المرحلة العسيرة، إلا انه لم يساعدني، ولم يكن ما يعوزني إطلاقاً. اعرف الآن انه لأمر يتطلب شجاعة وحكمة وحب لتقف فقط مع أحد ما في ألمهم دون محاولة ترميمه.
على أية حال، كفانا حديثاً عن وسخ الأظافر!
ولكن لا بدَّ من كلمة بشأن قوة الشفاء النابعة من قابليتنا على تسمية ماهية مشاعرنا والإقرار بها على حقيقتها لأنفسنا.
وهذا يعيننا غالباً على التحرك في أماكن كنا قد علِقْنا بها. فبدلاً من التغاضي عن مشاعر الألم، على سبيل المثال، أو الغضب أو ما شابه، وان نقول لأنفسنا انه ما كان علينا أن نشعر بذلك، علينا فقط أن نحدد ماهية ذلك الشعور على حقيقته سواء كان غضب أو ألم أو غيرة وما إلى ذلك. تسمية مشاعرنا تحررنا بشكل هائل.
الرفق بأنفسنا، حسب ما اعتقد، هو البداية الحقيقية للرفق بالآخرين.
لنلتفت إلى أيريشكيجال. هذه منطقة العالم السفلي، هنا نلتقي بكل حزن حياتنا حيث دفناه أو تجاهلناه. نقف وجها لوجه مع معاناتنا أو ألم خيانة أو فقدان أو موت أحد ما أو موت بعض منا، سذاجتنا الطفولية.
نحن هنا كما إنانا، مسمَّرون على الجدار. ليس ثمة مهرب من هذا الألم. في هذه المنطقة، لدينا الفرصة أن نواجه ونعيد التواصل مع ظلال أجزاء من ذواتنا قيل لنا إنها غير مقبولة، مثل غضبنا وقدرتنا على الكراهية وحزننا العميق على إنجراحنا. وأيضاً نعيد التواصل مع عناصر القوة التي رمينا بها إلى الظل أو دفعنا بها إلى اللاوعي لأنه أن تكون قوياً أو ذكياً أو حازماً أو مبدعاً في عوائلنا يعد أمراً غير مقبولاً.
"ماريون ميلنر"، تلك المحللة النفسية البريطانية الفذّة، اقتفت أثر تجربتها الخاصة بكل صدق وهِمَّة في كتابيها "حياة الإنسان الشخصية" و "تجربة في الرّاحة" المنجزين في العشرينات من القرن الماضي. حاولت ماريون أن تكتشف ما الذي جعلها سعيدة حقاً، وجاءت بنتائج مذهلة تناغمت مع لاوعيها أكثر من أية مفاهيم تقليدية عما يُفترض أن يسعدنا. تصف منطقة أيريشكيجال وصفاً قوياً في كتابها "الشروق الخالد". ما يشدُّني إلى ماريون ميلنر هو ثقتها وتتبعها عن قرب لإحساس جسدها بما تمر به من تجارب حياتية. وبالفعل، تصبح تلك الأحاسيس مصدر سعادتها.
اقتبس من ماريون " هل من الصحيح أن الشد العضلي متعلِّق بمخاوف من العنف، سواء ما أقوم به أو يقع عليّ؟ هذا يعني انه خلف الصورة الذاتية التي يودُّ الشخص أن ينسبها إلى نفسه، مثلاً مهذب ومراعٍ للآخرين ويحمي من يحب، صورة مغايرة، ظل لها، ذات عنيفة متضخمة الأنا قاسية تشبه تلك التي لأفراد العصابات. أو حتى صورة أسوأ، إنها "آگَيْڤ" المتوحشة المجنونة التي مزَّقت ولدها المطيع إلى أشلاء، متوحشة لأنها منقسمة على نفسها وتُنكِر ذلك. وهنا يأتي السؤال العظيم " هل أحب أم أكره، هل أحمي أم أدمِّر؟
الاثنين معاً بطبيعة الحال، على مستوى التفكير فقط إن لم يكن على مستوى الفعل. فقط حين تلتقي الصورتان، وتخترقان بعض، يتسنّى لشيء إنساني أن يتجسَّد، ليس إلها ولا شيطاناً، انه كائن بشري فقط. والصراع الذي لن أواجهه، واعترف به، سيُقفَل عليه في العضلات المشدودة.
اعتقد إن هذا صحيح، وان المكان الذي يقيم فيه هذان الضِّدان ويُسمح لهما بالتحاور هو الحجاب الحاجز حيث يحدث التنفس." وهنا تتلمَّس ماريون ميلنر جوهر حكمة الأنثى، أو "صوفيا" حسب "ماريون وودمان"، المحللة اليونغية الكندية، الذي يتمحور حول أن تحيا في شدِّ بين ضدَّين. أنا هذا وذاك أيضاً، بوسعي أن أكون طيباً وبوسعي أن أكون قاسياً. كلّي أمل ألا اختار أن أتصرف بناءً على القسوة، مع إنني أدرك إن لدي القابلية لأكون قاسياً. كلاهما وليس أحدهما دون الآخر ثنائي التفكير ميّال أكثر نحو أسلوب التفكير الذكوري. جورج بوش ومفهومه عن الخير والشر، والتفكير الأسود والأبيض. تواصل ماريون ميلنر " لو تحسستُ فكَّي، تنمو لدي صورة ذاتية وكأنني امتلك قوة هائلة هناك، ليس فقط قوة ساحقة، بل قابضة بشكل شديد.
ألم يكن "ديگا" هو من رسم لوحةً لفتاة ألعاب هوائية متعلقة من حبل قابضة عليه بفكيها؟ غالباً ما أجد فكَّي مشدودين وكأن هناك شيئاً بينهما لا أريد أن أتخلى عنه، وإنني سأموت إن فعلت.
