نامق عبد ذيب/ تركيا
اللعنة على بائعي الجرايد المتجوّلين! اللعنة على القمصان ذاتِ النصفِ ردن!
اللعنة على قرّاء الجرايد أيها العمُّ ماجد، يجلسون في المقاهي كسالى خاملين، وحين أدخل المقهى حاملاً الجرايد بذراعيَّ الصغيرين يناديني أحدهم فيأخذ إحداها بحجّة شرائها، ولكنه لا يشتريها أيها العمُّ ماجد، يبدأ بتقليبها وقراءة عناوينها من الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة، بل إنّ بعضهم يقرأ الافتتاحياتِ والوفيّات والإعلانات، وفي الآخر يعيدها لي ولا يشتريها أيها العمُّ ماجد، لا يشتريها ابن الكلب وكأنني موكّل بإطلاعه على آخر أخبار العالم، تُفٌّ عليهم أيها العمُّ وتُفٌّ على المقاهي وروّادها وشايها القذر !
اللعنة على أقراني من بائعي الجرايد أيضاً، تعرفنا أيها العمُّ ماجد، كنا نتجمّع أمام مكتبتكَ الصغيرة منذ الصباح منتظرين الجرايد القادمة من بغداد، ولكنها كانت تتأخر كثيراً تلك الأيام إلى ما بعد أذان الظهر، وقد لا تصل إلى ما بعد العصر، كنّا نتزاحم بمجرّد وصول السيّارة التي تنقلها، فنتحوّل إلى مظاهرة نَحْل صغيرة ونحن ننقل المجلات والكتب القادمة من بغداد الغامضة إلى داخل المكتبة.
اللعنة أيضاً على (الفَلاسين) التي كنت تعطيها لنا مقابلَ بيع جرايدك اللعينة، فهل من المعقول أن ندور الرمادي شارعاً شارعاً ومقهىً مقهى وسوقاً سوقاً مقابل ( فِلسين ) لكل جريدة نبيعها! ولكن تدري؟ لم أكن أفكّر بفلاسينك الحُمْر تلك، كانت لي متعة أخرى، متعة لم يكتشفْها أصحابي الذين كانوا يفكِّرون بالربح، ولا أنت الحريص على عدِّ الجرايد التي نبيعها لك فقط، بينما أنا كنت أفكّر بشيء آخر! رائحة الجرايد الجديدة!
آه ... كم كنت شغوفاً بها! والله كنت أفرك بها أنفي وأتنشّق رائحة حبرها الغامضة، والله كنت أحتضنها كما أحتضن روحي في ليالي الشتاء الباردة، والله مازلت، وأنا أقارب الستين، أحاول تنشّق رائحة كل جريدة جديدة قبل قراءتها، اللعنة، قلت لم أكنْ أفكّر بـ (فَلاسينكَ) أيها العمُّ ماجد، ألم تلاحظ ذلك؟
ألم تلاحظ بأنّي كنت أقلَّ بائعي جرائدك بيعا؟
ألم تلاحظْ بأني كنت لا أكتفي بالجرائد فقط، وإني كنت أضم إليها كتبا ومجلات ودوريات لا يشتريها أحد، بينما أصحابي يؤكّدون على أخْذ الأكثر بيعاً وانتشارا؟
يا لشارع المستشفى الجمهوري في الرمادي ، كم كان جميلاً وطويلاً وواسعاً ومشجّرا وخاليا من المارة ونظيفا وأنيقا! الرحمة على شجرة اليوكالبتوس التي تقع في بدايته على جهة اليسار ! كانت سامقة ووارفة تمنح ظلَّها لي دون مقابل أنا بائع الجرايد الذي لا يبيع الجرايد، تدري؟
لم أكن أذهب بعيداً عن مكتبتكَ اللعينة، كنت آخذ منكَ ما قسم لي الله منها ذلكَ اليوم متظاهرا بأني نشط جدا لبيعها، كان هذا أمامك فقط وأمام زملائي البائعين الذين كانوا يطيرون بمجرد أخذ حصصهم اللعينة منها، بينما أنا كنت أتأخر عنهم لكي لا يكتشفون طريقي ويشون بي إليك فتمنع عني حصّتي من بيع الصحف كما تسميها، فما أن يخرجوا من المكتبة حتى يهرولوا، وهاتِ يا صراخ ، جرايدْ جرايدْ جراي يـ .. يـ .. دْ، وكأنهم سيربحون الدنانير، ينسون بأنهم بعد أن تُهرى أقدامهم في الشوارع والمقاهي والأسواق ستكون حصيلتهم فَلاسين معدودة لا تملأ جيبا ولا تشبع بطناً!
