ابراهيم علي/سيدني
يتجه العراق في الظروف الراهنة نحو تأسيس مجتمع تسوده (النزعات الدينية والطائفية المذهبية والاثنية) يحدد بوضوح سيادة الأيديولوجية الدينية للدولة التي تمثل الجماعات النافذة في صنع القرار السياسي في تركيبة الهرمية للدولة وتأمين البنى التحتية لهياكلها التنظيمية التي تعتبر الأساس في تثبيت ديمومتها وترسيخ معتقداتها الأيديولوجية وإبراز الرموز التي تشجع على ترسيخ هذا الانطباع حتى تصبح جزءاً من قناعات ووعي الناس، وبالرغم من الا فكار المثالية التي تفرضها هذه القوى التي ترتبط بالطبقات الحاكمة المعادية لمصالح الكادحين، فإنها لم تعد تصلح للظروف المستجدة التي تخطت الكثير من المسلمات والبديهيات الدينية التي سهلت صعود شراذم اجتماعية الى مراكز قرارات حاسمة مقيدة بأصفاد المحاصصة الطائفية والتراث الديني الزائف.
لقد فاقمت الأحزاب السياسية الدينية من استشراء ظاهرة الفساد المالي والإداري الناجم عن تحول الدين الى سلاح أيديولوجي بيد هذه القوى موجهة حرابها الى القوة التي تشكل الخطر الأكبر على مصالحها الطبقية وتهدد وجودها الكياني ان ما يجري اليوم في العراق لا يختلف عما حصل في السابق حيث اصبحت سياسات التميز الطائفي هي من أهم الأسباب الموضوعية لتأجير الوضع لصالح الفكر الديني المدلج وتسيس مؤسسات الدولة في اطار الثوابت الإسلامية على ركام من الاضطهاد واحتكار الحقيقة المطلقة للدين وسلطة العقائد الدينية التي لاتزال هي الشائعة والسائدة في المجتمع.
فالفكر الشائع في الغرب عن الإسلام على حد تعبير مكسيم رودونسن هو ((أن المسلم متخلف لأنه مسلم وان العقلية السائدة في العالم العربي والإسلامي عموماً لا تسمح بانبثاق فكر نقدي فالمعتقدات القديمة الراسخة لا يمكن دراستها حتى الان والاقتراب منها)) حيث ان السلطات الدينية تنهض على واقع مختل مكبلة بمفاهيم دينية واسطورية مغلقة أصابها الصدأ العقلي والخوف من استخدام الفكر العقلاني الحر في اكتشاف الحقيقة رغم ان أشياء كثيرة تغيرت في بنية المجتمعات البشرية بفعل السيرورة التاريخية وحركة الواقع الاجتماعي.
فالدولة التي تقوم على أسس المفاهيم الميتافيزيقية تتسم بالضرورة بالجمود العقائدي والاستبداد السياسي وسيادة التقاليد البالية الموروثة من الماضي السحيق والتمحور حول ثقافة الغيبيات التي تشكل مصدراً لا ينضب من مصادر الثقافة الماضوية المرتبطة بأفكار اخروية حول عذاب القبر والتحريق في النار وملذات الجنة والحوريات في محاولة يائسة لتغييب الواقع الموضوعي بواقع وهمي من خلال تحريك الشعور الديني المتطرف الذي هو من تجليات الدولة الدينية التي تهيمن عليها الذهنية المغلقة في دائرة الثقافة الجاهزة لقبور الموتى!! في الإسلام لا اجتهاد مع النص، فالنص ثابت لا يأتيه الباطل بمعنى انه يقع خارج التاريخ وليس منتوجاً بشرياً كما ان الشريعة وأحكامها هي الأخرى ليست خاصة بالبشر وهذا يعني اخضاع الواقع المتغير لإحكام تشريعية جامدة لا تتحرك ولا تتطور وكيف يمكن ان يكون للفكر أثر في الواقع إذا كان الفكر يأتي الواقع من الخارج؟ فليس الوعي هو الذي يحدد الواقع بل ان الواقع الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي الاجتماعي باعتباره هو مصدر الأفكار وليس العكس؟
فالشافعي هجر مذهبه الفقهي لدى استقراره بمصر إذ أدرك العلاقة بين طبيعة المجتمع وحاجاته ورفض نسخ القران بالسنة لأنه يغلب كفة النص الإلهي على النص البشري *(فالتشريع في مرحلته الأولى لم ينزل به الوحي كتاباً قانونياً والمصادر ليست إلا نتاجاً معرفيا قابلاً للتصحيح والتخطيء لا يمكن إضفاء القداسة عليها او افتراض ثباتها) كما رفض الإسلام فكرة الأبداع في شؤون الحياة فمن وجهة النظر الديني يعتبر الابداع مناقضاً لأحكام الشريعة وتدخلاً في شؤون الله وهو خروج عن النص بل هو خارج النص لذا غضب محمد على أبا ذر الغفاري عندما ألح عليه بالسؤال *(فالشريعة بأحكامها ونصوصها تاريخية ترتبط بالواقع وهي نتاج البشر الذين يصيبون ويخطئون) وما تعرض له محمد في واقعة تأبير النخيل وخلاصتها انه منع قوم يؤبرن النخيل فقال لهم لا تفعل فلم يعط النخل ثمراً فتلف ثماره فقال انا بشر مثلكم أصيب وأخطئ، دليل دامغ على ان التاريخ تحكمه مصالح البشر وليس وصايا السماء.