ولكنني ما إن أُرخي فكيَّ بالتمسيد عليهما فقط، أجد ضحكةً ولا غير، أضحكُ من نفسي." الضحك. يسعدني أن يجد المرح طريقه غالباً إلى جلسة العلاج وكأنه استنشاق نسمة نقية، حتى في حالات التجارب الأكثر إيلاماً للنزول. الضحك يساعد على وضع الأمور في نصابها. وإذن إلى أيريشكيجال؛ ضخمة وعارية، يكسوها الشعر بالكامل، متوحشة بحزنها وألمها. مطلقة القوة في العالم السفلي. تضرب فخذها وتعضُّ على شفتها وتنظر إلى إنانا بعين الموت. إنها ليست "لطيفة" إطلاقاً.
قد تتجشأ أو تضرط أو تنظف انفها بأصابعها أيضاً، مع إن هذا غير مذكور في الأسطورة! أيريشكيجال تمثل كل ما هو بدائي، في المخاض، تصرخ ألماً أو غضباً. ما يهمّني جداً هنا إنها لاتزال في جسدها ولا تنفصل عنه كما هي حال أغلبية النساء اللاتي يعشن حياتهن في الغرب. أتذكر إنني حضرت مراسيم جنازة منذ سنة لرجلٍ كنتُ مقرَّبة منه في مرحلة احتضاره. كان مناصراً لقضايا السكان الأصليين ولهذا حضر كثيرون منهم المراسيم. أتذكر إنني كنت في الطابور المخصص لغير السكان الأصليين اللذين كانوا إلى جانبنا يندبون ويبكون، وأعطوا أصواتهم وأجسادهم الفرصة لتعبر عن حزنهم.
في حين وقفنا نحن متصلِّبين وقد احتوينا حزننا. أتذكر كم أردت أن ارفع صوتي وأصرخ معهم. أردت أن أسمح لصوتي أن يجهر بحزني الداخلي الذي كوَّرته في عُقَدٍ في جسدي لكي أحتويه. كم وددت لو كانت لي الشجاعة والصدق العاطفي لأُعبِّر بجسدي عما اشعر به. لم أكن قد سمعت بايريشكيجال أو هذه الأسطورة إلا إنني شعرت بقوة جاذبية ذلك الميل. كانت استجابة غريزية قد نبعت من أعماق جسدي. يا ترى ما كلفة قمع تلك الاستجابة إرضاء لمتطلبات الاحتشام وما إلى ذلك مما يشلُّ كثيرون منا في الغرب عاطفياً.
لا أدري بالنسبة لكم، إلا إنني عشتُ معظم حياتي في رأسي، غير مدركة لجسدي إطلاقاً. وإن فكرت بجسدي، من المحتمل أن اشعر بالخجل منه تماماً مثل ذاك التوصيف الرائع للسيد دَفي في قصة جيمس جويس القصيرة "قضية مؤلمة" من مجموعة دبلنيون. يقول جويس "عاش السيد دَفي بعيداً قليلاً عن جسده."ديكارت، فيلسوف القرن السابع عشر، قد يُلام على ذلك بسبب مقولته الشهيرة "أنا أفكر، إذن أنا موجود."
تفترض المقولة أن التفكير اهم من إحساسنا بتجارب أجسادنا. أو إسحاق نيوتن وفكرته إن الجسد ماكينة. بالنسبة للنساء، أمور كثيرة من حياتنا تحددها أجسادنا؛ الدورة الشهرية والتقلبات الهرمونية والحمل والولادة ومداراة الإيقاع الفوضوي للجسد، جسدنا وجسد أطفالنا وجسد أهلنا أيضاً، ونحن نعتني بهم عند الشيخوخة والاحتضار. ثمة كتب كثيرة دُبِّجت حول دونية الأنثى وجسدها على يد السلطة الأبوية ولن أخوض في هذا المضمار الآن، باستثناء أن أقول بحزن لكن دون دهشة إن معظم النساء قد قبلن رأي السلطة الأبوية بشأن الأنثى وجسدها. هذا امر غير مقبول وغير ذي قيمة ومبعث خجل وان الشعور ليس بذات الأهمية مقارنة بالتفكير، لكونه منطقيا وما إلى ذلك، خصوصاً لنا نحن بنات آبائنا.
لا سيما إذا شوَّه آبائنا أمهاتنا، وأمهاتنا اعتراهن الخجل من الأنثى. اعتقد إن النزول إلى العالم السفلي يتعلق بإعادة التواصل مع أجسادنا وطرق المعرفة الغريزية الخاصة بنا وكل قوتنا كنساء.
"جيمس هوليس" في كتابة الرائع "مستنقعات الروح: حياة جديدة في أماكن موحشة" يقول "النزول ضروري لبداية الوعي- الإذلال الضروري المؤدي إلى الثراء النفسي. إنسان كهذا وهو ذليل لن يصبح أكثر إثارة فحسب بل أكثر إنسانية أيضاً."
أحد السبل التي أنقذتني من طفولتي الأقل من مثالية كان التخلي عن جسدي، انفصلت عنه كي لا اشعر بألم ما كنت أمرّ به.
وهذه قصة كثيرين منا. غير إن الألم لا يختفي. نخرجه من الوعي لكي ننجو في الأوقات الصعبة، إلا انه يُخزَن في خلايا جسدنا بالذات، في جهازنا العضلي، في كيفية سيرنا وكلامنا، منتظرا إن يتم التعامل معه. إذا لم نفعل ذلك بوعي فإن أجسادنا ميالة إلى لكزنا بتهذيب أو بدونه. نحاول، ونحن أطفال، أن نفقه، على أفضل وجه، ذواتنا وعوائلنا الأقل من مثالية. والكثيرون منا كبروا مشلولين ومشوَّهين نفسياً وعاطفياً بينما نحاول أن ننسجم مع ما حولنا، لكي يتم قبولنا ونُحَب حسب الأصول الخاصة في عوائلنا الخاصة أو الكنيسة أو المدرسة أو مجموعة الناس المقرَّبين.
