ابراهيم علي/سيدني
يمكن القول، إجمالاً، بأن ما يميز هذه المرحلة من تاريخ العراق، هو تفاقم التناقضات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ويتجلى بوضوح بتدهور أوضاع الجماهير المعيشية نتيجة العجز المتزايد في الموازنة العامة وارتفاع نسبة البطالة بشكل غير مسبوق وغياب الحريات الأساسية وتصاعد وتيرة وانتهاكات حقوق الإنسان وسيادة الأحزاب الدينية الطائفية، نتيجة التخبط المنهجي اللاعقلاني لسلطة طائفية رهين الأوهام والخرافات تعتمد تعزيز مواقعها عبر تكريس الفكر الديني وتدوير أليات المنظومة الطائفية السياسية في المجتمع، مما أدى الى زيادة حدة الشرخ الطائفي والمذهبي وتشويه البنية الاجتماعية من اجل تثبيت وترسيخ السيطرة الطائفية التي ساهمت بدفع البلاد الى متاهات العدمية السياسية في ضوء التعبئة والتحريض ضد الحراك الجماهيري ومحاولة تحريفها عن مسارها الحقيقي عن طريق زرع بذور الانقسام ومحاولات احتوائها من قبل ثمة اتجاهات دينية حاولت مؤخراً ركوب الموجة بهدف تفكيك ألياتها وكسر ديمومتها بعد ان اتسعت عمقاً مثلت استجابة موضوعية للواقع البائس وفتحت الطريق ايجاباً أمام اتجاهات ترفض الوضع القائم وترغب بتغييره مع التأكيد على أهمية البعد الوطني في الإطار البديل السياسي الجديد المتمثل بالقوى الوطنية والديمقراطية
وضمن هذا التوجه المنهجي اللاعقلاني، كشفت الاحداث ان حكام العراق يحاولون إخفاء حقيقة فشلهم في تجاوز الازمة البنيوية الخانقة التي مزقت أوصال البلاد ارتباطاً بترسيخ البنية السياسية للنظام الطائفي وتمسك أحزاب الإسلام السياسي بالنصوص بعقلية مغلقة، وخشية فقدان مصالحها قامت بوضع العصى في عملية التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي تمهيداً للاستفراد بالسلطة وبالثروة تمخض عن ذلك ترسيخ ظاهرة الفساد المالي داخل مؤسسات الدولة الطائفية، فكل شيء بات مكشوفاً ومعروفاً للجماهير وبمجرد ان نفتح نافذة على الواقع السياسي نلتمس ان معضلات العراق الكبرى في تعاظم تجد أرضاً خصبة لها في ضوء اتساع دائرة الاضطرابات والأزمات الناجمة عن محاولات النظام في تجفيف منابع المجتمع الحية عبر الفساد والنهب واللصوصية والطائفية ، مما يدفع بالنظام الى الوقوع في خانة التناغم مع مصالح القوى المتنفذة في السلطة السياسية وتأمين مصالح الفئات الاجتماعية التي تمثل قاعدة النظام . حتى بات التغير مجرد شعاراً استهلكت مضامينها ومقتضياتها الإيجابية التي تلزم إحداث نقلة نوعية في الواقع الاجتماعي والاستقرار السياسي يدفع العراق الى مرحلة جديدة تترسخ فيه الإشارات المضيئة للتغير الحقيقي
ومما تجدر ملاحظته ان ثمة ظاهرة أخرى تشد الأنظار اليها وهي أن العراق لم يسبق له أن عاش فترة استقرار سياسي واجتماعي نتيجة انغماسه في لجة الصراعات الدينية والقبلية والطائفية المذهبية ساهمت في تعميق اتجاهات الفساد وتعميمها على نطاق المجتمع وانعكاساته في تزييف الوعي والحقيقة وإضعاف الوعي الوطني، مما أدى الى الوقوع في براثن الجهل والتخلف والجمود أضفى على الموقف تعقيداً اتسم بالفوضى واصرار النظام على إصدار القوانين المقيدة للحريات والتضييق على القوى الفاعلة في المجتمع التي تطالب بتطهير مؤسسات الدولة من الفاسدين والمفسدين وتفكيك بؤر الفساد وإلغاء ظاهرة ترتيب البرلمان بالتوريث الطائفي واستعادة الأموال التي نهبوها والتي تقدر بمليارات الدولارات وإصلاح القضاء من تسيس الاستبداد السياسي الطائفي الكابح للتقدم الاجتماعي.
فمن الناحية الموضوعية ان حزمة الإصلاحات الترقيعية التي أطلقتها الحكومة لا ترقى الى مستوى إحداث التغيير الجذري في تقويم البناء السياسي الطائفي للدولة لعجزها عن الابتعاد عن منطق التلكؤ والنكوص واعتماد معايير الصدق في إعادة بناء البنية التحتية المادية التي تعد بمثابة الخطوة الأساسية التي يرتكز عليها مشاريع الإصلاح والتنمية الاقتصادية وهذا مؤشر على ان النظام يعيش حالة انتظارية لا يرى نهاية النفق المظلم الذي أصبح مصدراً للقلق وركيزة لعدم الاستقرار ينم عن زيف المشاريع السلطوية والتعثر في تنفيذها نتيجة التعامل مع الواقع ككتلة من الغيبيات وبذل أكبر مجهوداته من أجل قمع أي توجه نقدي باتجاه الإصلاح والتغيير.
