ابراهيم علي/ سيدني
تتصف الثقافة الدينية السائدة في المجتمع العراقي بالغيبية المطلقة في بلد يحكم على أساس منظومة الأفكار والقيم الدينية وكأن دائرة العقل مغلقة، وكان العقل في تلك الفترة المظلمة تمارس ذاتها داخل الحدود المثبتة من قبل الفكرة المطلقة، لقد عطلت الثقافة الدينية المنطق والعقل وكرست الجهل والخرافات كثوابت لا تمس ولعبت دوراً اساسياً بين النخبة الحاكمة والمواطنين وكانت تقضي على الحاكم قراراتها وتخضع المواطنين للطاعة وهيأة التربة الخصبة لتفريخ الانغلاق المعرفي وإنتاج مجموعة من المعتقدات الغيبية التي مصدرها الوحي، كما لعب رجال الدين دوراً كبيراً في ضخ المواعظ التقليدية التي تسهم في تعطيل وعي الشعب والهائه بالخرافات والأساطير التي تمخضت عن الوعي البدائي ارتباطاً بمنهجية التصور السكوني للإنسان تمهيداً لتفكيك المجتمع وتمزيق نسيجه الاجتماعي في استقطابات طائفية مذهبية عرقية التي تؤسس لتأصيل الممارسات العقائدية التي تشكلت من التصورات الغيبية، وقد استخدم النظام السياسي الدين في سائر الأزمان للمحافظة على خضوع الطبقات المهيمن عليها في تثبيت شرعيتها وسيطرتها وتحوله إلى أداة في خدمتها.
ومن اللافت للانتباه أن البنية الثقافية الإسلامية الماضوية أصبحت في ضوء المعطيات الراهنة للواقع الثقافي أكثر عمقاً وتعسفاً نتيجة احتوائها من قبل سلطة سياسية تقوم على منهجية المحاصصة الطائفية التي لم تنهي مهمة ذر الكراهية والأحقاد التاريخية وتناسل الدمار في المجتمع ، فأصبحت امتيازاً مكرساً لطبقة رجال الدين والنخبة الحاكمة وهي ثقافة احتكارية استبدادية فئوية محتفظة بقدسيتها تستند في ذلك الى الركيزة الفقهية التي لا تفند حول (كمال الدين وشموليته) ولاريب أن الدولة لعبت دوراً في تهيئة الأجواء الملائمة لفرض حالة التدين من خلال المؤسسة الدينية التي ما تزال تحت سيطرة الدولة الطائفية. تقترن الثقافة الدينية الرسمية بالثقافة السائدة ويؤلفان جزءاً لا يتجزأ من الوعي التقليدي والتفكير البدائي والتسطح المعرفي والتقليد الأعمى التي تهيمن على قطاعات اجتماعية واسعة في المجتمع، وما يطرحه الفقيهة يؤخذ كأمر مقدس ويعتبر مطلقاً ثابتاً، وهو مصدر كل قمع يفضي في النهاية الى التخبط العشوائي في متاهات الحياة وإغراق الشعب في دياجير الظلام والجهالة واجترار الماضي وترسيخ هياكله التحتية في صياغة الأسس العامة لبناء قاعدة التحليل المثالي الذي يقوم على ضلال العقل الجمعي حيث يصبح الجهل وحده هو الذي يجعل الإنسان يؤمن بالغيب وأنشاء واقع فكري مغلق منفصل ومقطوع عن واقع الحياة المعاصر
وانطلاقاً من فرض الوصايا على الحاضر والمستقبل ترفض الثقافة الدينية في الأساس استعادة الشعب سلطته على نفسه ومن الطبيعي إن يعارض هذا الحل طبقة العلماء المرهونة للسلطة والمنتفعون بالنظام الطائفي والذين يخشون ضياع امتيازاتهم وإصرارهم على الانغلاق ورفض التغيير حسب منطق (لا جديد تحت الشمس) الذي يجد تجسيده الموضوعي في الثقافة الظلامية التي لا تقبل التغيير انطلاقاً من ثوابت الإسلام فالتغيير من وجهة نظر الفكر الديني يرتبط بوجه عام بالمصدر الإلهي عن طريق الوحي الذي لم يكن في وسعه إضافة معناً جديد في الذهن الإنساني سوى إلغاء ذاكرته وإعادة إنتاج النص الذي لم يعد يتناسب مع المستجدات التي طرأت على عالم اليوم؟ فالوحي لازم محمد ثلاثة وعشرون عاماً منذ بداية نشر الدعوة الإسلامية حتى وفاته، وتوقف الوحي لأن محمد كان خاتم الأنبياء وتحديداً عندما أصبح الإنسان قادراً بعقله على أن يصل إلى الحكم على الأشياء دون تدخل وحي أخر، ورغم تلك الحقيقة التاريخية لاتزال ثمة اتجاهات دينية تسوغ الاعتقاد بفاعلية الوحي في المجتمعات الإسلامية حتى اللحظة الحاضرة!! فالثقافة الدينية السائدة اليوم هي أيديولوجية أكثر مما هي معرفية تعمل على نسق أطلاقي لتوظيف الدين سياسياً في خدمتها وإيقاف حركة المجتمع عند نقطة تحول دون تحقيق مشروع التغيير الحقيقي وتجعل من الإنسان موضوع للإكراهات والتبعية المطلقة للنصوص التي صيغت من قبور الموتى والتطبيق الشكلي للشرائع وأحكام الخطاب الإلهي وذر الرماد في العيون لطمس معالم الحقيقية التي تعكس طبيعة الصراعات الدينية بين الفرق المذهبية وما يزخر به من خلافات فقهية وعقائدية تصل إلى حد التحارب حيث يدعي الكل امتلاكها للحقيقة. والعمل على تقويض المضمون الجوهري للثقافة الجماهيرية المخصبة للفكر التقدمي وقتله معنوياً في إطار الثقافة الاحادية الجانب المعادية لكل تطور تاريخي على صعيد الفكر المبدع.