وإذن قد يشتعل آبائنا غضباً حين نأتي بملاحظة بريئة عن شيء ما شاهدناه في العائلة. نتعلم انه ليس من الصحيح أن نقول الحقيقة أو أن نرى حقيقةً ما موجود. أو أن نأتي جرياً من المدرسة تملأنا الإثارة إن قُرِأت قصتنا في الصف وهذا ما نصرح به بفخر أمام أمنا فتردّ " إذا ما استمريتم على هذا الحال، ستكون لديكم رؤوس كبيرة." أو " مَن تعتقدون أنفسكم؟" وها نحن نتعلم إن هناك خطأ ما في نجاحنا. أو نقول إننا نكره اختنا لأنها كسرت لعبتنا المفضلة لتخبرنا أمّنا "كلا، أنتم لا تكرهون أختكم." فنتعلم ألا نثق بمشاعرنا. ما الذي سيحلُّ بغضبنا وكراهيتنا وقدرتنا على النجاح؟ ندفع بكل شيء إلى باطن الأرض، لأنه علينا أن نضع كل شيء في مكان ما. ندفن تلك الأشياء في أجزاء أيريشكيجال من ذواتنا، إذا صح التعبير. نخزنها في اللاوعي. شيئاً فشيئا تندفن ذواتنا الطبيعية العفوية تحت ما يجب وما ينبغي.
تمسي أرواحنا مقيدة. أما النساء فيجدن أنفسهن يُجِبن بنعم حيث عليهن ان يتحليّن بالشجاعة ليقلن لا؛ يضعن حاجات الجميع قبل حاجاتهن لأنهن تناولن مع حليب أمهاتهن في هذه الثقافة بالذات إنهن كأفراد لسن بذات قيمة. لأننا إن وضعنا أنفسنا في المقدمة سنكون 'أنانيّات' ونحن، كما كثيرات من النساء، لا نثمِّنُ أنفسنا لكي نحاول على الأقل وضع أنفسنا في المقدمة. وان تكون 'لطيفاً' وبالتالي محبوباً ومقبولاً يصبح أكثر أهمية من كونك حقيقياً. وكما يقول "جيمس هوليس" في "مستنقعات الروح" "يتم تحوير معظمنا لنكون لطيفون أكثر منا حقيقيون، مجاملون أكثر منا أصيلون، نتأقلم أكثر مما نحسم."
جاء جيمس هوليس بالفكرة العظيمة القائلة بضرورة تشكيل مجموعة إعانة لعلاج الناس 'اللطفاء'. وعليه فإن مشروع التَّشخص، حسب ما يسميه يونغ، يحل الغاز الذات المصطنعة والمحوَّرة لكي نجد حقيقتنا وفرادتنا. "ماريون وودمان" تقول نفسنا وجسدنا يعملان بكل طاقتهما من اجل تكاملنا وصحتنا. ولذلك غالباً ما يبدأ الصرح المفتعل لذواتنا المزيفة بالانهيار التام في منتصف العمر. تحاول أحداثاً مهمة، مثل المرض أو الكآبة أو انهيار علاقة حيوية، إنذارنا حول حقيقة أن الذات المزيفة لم تعد تعمل من أجلنا. تطلب أرواحنا منا ان ننتبه ويأتي ذلك غالباً بشكل أحلام وأعراض جسدية. أحيانا نُجَرُّ (لأنه لا أحد يذهب طواعيةً) إلى العالم السفلي بحيث نُجبر أن نقف ونواجه تلك الأجزاء من ذواتنا التي انفصلنا عنها.
مثل إنانا نشعر وكأننا مسمرون على الجدار وقد تُركنا هناك لنتعفَّن، وفي وضعٍ من العجز الخالص كهذا تبدأ عملية التحول. بوسعنا أن نتعلم كيف نوحد تلك الأجزاء المنفصلة إذا ما تحلَّينا بالصبر وكان لدينا دليل في خضم هذه المرحلة الشاقة والمرعبة والمضطربة، حين ينزاح عنا كل ما اعتقدنا انه نحن. وهنا في هذا المكان بالذات، كثيرون منا يواجهون السؤال النهائي؛ هل نحيا أم نموت؟ فيما إذا أردنا أن نعيش من أعماق أرواحنا وحاجاتها ورغباتها أو نهجر أرواحنا ونختار أن نعيش حسب ما يعتقده الناس عنا.
السؤال كبير. لبعض الناس، السؤال هو هل يريدون أن يعيشوا أو يموتوا بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكن هنا تبدأ عملية التحول البطيئة. تبدأ إمكانية حياة جديدة بالظهور، حياة تنمو من ذات مغروسة بعمق في حقيقة مَن نكون فعلاً، وجذورنا وقد إمتدَّت الى العالم السفلي.
إنانا قد تسمَّرت على الجدار لثلاثة أيام، بالنسبة لنا قد تكون ثلاثة أسابيع او ثلاثة سنوات او أكثر، نتجوَّل فيها في برية يأسنا. في هذا الوقت بالذات، نكون في أمسِّ الحاجة الى الثقة والصبر. يعبِّر ت س اليوت عن هذا بشكل جميل في تلك الأسطر الشهيرة من "أربعة رباعيات"، الجزء الثالث من إيست كوكر:
"قلت لنفسي، اسكني،
وانتظري بدون رجاء
فَلَو كان رجاءٌ لكان رجاءَ الشيء الغلط؛
انتظري بدون محبة،
فَلَو كانت محبةٌ لكانت محبة الشيء الغلط؛
يتبقّى الإيمان ،
لكنما الإيمانُ والمحبةُ والرجاء تكمن جميعاً
في الانتظار.
