ابراهيم علي/سيدني
لائحة حقوق الإنسان والأفق الذي تنشده الولايات المتحدة الامريكية لم تكن الصياغة النهائية للائحة حقوق الإنسان لعام 1948وليدة تطور الترسانة القانونية لكل بلد نتيجة عدم تطور الفكر القانوني والحقوقي في تلك المرحلة التاريخية وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية تبلورت فكرة إنشاء منظمة الأمم المتحدة نتيجة الظروف الدولية الجديدة في ضوء انتصار الحلفاء على دول المحور لحفظ السلام والأمن الدوليين على أنقاض فشل (عصبة الأمم) في حسم النزاعات الدولية بالطرق الدبلوماسية.
يقودنا هذا التحديد بحكم الضرورة الى أننا لم ندرج في قواعد اللعبة حسب الخطة المرسومة سلفاً التي كانت تستهدف حماية اللاجئين في أوربا وجمع شملهم نتيجة أحداث وقعت قبل كانون الثاني 1951. ومن هذا المنطلق دأب جهابذة القانون في تلك المرحلة الزمنية على العمل بأنشاء الاتفاقية الخاصة بوضع اللاجئين بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 429 بتاريخ 14كانون الأول 1950 وإصدار الوثيقة النهائية للاتفاقية الخاصة بوضع اللاجئين لعام1951التي تضمنت 46 مادة والبروتوكول الملحق الخاص بوضع اللاجئين وقد تزامنت تنفيذ الفكرة على أرض الواقع بعد ما كانت معلقة في الهواء مع خطة مشروع مارشال وفق رؤية الولايات المتحدة الامريكية التي قدمت إلى أوربا أدوات إعادة اعمارها وأعطت الولايات المتحدة أدوات إفلاتها من أزمة اقتصادية جديدة شبيهة بأزمة 1929 واستعماله كميدان أسواق لتصريف صناعة الموت والوقوف ضد الخيارات الحرة للشعوب..! في هذا المناخ المتسم بالتركيز على النضال ضد الشيوعية والحد من توسع نشر ايديولوجيتها، وتنميط السلوك الإنساني في إعادة التركيب البنيوي للمجتمعات الإنسانية لمقتضيات الثقافة والنظام الأمريكي لا تكتب له الحياة لأن الدوافع التي تحرك النظم الرأسمالية تخلق ولا شك التنافس والصراع بين الإنسان وأخيه الإنسان.
في نهاية التحليل نستنتج ان القوى المنتصرة في الحرب الكونية الثانية ساهمت بشكل مباشر بوضع الصيغة النهائية للائحة حقوق الإنسان التي تضمنت ثلاثون مادة تستجيب لمصالح الاستراتيجية الكونية الشاملة لهذه الدول تمهيداً لخلق الفضاءات الملائمة لتسويقها في وسائل الاعلام بهدف تمويه الرأي العام بأهمية مبادئ حقوق الإنسان بترسيخ العلاقات الدولية على أسس متكافئة فوق كل الاعتبارات الأخرى غير ان هذا الافتراض يتنافى إطلاقاً مع طبيعة أنظمة الحكم الأوليغارشية (حكم الأقلية).
والمفارقة الغريبة الباعثة على الغرابة أن غالبية الدول التي صادقت على الاعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 لم تلتزم عملياً بتطبيق المواثيق والاتفاقات الدولية ومبادئ القانون الدولي والعهديين الدوليين: العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية عام 1966 والاتفاقية الدولية للقضاء على جميع اشكال التمييز العنصري عام 1965.
نتيجة ارتكازها في سياساتها الخارجية على خلق بؤر التوتر وإشاعة الحروب في مناطق عديدة من العالم وتصدير حركة الرأسمال المال التي تؤمن لها الربح وتكريس وسائل الإنتاج بشكل خاص للرأسماليين في حين تحرم منها جماهير العمال (خالقي القيم المادية للمجتمع) بسبب سيطرة الأيديولوجية الطبقية للبرجوازية على المفاصل الرئيسية لصناعة القرار السياسي.