فالدعوات التي تطلقها الحكومة لا يمكنها التمكين من الإصلاح ارتباطاً بالمفاهيم القدرية التي يرى فيها ان الإصلاح لا شأن للإنسان فيها تقررها المشيئة الإلهية ، فالتغير الوزاري الذي عول عليه النظام كان الهدف منه امتصاص نقمة الجماهير الثائرة ضد التسويف وتسويقه كبضاعة إعلامية فاسدة لا تقوى على اغواء المواطن العادي الذي لعب دوراً كبيراً في الاستقطاب الاجتماعي في أوساط الفقراء المتحدرين من الطبقات الدنيا تمثل ضرورة سياسية اجتماعية من شأنها تعزيز مواقع الحراك الجماهيري وتأصيل نضالاته في السياقات المطلبية لتشمل البلاد كلها. ليس غريباً ان يكون هذا التوجه البراغماتي نحو الإصلاح رافقه الإصرار على التمسك بنفس الأساليب القديمة بفبركة طائفة من الأكاذيب الجاهزة لإثارة الكتل الطائفية التي تقبع تحت قبة البرلمان للدفاع عن مصالحها الطبقية، وهنا نستدرك ذاكرة العراقيين بمواقف طبقة رجال الدين حيال قانون الأحوال الشخصية رقم 180 لعام 1958 الذي نص على مساواة المرأة بالرجل في التوريث والحقوق والواجبات، اصطدمت بمعارضة كبيرة من قبل جهابذة القانون التشريعي والعمل على إلغائه بحجة أنه يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية، ان فكرة الإصلاح السياسي فكرة قديمة تتجدد بتجدد الشروط التاريخية التي يظهر فيها الاستبداد والقمع السياسي وغياب الرؤية الموضوعية للأزمات التي ينتج عنها إضافة الى قصر النظر السياسي التي تعاني منها الطبقة السياسية المسيطرة طبقيا، ولا غرابة من ان يضع النظام الاحتجاجات الجماهيرية في خانة النماذج الجاهزة على غرار ما كان يجري في العالم العربي والإسلامي في محاولة لاستعادة مقولة الأفكار المستوردة التي تستدعي تقويضها لأنها تتناقض مع الرؤية الدينية في تبنيها للعلمانية التي تدعو الى فصل الدين عن السلطة الزمنية. والجدير بالملاحظة لقد مورست ضد حركات الإصلاح التي كانت تستهدف تحقيق المطالب المشروعة للكادحين والفقراء كل وسائل البطش والتنكيل والاغتيال السياسي على مدى التاريخ القديم والحديث وفي كل العصور وخاصة في ظل الأنظمة الدكتاتورية القامعة لشعوبها التواقة للانعتاق من نير الاستبداد بهدف تشويه مطالبها المشروعة والملاحظ ان التاريخ العربي الإسلامي ينطوي على عدد غير قليل من عتاة التاريخ الذين ساموا شعوبهم العذاب والحرمان خدمة لمصالح السلطة آنذاك!! وقد انتقل هذا السلاح الى أيدي نظام الاستبداد السياسي في العراق ليمارس خطابه الطائفي عنفه القمعي باعتقال العقل الذي يرفض تدجينه وهذا ما يؤشر الى تفاقم النزعة التكفيرية الإقصائية وفق معايير التخلف الاجتماعي، فالأحزاب السياسية الدينية الغارقة في التطرف الديني لا تتوانى عن استخدام كل الأسلحة الموجودة بين أيديها من أجل تسخير الدين لضمان مصالحها والحفاظ عليها وحين تتحقق نواياها ومخططاتها تطفو على السطح نزعتها الاستبدادية في السيطرة وتستيقظ فيها نزوات التخريب والتدمير لثقافة وحضارة المجتمع
ان أزمة الديمقراطية في العراق تطفو على السطح تثير قلقاً متزايداً نتيجة تصاعد وتيرة التشدد والتعصب المذهبي الأعمى واتساع رقعة بؤر التوتر ارتباطاً بالسياسات الخاطئة التي يعتمدها النظام بحيث أصبحت ماثلة للعيان يتذوق العراقيون ثمارها المرة بعد ان هزت سلسلة من الفضائح والجرائم مؤسسات الدولة الطائفية، ان الطريقة الوحيدة لإلغاء المحاصصة الطائفية وتفكيك بؤر الفساد والانحطاط السياسي يكمن في نبذ الدين كسلاح في وجه الديمقراطية، كمنهج لإدارة المجتمع وبناء الدولة المدنية والشروع بالتحول نحو إرساء مرتكزات الأساسية للديمقراطية.