انتظري بدون تفكير، فلست مهيأةً للتفكير،
وكذا تكون الظلمة نور، والسكينةُ رقص."
(ت س اليوت، رباعيات أربع.
ترجمة توفيق صايغ ص ٨٣.) . وأذن علينا أن نثق بعمل الجسد العضوي. كما الطبيعة، نحن جميعاً، جزء من الطبيعة مثل الأشجار التي تنجرد عنها أوراقها وتقف عارية أيام الشتاء ثم تورق في الربيع براعماً خضراء صغيرة لحياة جديدة. حين كنت أعيش في "ويلونگا"، تعلمت الكثير من مراقبة الطبيعة. الرياح الشمالية الغربية تتغير مزمجرة من صوب البحر.
الرياح ستعوي والمطر سيضرب البيت لعدة أيام. ثم يتغير الطقس وتشرق الشمس ثانية. وهكذا نحن.
وراقبت نساء في عيادتي يتماسكن أثناء مرحلة تقطيع الأوصال هذه وهن يواجهن بعض الأشياء المؤلمة التي حصلت لهن بشجاعة وإيمان أعمى لأنهن ما كنَّ ليَرين كيف ستنتهي هذه المحنة. لكنها تنتهي إجمالاً. حتى وإن لم تنته الظروف الخارجية، فإن طريقة مواجهتنا لتلك الظروف ستنتهي. ورأيت نساء يظهرن من هذا المكان، معتمدات على قواهن، يبدأن بأعمال كن يحلمن بها، أو يهجرن أعمالاً ناجحة أخرى لأنها لم تعد تلبي حاجات أرواحهن العميقة. أو يبدأن بالدراسة أو مشروع فني أو قد ينسحبن من العالم لفترة، أو يُنهين علاقة كنّ يعرفن إنها لا تناسبهن.
حين تخرج امرأة من تجربة كهذه، قد لا يرحب بعودتها أولئك الذين من حولها. ليست لطيفة ولا سهلة الانقياد كما كانت من قبل. إلا إنها متجسدة أكثر ومعقدة ومثيرة. تقول 'كلا' حين تعني كلا و 'نعم' حين تعني نعم. قد تبدو باردة لا أبالية أثناء محاولتها ربط ما تعلمته عما تحتاج أن تفعل لتعتني بذاتها الحقيقية. وغالبا ما نبدو خرقى ونحن نمارس طرق جديدة لكينونتنا. علينا أن نتحلّى بالصبر ونرفق بأنفسنا. أحب ما تقول تلك اليونغية الامريكية "پولا ريفز" عن هذه المرحلة من الحياة. تقول "كلا جملة مفيدة." شعرتُ بابتهاج مذهل حين سمعتها. كلا للمزيد من الاعتذار والبحث عن أعذار، فقط لنقل “كلا، لن افعل ذلك." لا مزيد من الاعتذار لأننا أحياء. من المثير أن أيريشكيجال، في نسخة من الأسطورة، كانت تئن من ألم الولادة أو تندب موت شريكها.
الميلاد الموت. كل ما يولد وجب عليه الموت. تلك حقيقة لا مهرب منها يعتبرها كثيرون منا شاقة على المواجهة. وعليه، البوابات السبع التي توجَّب على إنانا أن تجتازها لتصل إلى العالم السفلي، جعلتني أفكر في مغزى الرقم 7؛ سبعة أيام في الأسبوع والخطايا السبع المميتة ومحطات الصليب السبع ومينورا ذات الأذرع السبع والشمعدان اليهودي وأعمدة الحكمة السبعة وما إلى ذلك. فتَّشتُ في قاموسي عن معنى 7 فإكتشفتُ إن 7 هي رقم الكون، الاكتمال؛ الكلّانية. السماوات الثلاث والروح أضف اليها الأرضين الأربع والجسد. يقول القاموس إن 7 الرقم الأول الذي يحتوي الروحي والعابر. انه أيضاً رقم الأم العظمى.
وتطول لائحة معاني الرقم 7 بتعدد معظم الثقافات تقريباً. قد يعرف كثيرون منكم هذا إلا إنني أجده مذهلاً. وعند كل بوابة، تعيَّن على إنانا أن تزيل شيئاً من هويَّتها حتى تَعرَّت وانحنت. فعل مهين ومؤلم. عملية العلاج عادة ما تُصبح رحلة نزول إلى العالم السفلي ثم الصعود. أتذكر أولى تجاربي في العلاج النفسي الذي تمخض عن مرض ابنتي.
كان من الجلي على نحو متصاعد إن عليَّ أن افعل شيئاً لنفسي إذا ما كان علينا أن نجد طريق الخروج من المتاهة الكابوسية من هذا المرض المرعب. بدى لي وكأن الأنوروكسيا تلتهمني أنا أيضاً. كرَّستُ كل وقتي وجهدي لمحاولة إنقاذ ابنتي. ولكن عبثاً. ولم يك ذلك لا صحياً ولا معيناً لابنتي، ناهيك عن ابنَتَي الأخرتين.
وهكذا، بكل خوف وذعر عظيمين، بدأت أرى ذاك المحلل النفسي الجذاب جداً. وأُجبرت أن اخلع شخصياتي الواحدة تلو الأخرى. ولكوني من الصنف الرابع من الشخصيات، أردتُ له أن يعتقد إنني مميزة بطبيعة الحال، ولذا حاولت أن أكون مسلية.
