سيدة بن علي/ تونس
من منّا لم يصادف في حياته أو يعاشر شخصا جعله يقف حائرا بسبب قدرته الهائلة على الكذب والابداع فيه.. هل الكذب دليل على الذكاء ام هودليل على اهتزاز الشخصية وجبنها وعدم قدرتها على المواجهة بحقيقتها.. من الكذّابين من يجعلونا نثور ونغضب حين نكتشف استغفالهم لنا ومنهم من يجعل عيوننا تدمع من شدة الضحك حين نكتشف الحقيقة.. أنا شخصيا لسعتني بعض الأكاذيب عدّة مرات.
لا أعرف هل هو غباء مني أم أنّ ذكاء اصحابها وقدرتهم على اختلاق السيناريوهات وحبكها أكبر من ذكائي بكثيرفالكاذب حسب اعتقادي يجب ان يتمتع بقدر لا بأس به من الذّكاء وقد قالها يوما ما رونالد ريغان: "لست ذكياً كفاية كي أكذب!. كثيرون هم الّذين يصادفوننا او يعيشون معنا يكذبون دون سبب أو دافع واضح لذلك وتستمر معهم أكاذيبهم طيلة حياتهم رغم اكتشاف الآخرين لهم وادراكهم بان امرهم فضح وبات كذبهم معروفا لدى الجميع ومع ذلك يستمرّون فيما هم عليه.
أعرف شخصا لا يهدأ له بال أو خاطر اذا لم يتحف المحيطين به يوميا وفي كل جلساته بكذبة من النوع الثقيل او بسلسلة مخفّفة من الأكاذيب ففي اقصى حالات صدقه تراه يبالغ في كل رواياته وحكاياته.. يجتهد كي يجعل الاعناق تشرئبّ نحوه والأحداق تتّسع دهشة وذهولا حين النظر اليه فهو تارة حسب رواياته يتحوّل الى مناضل سياسي وبطل ذي سيف بتّار وتارة الى مليونير يلعب باليورو والدوتش والدّولار وطورا يتحوّل الى كاتب او شاعر لا يشقّ له غبار وأحيانا اخرى نراه يتحوّل الى بطل وضحيّة في الان ذاته ولا يهنأ باله الّا حين يرى دموع الاخرين او نظرات التفاعل مع ملاحمه وادعاءاته.
يقتل في رواياته أمّه أو والده أو أحد أبناءه.. يطلق على نفسه أشرس الأمراض وأكثرها استعصاءا وكي يدعّم ادعاءه يمكن أن يفعل أي ّشيء كأن يتظاهر أمام الاخرين بفقدان الوعي او الاصابة بحالة صرع أنيقة لا تنتابه الا بحضور الآخرين وطبعا لا يمكن أن يكتشف الحضور أن صديقنا الكذّاب بصدد تمثيل دور من بين أدواره الكثيرة.. لا يمكن أن يكتشف ذلك طبعا الا المختصّون والعارفون بحقيقة هذا المرض وتفاصيله الحقيقية كأن يمضغ المصاب بالنوبة لسانه أو يتبوّل على نفسه أو يؤذي نفسه.. نوبات صديقنا نظيفة عفيفة.. لا يهم فهو يكذب ليثير او ربّما هو يكذب ليوجد.. في الحقيقة هذا النوع من الكذّابين تحدّث عنه كثيرا المختصّون في علم النفس ويطلقون عليه اسم الميتوماني ومريض الميتومانيا حاجته للكذب لا يستطيع مقاومتها.. يخلق من الأكاذيب حياةً لا تنتمي اليه فهو يكذب حتى يصدّق هو نفسه كذبه ولا يعي أنّه يزيف الحقائق حتّى لو وعى بذلك كل المحيطين به.. يكذب دون أن يقصد، دون أن يدري ودون أن يريد والميتومانيا تصيب صاحبها بنوع من الجنون بشخصه.. هو يكذب كي يحسّ بوجوده ويحتاج الميتوماني أو مريض الكذب إلى أن يجد من يصدّق كذبه.. تسيطر عليه حالة من التحفيز الإجباري تدفعه إلي اختلاق الأكاذيب وربطها بالحقائق لينتهي في النهاية ليس الى خداع الاخرين فقط بل إلى خداع نفسه أيضا وكما عبّر إريك هوفر:
"نكذب بأعلى صوتنا عندما نكذب على أنفسنا" أو كما عبّر نيتشه بقوله: "الكذب الأكثر انتشاراً هي كذب الشخص على نفسه
ممّا لا شك فيه أن اكتشاف الكذب اذا كان صادرا عن أشخاص نتحدّث اليهم ونتعامل معهم بصفة مباشرة أسهل بكثير من اكتشافه حين يصدر عن أشخاص تعاملنا معهم يكون عبر الكتابة او الهاتف وغيرها.. مثلا لا أسهل من الكذب عبر الفيسبوك خاصّة اذا كانت مخيلة الكذّاب مجنحة وجامحة ولديه قدرة كبيرة على الكتابة والتعبير بشكل جيّد.