قلت الرحمة على شجرة اليوكالبتوس، فبمجرّد أن آخذ حصّتي، أزوغ باتجاهها، ليستْ بعيدة عن مكتبتكَ أيها العمُّ، ولهذا اخترتها، وليستْ بخيلة بظلّها، ولهذا آخيتُها، وما من أحد يمرّ بها إلا نادراً، عابرون نادرون، أطبّاء أنيقون، وسِسْترات يشبهن الملائكة يضعنَ على رؤوسِهنَّ تلكَ القبّعات البيض الصغيرةَ المعروفة، شجرة بوارف ظلِّها، وجرائد ومجلات بكامل جِدّتها وألوانها البرّاقة وأغلفتها التي تخلب الأبصار جاءت لي خصّيصاً من بغداد والقاهرة وبيروت وعواصم أخرى لم أكن أعرفها أيها العمُّ، ولكن هذا لا يهم، المهم إنني أفترش الأرض الآنَ وأضعها أمامي، وأبدأ بتقليبها وقراءتها أيها العمُّ ماجد، كم كانت مجلة (آخر ساعة) كبيرة وواسعة هي وأختها مجلة (المصوّر) ، تأتيان من القاهرة مباشرة لي، حتى إنني كنت أندهش عندما أرى تلك (الطّمْغة) على صفحتي غلافيهما (وصلتْ بالطائرة)، نعم تصل بالطائرة لي بصورة خاصة لتشرح لي كيفيةَ سقوط طائرة عبد السلام عارف في البصرة، حتى إنني تصوّرت حينها أنها أطلقت على نفسها اسم (آخر ساعة) لكي تشرح لي (آخر ساعات) عبد السلام عارف في الحياة، فنشرتْ له صوراً وهو يتجوّل في الشمال ببزته العسكرية، كانت الصّوَر تأخذني إلى آخر الدهشة، وآخر الانفعالات، اللعنة على مجلتَيِّ (الموعد) و (الشبكة ) اللبنانيتين! كانتا تحرّكان فيَّ ما لا أفهمه ولا أدركه من خيالات أخجل من الحديث عنها الآن، تعال يا عمُّ ماجد، تعال وشوف الدنيا، واترك الفَلاسين، تعالَوا يا بائعي الجرايد، اتركوا المقاهي العفنة وزبائنها الكسالى وشاهدوا معي مريم فخر الدين، فلْقة القمر التي سقطتْ سهوا على الأرض، شاهدوا صور ماجدة وهي تتقمص جميلة بوحيرد، وفاتن حمامة وهي تأخذ بالعشاق من ناصيتهم إلى أعالي الرومانسية، ونادية لطفي بجبروتها وشادية برقّتها، ونجوى فؤاد وهي تمدُّ فَخذيها إلى أقصى الرقص، وسهير زكي لا ترقص إلا على موسيقى أغاني أم كلثوم، وعبد الحليم حافظ وهو يحاول إقناع الدنيا بمرضه، ولكنْ مَنْ يصدِّق، أنا فقط الذي صدّقتك يا عبد الحليم ، كنتُ أحسُّك أخاً كبيراً وفقيراً مثلي ... ومريضاً.