كان جل خوفي في أن يجدني مملة، فألقيت مزحات ثم، يا لخجلي، تغزلت به. حاولت ان أسأله عن حياته الشخصية. في آخر المطاف، أمارس دوري دائماً في الحياة وهو أن أهتم بالآخرين، وان أكون مستمتعة جيدة وغير ذلك. واحداً تلو الآخر، تساقطت أقنعتي، كما إنانا، مررت بالبوابات السبع.
بذلت قصارى جهدي أن أتجنَّب الحديث عني وعن قصتي، ولا واحدة من أساليبي الاستراتيجية نجحت في تفاديه. إلى أن جاء اليوم الذي كنت حقيقية فيه لأول مرة. أتذكر ذلك اليوم جيداً. جلست ونظرت عبر النافذة وأخبرته إنني مرهقةٌ ولم يعد لدي ما أقوله. فجلس معي بصمت. كم كان ذلك مريحاً مع انه مفزع. الآن وقد عجزت عن الاختباء خلف كل أقنعتي فمَن أنا بحق السماء؟ فزعي الهائل كان إنني إذا ما توقفت عن الجري وواجهت نفسي، قد لن أجد أمامي أحداً أكونه. سأسقط في تلك الهاوية التي لطالما خشيت إنها بانتظاري إذا ما توقفت عن الجري. منذ تلك اللحظة، بدأ عمل العلاج الحقيقي وهو عملية وئيدة ومؤلمة لفك الغاز ذاتي المزيفة وبداية تشكل ذاتي الحقيقية الجديدة.
عرفت انه في ذلك الهباء، ذلك الفراغ الذي لطالما فزعت منه، تكمن بدايات حياة جديدة. ساعدني في عملية العلاج تلك العمل الذي قمت به لإعادة التواصل مع جسدي حسب منهج "راديكس وهاكومي". حين بدأت لأول مرة، لم أُدرك إنني توقفت عن التنفس إلى أن أخبروني بذلك، وكنت أحبس نَفسي في أوقاتٍ. كثيرة، كنت منقطعة عن جسدي إلى تلك الدرجة. ومِن ثم بدأت عملية إعادة التواصل، غالباً بالتآلف الرقيق وملاحظة أحاسيس جسدي، والتي كانت رحلة طويلة للعودة إلى جسدي. وهذا مما ساهم بتنمية إحساسي بذاتي. بالإضافة إلى غربلة المحلل اليونغي لأحلامي التي كشفت لي بكل وضوح حاجات روحي الحقيقية.
"عندما تكون على الطريق، اقتربت من الهدف." كانت من أكثر المقولات مبعثاً للسلوان تلك التي قالها كارل غوستاف يونغ وسمعتها على شريط سجلته "ماريون وودمان". ليس ثمة نقطة كمال ينبغي الوصول اليها. لن نتشخص أبداً. حقاً، لم يك الكمال غاية. لكن التكامل كان، أن تكون قادراً على أن تعترف وتقبل نقاط قوتك وضعفك. أن تكون قادراً على أن تقول هذا أنا. لي عيوبي وعرضة للخطأ ولكنني رائع أيضاً.
تقول "ماريون وودمان" في "العذراء الحامل" لنا " يقول وعي الأنثى هذا أنا، ولا اطلب موافقتكم، وليس عليَّ أن أبرر وجودي، وأريد أن أعرِف وأُعرَف كما أنا." "ماري لويز فون فرانز"، المعالجة اليونغية الشهيرة والمعاصرة ليونغ تقول "تجربة الذات تُنشأ شعوراً بالوقوف على ارضٍ صلبةٍ في قرارة أنفسنا، على بقعة من الأبدية ليس بمقدور حتى الموت أن يمسَّها." أن نمارس حياةً تغذيها ينابيع ذاتنا الكبرى، حياة تخصنا على فرادتنا.
تلك اللحظات التي تعرفها جميع خلايا أجسادنا 'هذه هي!' يبدو وكأن جميع فتافيتنا المتبعثرة وقد إلتقت ببعضها البعض وأننا نمارس حياتنا بتناغم مع الكون أو الرب أو الربَّة، سمِّه ما شئت.
نرى لمحات من هذا المكان في أحلامنا، إلا انه تجربة جسدية محسوسة. تجربة تشبه ما يصفه جوزيف كامبل حين يقول إننا لا نبحث عن معنى للحياة بل عن متعة كوننا أحياء. ولكن مما يؤسف له أن هذه الحالة ليست ثابتة. لا يسعنا أن نقول "آه... لقد وصلت. وسأبحر من هنا بسلاسة!" الحياة كما نعرفها ليست على هذه الشاكلة.
إنها رحلة حلزونية نتسلَّق فيها ثم نهبط المسار اللولبي. يبدو أحياناً إن أجزائنا قد التقت بعضها وشرعنا نمارس ما يتعين علينا من حياة، لكننا نهوي نحو الأعماق مرة أخرى. إلا إننا في كل مرة نتعرف أكثر على أنفسنا، لا نهوي إلى ذات العمق السحيق ونتعلم طرقاً أفضل للمناورة أثناء الأزمنة الشاقة.
أود أن أصف اثنتين من تجاربي في محاولة لتوضيح ما أعني. مما يلفت الانتباه، أنهما وقعتا أثناء تجاربي في النزول إلى العالم السفلي، مرة في السنة التي أقعدتني فيها متلازمة الإجهاد المزمن. كان من المؤلم والمُذِل أن أتخلى عن عملي. تٓوجَّب عليّ أن أتَّصل هاتفياً بالزبائن لأخبرهم إنني لست على ما يرام كي أواصل عملي.
