قصة قصيرة (الى/الميساء الميسانية س.م )
قاسم العزاوي/ بغداد
مالذي يجعل الطيور المهاجرة أن ترجع لاعشاشها القديمة ،وتحوم حولها وهي تستكشفها بعيونها الخرزيّة الصغيرة..؟!
وعند كل دورة تقترب منها، حتى تكاد تلامسها باجنحتها الخافقة ،وتقبلها بمناقيرها المدببة المعقوفة..! وتخرج ألسنتها - متصورة - من أنها تزّق صغارها ماء الحياة وديمومة البقاء..!
كيف تتعرف الافراخ التي ترعرعت في اعشاشها منذ عام مضى، بعد أن صفّ ريشها وأكتمل خفق أجنحتها، وحلّقت عالياً وهي تودع أعشاشها بنظرة وداع أخيرة.؟!.. لكنها لاتلبث في السنة القادمة أن تعود اليها وتتعرف على هياكلها القشيّة حتى وإن هاجرت الى قارات بعيدة، وعبرت البحار والمحيطات والجبال المعانقة لعين الشمس.!
لكن: مالي والاعشاش والطيور المهاجرة، ومالذي دعاني أن اتابع هجرتها ورجوعها الى أعشاشها.؟! أنه ذاك العش المعلق على جدار مشغلي الفني، عش صغير مخروطي الشكل، من ألياف وقش وطين متيبس فتحته صغيرة تتسع وتتسع رويدا رويدا، مبني برشاقة وإتقان، فتحته تميل بزاوية منحرفة الى الاعلى.. لاادري مايربطني بهذا العش.؟، حتى أبقيته يحتل مكانه القدسيّ..!
رغم كل الترميمات وتغليف السقف بديكورات وزخارف نجميّة متقاطعة.. أتأمله تارة واتامل نافذتي المفتوحة على فضاء ازرق مطرّز بندف الغيوم البيض..! لعلّ طائر السنونو يعود من هجرته ويحط على عش طفولته المحاط بلوحاتي الفنية والتي رسمتها لمعرضي المرتقب، واقترحت له عنوانا (عش السنونو..).
طائري المهاجر: لَكَمْ اشتقت اليك..!
وأنت تتقافز على منضدتي وألواني ولوحاتي، وتحطّ على كتفي، تلتقط طعامها من لساني المندلق كزنبقة ورديّة..!
طائري.. ياطائري الجميل: أتذكر وأنا ادلعك بأرق الاسماء: سنو/ سنسن/ سوسني/ سنايّ..و..و..و، والذي ماغادرتني يوما، ولا يطمئن قلبي حتى أراك تهجع في عشّك، ورأسك الصغير يخرج من العش وكأنك تراقبني باطمئنان..!
ها.. أن موعد عودتك من هجرتك قد أقترب..،
أرجوك: واصل طيرانك وخفق أجنحتك ولاتضل الطريق، طريق الانهار والنخيل والشناشيل والجوامع والكنائس، طريق عباءات الامهات الطيبات، والنسوة الشبقات، والاسواق الشعبية، والمقاهي وانغام المقام البغدادي، الرست/ العجم/ البيات/ الصبا/ النهاوند/ اللامي/ المحمداوي/ الحسيني/الطويرجاوي ووووو.. وهي تنبعث من البيوت والمقاهي (ياكهوتك عزاوي..).. أتوسل اليك: لاتضل طريق النسوة البغداديات وهنّ يحملن (صواني الشموع) لخضر الياس ومراقد الاولياء.. أرجوك: تتبع طريق التي سرقت قلبي: بيضاء كالوفر، بوجه قمري وعينين من نبع زلال، فارعة الطول كأعمدة شارع الرشيد..!
أخبرها إن صادفتها: - ردِ قلب من سرقتيه ولذتي بالفرار.! لقد سرقتني مني ولم ترجعني اليّ..!
أيها المهاجر الى فضاءآت لاتعرف كيف تحتويك، ولا ألفتك يوماً، ولاسقتك من رذاذ المطر..!، فضاءآت غريبة،مجنونة، قاسية، ملبدة بالغيوم ورائحة البارود والطائرات، فضاءآت مجهولة يسكنها الجن..!
وتتقاتل فيها الطيور ويتناثر ريشها ويتلاشى، وتخرّ هابطة: فوق الجبال الوعرة، والبحار والمحيطات المتلاطمة، والسفن العملاقة المدكسة باجساد بشرية عارية تساق الى أسواق البيع والانتهاك..!
سفن تغص بالافيون وعلب السكائر التالفة، وقناني الويسكي المغشوش، وأكداس من علب اللحوم العفنة، لعلها لحوم قرود من القارات السوداء..!
فضاءآت تفرش عليها الخرائط وتحاك خطط اهانة واستلاب الانسان..! فضاءآت من جحيم.. فضاءآت من دم..!!
أيها المهاجر الجميل.. ياسوسني: لاتضلّ الطريق.، نافذتي مشرعة وكفي مبسوطة، كتفي متأهب لاستقبالك وعشّك في الانتظار..!
:- لكن الليل خيّم ولم ياتِ..؟! وفاتنتي التي سرقت قلبي ولاذت بالفرار لم تأتِ ايضاً..!
قيل: أنها تضيء سموات أخرى، وتتغنج لمصارع زنجي، توميء باصبعها الذي من بلور لجمعٍ من الفتيّة والرجال:
-- أركعوا.. فيركعون..!
-- إسجدوا.. فيسجدون..!
-- أرقصوا.. فيرقصون..!
-- اضحكوا.. فيضحكون..!
وحدي، من يبكي على قمر يضيء سماوات أخرى، ويقبّل النجوم منحدراً الى معارجه، مبتسماً، فرحا، متغنجاً، وهو يرمقني باستهزاء من شيبتي وانحناء ظهري..!
قلت: سنو..No..!
وبصقت على وجه من قال: انها تتلوى في حضن زنجي مصارع..! أيها السنونو الحبيب: أما آن الوصول..؟
لكن الردّ مزقّ قلبي:
-- لاتنتظر ايها المعتوه، فلقد مررت من أمامك مرات ومرات ..! وبصوت منكسر متخاذل
قلت: وعشّك الذي حرسته يوما ً بعد يوم..!!
قال: لاأسكن في عش سكنته من قبل..!
قلت: وا.. اسفي فلقد لوثتكَ الفضاءآت البعيدة..!
حينها، حوّم عدة مرات فوق نافذتي، ومرق كالسهم داخل مشغلي، وسدد مؤخرته وذرق على كتفي المتأهبة للاحتضان، وواصل الطيران وهو يرمقني بنظرة غريبة بها من الاستهزاء الكثير.
متن أخير
مازلت أحتفظ بالعش في مرسمي، وعلقت تحته لوحة لطائر السنونو، رسمتها بالاسلوب الرمزي، وأستبدلت رأس السنونو، بالوجه القمري.، وجه التي سرقت قلبي ولاذت هي الاخرى بالفرار..!