والملاحظ هنا أن هذه الدول قد وضفت مبادئ حقوق الإنسان للتغطية على جرائمها البشعة الملطخة بدماء الشعوب وزفرة المعدمين تمهيداً للتدخل في الشؤن الداخلية للدول المستقلة التي تتناقض وتوجهاتها الفكرية والسياسية بهدف تغير هذه الأنظمة تحت الضغط العسكري وربطها بمركز الإنتاج الرأسمالي لتوسيع نطاق نفوذها وقوتها وثروتها ومع تحول الأمم المتحدة من منظمة دولية لحسم النزاعات الدولية على أسس الشرعية الدولية ومبادئ حقوق الإنسان الى أداة تأتمر بما تمليها عليها الإدارة الامريكية، تحولت شرعة حقوق الإنسان الى ميدان للمساومات الدولية، فهناك أنظمة حكم عديدة تمارس أبشع أنواع الانتهاكات ضد شعوبها في مجال حقوق الإنسان بإغفال وسكوت الولايات المتحدة الامريكية ان لم يكن بتشجيعها ودعمها !!
وثمة ظاهرة أخرى تعكس الاستهانة بحقوق الإنسان هي ان القانون الأمريكي يمنع التعذيب والقسوة مع السجناء في حين هناك سجون سرية تابعة مباشرة للأجهزة الأمنية تشرف عليها، تتناقض مع المعاهدات الدولية التي تحرم استخدام التعذيب كما نصت المادة الخامسة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان *(لا يعرض أي إنسان للتعذيب ولا للعقوبات أو المعاملات القاسية أو الوحشية أو الحاطة بالكرامة) ومن الأمثلة البارزة على تصاعد وتيرة انتهاكات حقوق الإنسان في الولايات المتحدة نادى القس جوزيف مكارثي الى معاداة الشيوعية كما فرضت السلطات الرسمية قيداً على الشيوعيين بعدم السماح لهم بمغادرة البلاد، هذا الاجراء التعسفي يشكل بحد ذاته انتهاكاً صارخاً لنص المادة الثالثة عشر من الإعلان العالمي*
(1- لكل فرد حرية التنقل واختيار محل اقامته داخل حدود كل دولة).
(2- يحق لكل فرد ان يغادر اية بلاد بما في ذلك بلده كما يحق له العودة اليه).
وبالرغم من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان لا تزال سياسة الابارتيد تمارس ضد الزنوج في وضح النهار أمام مرأى ومسمع المجتمع الدولي المعني بالدفاع عن حقوق الإنسان وحرياته الأساسية رغم إصدار العديد من القرارات الدولية التي تدعو للالتزام بقواعد الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع اشكال التمييز العنصري عام 1965 والمعاقبة عليها.
فحقوق الإنسان لا تعني عولمة البؤس والشقاء والحرمان وتزايد اللامساواة في المجتمعات الإنسانية وتصدير الدعارة وإشاعة الفوضى وسرقة اقتصاديات الدول النامية وإلغاء التباين الثقافي بين ثقافات الشعوب لمصلحة الثقافة والهيمنة التوتاليتارية الأمريكية الأحادي القطب واندماج المجتمعات والأنظمة في أنماط الأنموذج الرأسمالي تحت مسميات الديمقراطية وحقوق الإنسان.
لقد بدا واضحاً أن هناك تراجعا ًفي مجال حقوق الإنسان الى مستويات الغرائز السفلى ومفردات الموت التي هي في نهاية المطاف نتاج محض للأيديولوجية الامريكية التي لا تتعارض مع السياسات الرسمية القائمة على الانتهاكات الفظة لحقوق الإنسان..
*** (هذه هي السمة الاجتماعية والأخلاقية والنفسية لنموذج الحياة ومنظومة العلاقات بين الناس التي تتميز بها الحضارة الرأسمالية القائمة على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج) لينين
لقد جاء حكم التاريخ عاتياً لاختلال التوازن الدولي لصالح الرأسمالية والانحدار نحو مهاوي البربرية!!!
مصادر –
* الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
*** لينين ف. إ.، المؤلفات الكاملة