عجزت عن الخروج للتمشِّي، وعجزت أن أتواجد في حياة عائلتي وأصدقائي على النحو القوي الذي عُرِفَ عني من قبل. كنت اجتاز تلك البوابات إلى العالم السفلي. وإنجرفت كل هوياتي وأفكاري عن نفسي. (اعتقد إنني بطيئة التعلم، يبدو انه عليَّ أن استمر بتعلم تلك الدروس.) مع هذا، الآن أجد كل نزول ليس بعمق ولا بطول ما سبق. أتمنى أن ألتقط الإشارة أسرع الآن.
في الحقيقة، في اللحظة التي توقفت فيها عن مقاومة ما يحدث (استغرق ذلك وقتاً) وإستسلمت لعجزي، وجدت متعة في كل ما قمت به من قراءة وكتابة. تسنى لي أن أستريح بعمق، وذلك امر احتاجه جسدي التعيس، حسب ظني، منذ مرض ابنتي. وعليَّ أن اذكر هنا إن ابنتي قد شفت شفاءً عجائبياً، وهي الآن معافاة وسعيدة. كانت معجزة حقيقية وسأبقى ممتنة لها إلى الأبد.
على أية حال، أتذكر تلك الأمسية بعينها. كان الشتاء قد حل والنار تلهب في الموقد. كنت جالسة انظر إلى أشجار اللحاء النحيلة وعبرها إلى البحر (كنت لا أزال أعيش في الريف ساعتها). ران الصمت إلا من همهمة النار. فاض آخر ما تبقّى من أشعة شمس المساء عبر الأشجار، وثمة كنغر يرعى على سفح التل، وغطَّ ببغاء الروزيللا من أمامي. شعرت بسلامٍ مطلق واطمئنان وحب. وفجأة اجتاحتني فكرة إن هذه هي. هذا كل ما علينا أن نفعل. أن نحب العالم. أن نرى ونحب ما نرى حقاً. هذا يكفي. كل جرينا المسعور و'الإنجاز'، أياً كان معنى ذلك، صخباً وعنفاً غير ذات مغزى. لم تكن تلك مجرد فكرة. كانت معرفة جسدية متكاملة. وكأنني قد أطَّلعت على سر كوني، وشعرت إنها هبة.
حصلت التجربة الثانية حين كنت في ملبورن في السنة نفسها. كنت مع ابنتي الوسطى حين كانت في مسبح 'فيتزروي' تُجري تدريباتها بينما اكتفيت بمراقبتها. فجأة، أدركت إن شيئاً غريباً يقترب في السماء؛ نورساً عَلق بكيس بلاستيكي رمادي مطوحاً في الهواء. كان بالكاد يستطيع الطيران. ترنَّح ثم هبط بجانب بركة السباحة. توقف السباحون عن السباحة، وقد سمَّرهم الشبح الغريب. ودون إدراك مني، وجدتُّني انهض على قدميّ واتجه صوب الطير التعيس، كنت اعلم إن بوسعي مساعدته.
ثانية، إنسابَ فيَّ شيئاً ما أكبر مني لم يتح مجالاً للمخاوف والشكوك المعتادة التي عادة ما تكبح حركتي.
خطوتُ بهدوء صوب الطير، وكل تركيزي منصبٌ عليه ومتحدثة إليه بهدوء. بدى وكأن الطير وانا في مجال قوة معاً ومنفصلَين عن العالم بنحو ما. إنحنيت وأمسكت بالكيس البلاستيكي وتحرر الطير منه حين وقف على ساقيه، إلا انه بقي ساكناً ما يكفي لكي أُبعد الكيس عنه، مع إنني أستطيع أن أرى الرعب في عينيه. وقف الطير بجانب البركة، مصدوماً، وحسب ما أظن، محاولاً التعافي. تركنا الطير بحاله لعِلمنا انه سيحلِّق في الوقت الملائم.
تعلمت منه هذه التجربة إن لدينا قوة هائلة إذا ما حررنا نفسنا من الشكوك والخوف. اعتقد إن كل شيء ممكن. إذا ما أزحنا نفسنا عن الطريق، ستنساب قوة أخرى فينا. ما أحزنني إنني سرعان ما عدت إلى ذاتي الفزِعة الظَّنون، لكنني لم انسَ تلك التجارب. أنا على يقين إن تلك التجارب تغذِّيني على مستوى من العمق بالكاد أعيه.
المثير في تلك التجارب إنها بدأت من المكان الذي كنت فيه على جاثيةٌ على ركبتَي. لا يسعني إلا فعل القليل جداً. شعرت إنني مسمرة على الجدار كما إنانا. ولم يكن لدي خيار إلا أن أكون فقط. فرض جسدي عليَّ الراحة التي كنت تواقة إليها لكنني لم أجرؤ أن اسمح لنفسي بها بشكل واعي. وما إن خرجت من هرج ومرج الحياة المزدحمة حتى تفتحت على تلك التجارب الحقيقية والمليئة بالمغزى أكثر من الكثير غيرها. تقول "مورين مردوخ" في كتابها "رحلة البطلة" " اكتشاف أن تكون، بدلاً من أن تفعل مهمة مقدسة للأنثى." و "الكينونة تستدعي قبول الذات، والبقاء ضمن الذات وليس في فعلٍ يرمي إلى إثبات الذات. وهذا مسعى لا يجني الاستحسان من العالم الخارجي."