ان السبب في هذا الانسداد التاريخي يعود الى الانغلاق المنهجي الذي يكرس الوعي الخضوعي وعي تمارس فيه الدولة سلطة خطابها الديني في ترسيخ طغيان المناخ اللاعقلاني بغية إيجاد معالجات لأزماتها البنيوية في العودة الى النصوص للحصول على إجابات جاهزة، فالخروج من الأزمة يتطلب التحرر الكامل من سلطة التراث الديني وتغير جذري لهياكل دولة المحاصصة الطائفية التي فتحت الأبواب مشرعة على مصراعيها امام استشراء ظاهرة الفساد الإداري والمالي والتغطية على الموظفين الفاسدين والتلاعب بالمال العام امتداداً للتجارب التاريخية التي مرت بها الخلافة الإسلامية التي ما زالت تمد الواقع بأدواتها واقرارها على ما كانوا عليه، ولعل أول ما يتبادر الى الذهن مساءلة أبا ذر الغفاري للخليفة عثمان بن عفان في جزل العطاء من بيت المال واحتكار الحكم والولاية لأفراد من اقاربه كان السبب في نفييه الى صحراء الربذة حيث مات جوعاً إضافة الى ان هناك إشارات واضحة حول أراضي فدك التي كانت ملكاً ليهود خيبر اخذت لمحمد وقبل ان يودع أفاق الحياة قدم تلك الأراضي لفاطمة بمثابة هدية في حين يتقاطع هذا الاجراء مع المفهوم الفقهي القائل: أن أراضي الفيء لا تورث وان الأنبياء لا يرثون!!! وفي أعقاب موت محمد أول مصادرة قام بها أبو بكر اعتبر تلك الأرض ملكاً للمسلمين.
ومن الأهمية بمكان الاشارة الى ان التاريخ الديني عبر التاريخ اقترن بالقمع والاضطهاد وتصفية الخصوم السياسيين والعمل على أخصاء طاقات العقل البشري وتحويله الى عنصر عاجز في دراسة وتشخيص سلبيات الواقع والعمل على تحرير المجتمع من عبء التراث الديني الذي يهدم كل القناعات.
وانطلاقاً من مقولة ماركس الشهيرة ((لا يمكن للتاريخ ان يعيد نفسه وإذا حصل ذلك ففي المرة الأولى سيكون على شكل مأساة وفي المرة الثانية على شكل ملهاة مهزلة)) **في العام 1525 البابا انغر ينز لأول مرة محاكم التفتيش بصورة رسمية وأول ما قام به عين حكاما ًوموظفين من رجال الكنيسة وكانت الكنيسة لا تقبل أي اجتهاد او تأويل للعقيدة فحكمت المحاكم على عدد كبير من فلاسفة ومفكري أوربا بتهمة الهرطقة، كما وقعت حوادث اغتيال في مرحلة الخلافة الراشدية في مجرى الصراع السياسي الذي انفجر لهيبها لحظة وفاة النبي *** وان ما يجري في العراق اليوم من مفردات الموت والقتل على الهوية فإن الامر اشبه بممارسات قرون الوسطى الذي يعيدنا الى محاكم التفتيش التي كانت أوربا قد تجاوزتها.
يحتل الفكر الديني مركز اهتمامات الأحزاب السياسية الدينية حيث تشكل الخطوة الأولى نحو تغييب وتجهيل العقل وتأصيل عقدة الخصاء في المجتمع امعاناً في لترسيخ رواسب الماضي التي ما زالت عالقة في الذهنية الغيبية وتخريب المجتمع عن مجرى التحولات الثورية.
مصادر-
* تطبيق الشريعة بين القبول والرفض – رشاد سلام
** الالحاد في الغرب – د . رمسيس عوض
*** الاغتيال السياسي في الإسلام – هادي العلوي