أنا شخصيّا انطلت علي عدة أكاذيب من أصدقاء وصديقات عرفتهم عبر الفيسبوك.. أحدهم كان يروي لي حكايات ومغامرات أشبه ما تكون بالملاحم الاغريقية ادعى انها حصلت معه وقد شدّتني حكاياته وتعاطفت معه الى درجة البكاء بل جعلتني أنام متوسّدة الكوابيس لهول ما سمعته منه الى ان اكتشفت بلصّدفة أن كلّ حكاياته محض كذب صادر عن شخص ذي مخيّلة أسطورية اضافة الى قدرته الهائلة على الكتابة وحسن الوصف والتّعبير..
ما كان الأمر لينطلي علي ربما لو كان محدّثي روى لي ما رواه مباشرة فلديّ حدس وقدرة على قراءة العيون والملامح عادة لا تخطئ وهذا معلوم في علم النفس وقد أولاه الخبراء بالكثير من الاهتمام والتّحليل فللجسد وأعضاءه كما يقولون لغة غالبا لا تكذب مهما أبدع لسانه وتعنتر.. كلّ حركة من الشّخص المتحدّث اليك بصفة مباشرة وكل نظرة عين هي أشبه بالإشارة اللاسلكية.
يكفي أن تتأمل وتركّزفي عيني محدّثك حتى تصلك الرّسالة وتكشف حقيقة ما يضمره وتدرك مدى صدق ما يتلفّظ به لسانه ومهما تفنن الكذاب وأتقن ومهما أغدق علينا من ابتسامات يكفي أن نحدق في عينيه لنعرف ماذا تخفي تلك الابتسامة وهل هي ابتسامة حب ومودة صادقة أم هي ابتسامة مجاملة خالية من الروح ام هي ابتسامة كراهية أو شماتة وشرّ البليّة.. وكما يقول الشاعر:
العين تبدي الذي في قلب صاحبها
من الشناءة أو حب إذا كانا
إن البغيض له عين يصدقها
لا يستطيع لما في القلب كتمانا
فالعين تنطق والأفواه صـــامتة
حتى ترى من صميم القلب تبيان
هذا ما أكدته أستاذة علم النفس الفرنسية "سوزان بياكسيل" خلال أحد دراستها موضحة أن هذه الإشارة قد تكون قوية أو ضعيفة ، والأمر يعتمد على جهاز الاستقبال لدى الشخص الآخر..
هذا بالاضافة الى لغة بقية أعضاء الجسد التي يدركها البعض بالتمرس والبعض يدركها بقوة الحدس وهذا ليس متوفراللجميع دون شك ولذلك من السهل على الكثيرين الوقوع في حبائل المبدعين في اختلاق الأكاذيب سواء كان التعامل معهم مباشر أو غير مباشر كما ذكرت سابقا.
في هذا الاطار أسوق معلومة طرفية اعترضتني في أحد المواقع ملخصها أنّ للأنف علاقة وطيدة مع الكذب ربما يتذكر الكثير منا حكاية (بينوكيو) الذي كان يطول أنفه كلما كان يقول كلمة كاذبه.. وهذا ليس مجرد خيال أو تخمين فقد اتفق الروس والأمريكان على فحوى الأسطورة وفي خبر نشرته وكالة (ساب)الروسية قيل أن الكذب يطيل أنف الكاذبين والخبراء وعلماء النفس لديهم القدرة على تمييز القول الكاذب من الصحيح بمجرد تفرس وجه الشخص المتحدّث.. يقولون أن الكاذب حين يتحدّث يتدفق الدم إلى أنفه فيتعرق مما يوسع أنسجة الأنف وبالتالي تمتد يده تلقائياً الى أنفه.
نفس النتيجة وصلت إليها دراسة أمريكية تقول أن الغشاء المخاطي لدى الإنسان يتورم عندما يلجأ صاحبه إلى الكذب ومع أن هذا الأمر لا يظهر جلياً لمن يراقب أنف الإنسان إلا أن الكاذب يضطر إلى لمس أنفه عدة مرات.. ليس الأنف والعين فقط من أعضاء الجسد التي يمكن من خلالها كشف حقيقة محدّثك وتمييز الكاذب من الصّادق بل كل ّأعضاء الجسد يمكن قراءتها وتحليلها فالأقدام ونبرات الصّوت والكتفان والرأس.
كلها يمكن من خلالها فهم ما يقوله محدّثك وكشف اللّامنطوق ففي دراسة قام بها أحد علماء النفس اكتشف أن 7% فقط من الاتصال يكون بالكلمات و38% بنبرة الصوت و 55% بلغة الجسد، ولو اختلفت الكلمات ولغة الجسد فإن الفرد يميل إلى تصديق لغة الجسد وقد بدأ الاهتمام بلغة الجسد واللامنطوق وتدريسه عمليًا منذ الستينيات من القرن الماضي وتحديدا اثر نشر دجوليوس فاست كتابه عن لغة الجسد عام 1970.