ماذا عن نينشوبور، خادمة إنانا المخلصة؟
إنها من أمَّنت إنانا حياتها لديها، وأمرتها أن تسعى لطلب العون إن لم ترجع في ثلاثة أيام. اعتقد ان نينشوبور تمثل ذلك الجزء منا الذي يبقى واعياً أثناء عملية النزول، أي الجزء الذي يظل فعالاً في العالم العلوي. غالباً ما يروِّعني العمل مع النساء اللواتي يخضن عمليات تحول عميقة ومؤلمة ويواصلن في الوقت نفسه أداء وظائفهن، ويهتمَّنَّ بأطفالهن. يتدبرن بطريقة ما امر استمرار عالمهن العلوي. من المهم أن تستمر الحياة العادية في العالم العلوي أثناء النزول والا كانت التجارب ساحقة. أحياناً من غير الممكن الاستمرار في الحياة العادية، فيصبح العمل مع المعالج خيط الحياة مع العالم العلوي. نينشوبور تمثل أيضاً ذلك الجزء من نفسنا الذي يظل يقظاً بما يكفي لإدراك كُنه عملية النزول، أي ذلك الجزء من الذات الشاهد على ما يجري الذي يقدم تقريره عما يحصل مما يجعله حيوياً جداً. من الملفت إن نينشوبور تسعى لطلب المساعدة من إلهين لم يبديا أية اهتمام لمساعدة إنانا. واعتقد أن هذا جوهري جداً في عملية النضوج، إذا صحت الكلمة.
الكثيرون منا من جُرِحوا في طفولتهم يواصلون البحث عن عون وإنقاذ من ذات الناس الذين جَرحونا في الأصل. ينتهي بنا المطاف مع شركاء أو نحاول أن نرضي من في موقع المسؤولية ممن يشبهون آبائنا أو أمهاتنا إلى أن نعي ما نفعل. وحينها نلتفت إلى مصادر تغذينا حقاً. انه الاله إنكي الذي يستمع أخيراً لنينشوبور وينتابه القلق بشأن إنانا. إنكي إله الماء والحكمة والإبداع. يرتبط الماء ارتباطاً وثيقاً مع اللاوعي ومع الأنثى. وانه من ذلك الوسخ من تحت أظافره، خلق كائنين كان بوسعهما إنقاذ إنانا في خاتمة الأمر. أجد هذا مثيراً جداً. تلك الأجزاء من أنفسنا التي يعتريها الخجل منها، هي التي تعافينا وتصبح مصدراً لقِوانا الكبرى. المعدن الرخيص يحوله الكيميائي إلى ذهب، وذرة التراب التي تصبح عنصر تهييج يدفع المحار ليخلق اللؤلؤ.
المثال المناسب لهذه الحالة هو الدور الذي يلعبه الغضب للنساء اللاتي تعرضن لسوء المعاملة بطريقة ما وحدودهن ليست واضحة المعالم، أي النساء اللاتي يقلن 'نعم' في الوقت الذي عليهن أن يقلن 'كلا'. ما إن تبدأ عملية التحول، سيطفو إلى السطح الغضب الناجم عن اختراق تلك الحدود. وقد يكون هذا مرعباً للنساء اللواتي كن دائماً لطيفات وهادئات وغير حازمات. قد تبدو الأمور وكأنها قد خرجت عن السيطرة لبرهة، إلا إن هذا قد يكون ضرورياً لرسم الحدود، وإدراك إنها قد استبيحت. قد يعطي الغضب شعوراً بالقوة يسري في ثنايا جسم المرء، وهنا نبدأ بتلمس قوتنا الشخصية. وهكذا، الكائنان الصغيران ينجزان عملهما ويعيدان إنانا إلى الحياة فتصعد وهي تجمع شارات قوتها في طريقها إلى العالم العلوي. انه لمهارة ضرورية أن نكون قادرين على أن نختار بوعي متى نضع قناعاً أو نستخدم شخصية أو أن نكون على حقيقتنا. يصح هذا على الأقل في بداية عملية التحول حين نعرف من نحن حقاً. أحياناً ليس من الآمن أن تكشف من تكون حقاً. تعلُّم قوة التمييز جزء حيوي من الرحلة نحو التكامل، أن تكون قادراً على استخدام سيف التمييز الذكوري. نعم، أثق بهذا الشخص ولذا بوسعي أن اخلع عني قناعي وأكون حقيقية، أو كلا، هذه المجموعة لا تبدو لي آمنة، فأختار ألا اكشف من أنا حقاً.
يرافق إنانا في صعودها "الكالا" أولئك المخلوقات الشرسة التي طالبت إنانا، إذا عادت للحياة، بان تُرسل بديلاً عنها إلى العالم السفلي. فتصوب إنانا عين الموت على شريكها المحبوب "ديموزي" وتقول “أنت الشخص المختار." الآن ديموزي جالس على العرش يأكل ويشرب هانئاً بوقته وكأن كل شيء بخير تماماً. في حين ارتدى الجميع مسوح الحداد والرماد حزناً على اختفاء إنانا. ديموزي يمثل، على ما أظن، ذلك الجزء منا الذي يكون في حالة إنكار، الجزء الذي يواصل التظاهر أن كل شيء بخير في أن أجسادنا وكل ما عداها يصرخ إن ليس كل شيء بخير إطلاقاً. ولهذا، قد نواصل العمل بإفراط أو نعرض أن نفعل أشياء هي في الحقيقة أكثر من طاقتنا حتى وإن أصابنا صداع هائل أو إنهاك حاد لدرجة إننا لا نستطيع أن نتحرك. أو نستمر بالتظاهر إن علاقة مسمومة جيدة. نرفض إن نقرأ الإشارات مثل ديموزي. يجب أن يذهب. واصل نيرو العزف بينما كانت روما تحترق.