إن وضع الثقافة ضمن دائرة موروثه الجاهز يعكس نظام التكرار في الزمان والمكان ويسوغ تمجيد الماضي ويعتقل عقل الإنسان وكلما أزداد الرعب الديني أنقسم المجتمع الى مجتمع يمتثل لطلبات المؤسسة الدينية ورجال الدين والجماعات التي تستولي على مقدرات المجتمع الأمر الذي يكشف عن مكامن الخلل المعرفي في تركيبة البنية الثقافية الدينية التي تستمد مشروعيتها من حطام تراكمات الماضي السحيق الذي لا يتفق مع معطيات هذا العصر، ومما تجدر الإشارة إليه أن الطبقات الحاكمة في العراق لجأت الى تسويغ الثقافة التقليدية عبر مؤسساتها الثقافية ومنابرها المتعددة بضخ الخطاب المعادي ضد المنظومة الثقافية المتحررة من الرؤية الميتافيزيقية، واستخدمت الدين كسلاح نظري في يدها لمقارعة هذه الأفكار التي تمثل مصالح الطبقات المحرومة من وسائل الحياة؟
وترتبط هذه الأفكار المعادية لطموحات الشعب العراقي في إقامة النظام الديمقراطي، بمنهجية الطائفية السياسية التي تتمسك بها الدولة وتوظفها في خدمتها لتأمين بقائها في السلطة السياسية التي تشكل العقدة المركزية في المذهب الشيعي وتحقيق أشكال ثابتة من الهيمنة الثقافية بوصفها إلهياً لا تخضع لآليات العقل البشري وهي في واقع الحال سياقات غارقة في الميتافيزيقيا اخترقت كل مساحات الحياة اليومية عبر ترسيخها المعتقدات التقليدية في الذهنية الماضوية، فالمجتمع لا يمكن أن يتحرر ألا عبر إلغاء المنهجية الطائفية وتفكيك بؤر الفساد والتفسخ السياسي والخرافات والأوهام التي تراكمت عبر التحقيب التاريخي؟
واستناداً إلى هذه الصيغ فإن الطائفية تحولت الى نظام ثقافي رسمي تتبناه الدولة في تطبيق شريعة الأخذ بالثأر وفرض القيود على الأفكار والثقافات الحرة التي تتقاطع مع توجهات المؤسسات الدينية، في ضوء هذا الواقع الملتبس تاريخياً بدأ المجتمع العراقي يشهد عجزاً ثقافياً بلغ الحد من الانغلاق والتراجع إلى الخلف أكدت استحالة التغيير التدريجي وغلق الطريق أمام أمكانية قيام المرتكزات الأساسية لخلق ثقافة عقلانية تضع في الاعتبار فاعلية الإنسان في اجتراح المأثر التاريخية؟
والملاحظ أن الفكر الديني لا يزال محكوماً حتى هذه اللحظة بالمقولات الأساسية للفكر الإسلامي القروسطي وأن حرية الفكر والاعتقاد قد انتهكت وتحول الدين الى صومعة مقاتلة عقابية يعتمد تقدمها على فكرة الاكراه التي لا يتسق مع (لا اكراه في الدين) وإن تشريعات الدولة لا يجوز الطعن بها لأنها من صنع السماء، لا من صنع الإنسان ونتيجة هذا الضياع المعرفي في دهاليز النفق المظلم أشرف المشروع الإسلامي على انهياره لأنه ليس من وصايا السماء ولا مواعظ الفقهاء؟