حسب تجربتي، ليست هناك عملية نمو لا تستدعي تضحية، غالباً ما تكون الجزء الذي تآلفنا معه بقوة. على سبيل المثال، حل أسبوع الكتاب هذه السنة والمتحدث الوحيد الذي أردت ان اسمعه كان "هيلين كارنر". أفردت الوقت المطلوب ورتَّبت مقابلاتي المرتقبة مع الأصدقاء هناك، لكن ما إن حلَّ الصباح حتى أدركت بتململ إنني لا اشعر بأنني معافاة بما يكفي لكي اذهب. فمررت بمشاعر خيبة الأمل والإحباط. ما إن تخلَّيت عن كل هذا وتوقفت عن الشعور بالأسف على نفسي، ذهبت لأجلس في حديقتي الصغيرة مع دفتري وكتبت شيئاً ما. كان يوماً عظيماً وأدركت إن ذلك كان مغذياً لي وأكثر حقيقيةً لحاجات روحي العميقة. ثمة الكثير من التضحيات الجدية التي يجب أن تقدم إذا ما كان لأرواحنا أن تنمو، مثلاً التحلِّي بالشجاعة لمغادرة زواج لم يعد فعالاً بالنسبة لنا، أو إنهاء صداقة تستهلكنا أكثير مما تغذينا، أو التخلي عن وظيفة توفر مالاً جيداً لكنها تصيب الروح بالشلل. تلك الإجراءات الحياتية كبيرة ومؤلمة، لكنها ضرورية لتواصل نمو أرواحنا.
أخيراً أخت ديموزي "جَشتينانا"، تلك المرأة المذهلة التي تعرض أن تذهب إلى العالم السفلي لتحل محل ديموزي. من المثير هنا أن نلاحظ إن إنانا تقرر أن ترسل كل من ديموزي واخته إلى العالم السفلي. أعتبرُ ذلك دليلاً على النضج النفسي الذي خاضته في نزولها. تعلمت أموراً عن الموت والمعاناة والتضحية. تعلمت إن وعياً كهذا لم يعد يسمح لعالم ابيض أو اسود بسيط. وبكلمات “جيمس هوليس" في "مستنقعات الروح" حين يناقش حالات الناس الذين جرَّبوا النزول، يقول "ولذلك هم مجبرون على المعاناة من حقيقة إن خياراتهم لن تكون بين الصالح والطالح، بل بين كل أنواع الظلال الرمادية. عليهم أن يقرُّوا بضبابيتهم الأخلاقية وثنائيتهم الشخصية والثقافية." بالنسبة لي، تمثل جَشتينانا امرأة واعية بصدق، يحركها الحب والرفق. تتبنى هذا الاختيار بوعي. لم يجبرها أحد على ذلك. وقد تعرف أهمية التواصل مع منطقة العالم السفلي. قبلت إن العالم السفلي جزء من حياتها. أن تكون إنسان يعني أن تعاني، كما يذكِّرنا البوذيون. ليس معنى ذلك إن بعضاً منا يريد أو يختار أن يعاني. يبدو لي إننا إذا قبلنا العالم السفلي باعتباره جزء حتمي من حياتنا، سنكون مهيئين أكثر للتعامل معه حين تقدم لنا الحياة تحديات لا مهرب منها ومتعلم منها أيضاً. وعليه يكون السؤال كيف لي أن أتعامل معه وأية معنى استخلص منه، بدلاً من السؤال " لماذا أنا “. هذا ليس سهلاً. لن أتظاهر إن أياً من هذا سهل.
وانا اقترب من الخاتمة، أود أن أترككم مع كلمات حكيمة ل " أتي هيليسوم"، اليهودية الشابة التي فارقتها الحياة في اوشفيتس عن عمر25. كتبت أتي عرضاً استثنائياً لرحلتها الروحية، نُشر لاحقاً في كتاب تحت عنوان "أتي: حياة مبتورة". تقول "في آخر المطاف، لدينا واجب أخلاقي واحد: أن نستحوذ على مساحات واسعة من السلام لأنفسنا، سلام أكثر وأكثر وان نعكس هذا على الآخرين. وكلما اتَّسع السلام فينا، اتَّسع في عالمنا المضطرب أيضاً." القيام برحلة الكشف عمن نكون حقاً وان ننطلق إلى الحياة من ذلك المكان، حسب اعتقادي، هو أحد الطرق لإحلال السلام في القلب. أن نتصالح مع كل أجزائنا المتحاربة. الناقد الداخلي الذي يصر على إننا ليس جيدون بما يكفي فيما يقول الناقد الحكيم نعم نحن جيدون بما يكفي. اعتقد إنها رحلة عمر. وإذا ما توصلنا إلى نوعاً ما من القبول السلمي لأنفسنا، ولو بشكل متقطع، وبالتالي نتأمل ألا نلقي ب "أشياء" نا على كاهل الآخرين. وبالتالي سيكون ثمة فسحة أكبر للتقمص العاطفي والرفق بمن حولنا وبكوكبنا المأزوم. عرفنا المعاناة ونستطيع أن نشعر بمعاناة الآخرين.
قبل سنوات، شاهدت عملاً فنياً بقي ملازماً لي. كان لوحة هائلة من جميع أنواع الوجوه النسائية وجاء تحت عنوان " أرى واسمع ولا افعل شيئاً." اعتقد إن القيام بالنزول، لكي نستعيد كل ما هو نحن، يستطيع أن يمنحنا الشجاعة لنقف ونتحدث بأصواتنا ضد اللاعدالة التي تحيط بنا. ويبدو لي، إن وقتنا هذا يتطلب الشجاعة. حان الوقت أن تجد النساء أصواتهن.
واختم دراستي بقصيدة للشاعر والصوفي “وليم بلَيك “:
" خُلق الإنسان للفرح والحزن
وحين نعلم هذا عن حق
عبر العالم بأمان نسير."