يا لتلك الساعات التي تمرّ، وأنا في تلك الجنّة، مرَّ طائر عائد إلى عشّه، فعليَّ الآن أنْ أقوم بجولتي الكاذبة لبيع كنوزي الغالية، جرايد جرايد في المقاهي، جرايد جرايد في الشوارع، جرايد جرايد في الأسواق، ولكن من يشتري مني وأصحابي الملاعين قد سبقوني إليها؟
فها أنذا أرى بعض الناس يتصفحونها، أراهم وقد غرقوا في مانشيتاتها وصورها وألوانها، يحلّون الكلمات المتقاطعة ويبصقون، رجاءً لا تحدّقوا بوجه هند رستم كثيراً أيهاً القذرون، فهي متعبة الآن، أتعبها يوسف شاهين في (باب الحديد)! رجاءً لا تسبّوا جمال عبد الناصر أيها الشيوعيون! رجاءً لا تكذِّبوا أحمد سعيد عندما أعلنَ عن سقوط 35 طائرة إسرائيلية بغارة واحدة أيها الناس ، رجاءً لا تكرهوا محمود المليجي فهو ليس شريرا كما يظهر في الأفلام، أنا أعرف ذلك، أنا بائع الجرايد الذي لا يبيع الجرايد، رجاءً لا تسبّوا عبد الرحمن عارف أيها البعثيون! هدى سلطان طلّقها فريد شوقي، سُبّوا إذاً فريد شوقي الشرير، المطربة صباح باعتْ كباشَها السود فأضاعت قلبَها في بيروت! عبد الحكيم عامر انتحر بسبب برلنتي عبد الحميد وليس بسبب هزيمة حزيران، لماذا (محمد بديع سربية) يقترب بشكل مريب من القدّيسة نجلاء فتحي وهو يجلس معها في حوار صحفي؟
لماذا يخاف محمد عبد الوهاب من السفر في الطائرة؟ لماذا السنباطي معتكف؟ ما الذي دفع عبد الرحمن البزاز لتقديم استقالته؟ أين تقع فيتنام؟ هوشي مِنه اسم عاصمة أو اسم قائد عسكري؟ هل النساء كنَّ يقعن في حب جيفارا ؟ أين هو الآن؟ لماذا قتل كِيمْ ما تسي تونغ العصافيرَ في الصين الشعبية؟
هل الصين شعبية في قتل العصافير فقط؟ من هو كِيم إيل سونغ؟ لماذا طار ثوب مارلين مونرو إلى أعلى فرأى العالمُ كلُّهُ ساقين من مرمر أبيض؟ بريجيت باردو؟ آآآه، صوفيا لورين؟ صدرٌ تنام الغيوم عليه وتنسى المطر! جينا لولو بريجيدا؟
امرأة من القطن الأبيض المندوف يقول لكَ استلقِ ولا تخف! ك. ك؟ الوحيدُ أنا الذي حللتُ سر هذين الحرفين المتشابهين، وإلا مَن كان يعرف في الرمادي حينها إنها تلك القطة الإيطالية الساخنة كلوديا كاردنالي؟ أليس مثيراً إنني أستطيع إجابة كل هذه الأسئلة وأنا مجرّد بائع جرايد بعمر تسع سنوات لا يشتري منه أحد؟ ولكن ... اللعنة على القمصان يا عمُّ ماجد! كان قد أوصاني أخي الكبير أنْ أمرَّ على (الأوتجي) لجلب قميص له من هناك فقلتُ له: صارْ، ومن عيني، وعلى راسي! اللعنة على أنصاف الأردان وأنصاف البشر وأنصاف الدنانير ما عندي خردة! جرايد جرايد جرايد، لا أحد يشتري، المنار، الأهرام، الشعب جرايـ.. يـ .. يـ .. د ، لا أحد يشتري، الشبكة، الموعد، الهلال، الجمهورية القاهرية، جرايد، أخبار اليوم، آخر ساعة، المصوَّر، الصيّاد، مجلات مجلات جرايد ، لا أحدَ يناديني ، لا أحدَ يقرأُ أيها العالم! لا أحد يشتري! آه، هذا هو (الأوتجي) لآخذ قميص أخي معي الآن.
اللعنة على القمصان الماويّة ذاتِ الأزرار البيض، سأكرّرها إلى أن أموت. وضعتُ القميص على رأسي وعدتّ متجوِّلا وأنا أصرخ جرايد مجلات جرايد، ولكن ولا من يشتري، والظهيرة حارّة و وربّما قد عاد الآن رفاقي إلى المكتبة هم قد أنهوا بيع تلك واسعة الانتشار، وسيعودون والفلاسين تطرقع في جيوبهم، اللعنة على الفَلاسين، اللعنة على القرّاء، اللعنة على صلاح نصر مدير المخابرات المصرية، ولكن أين القميص؟ لا قميصَ على رأسي! القميص طار! وين؟ وكيف؟ ولماذا؟ ماذا سأقول لأخي عنه؟ طار فوق عش الوقواق؟ طلبتْهُ الندّاهة مني؟
اللعنة عليكَ أيها القميص الماوي بنُصَّي ردنيك! اللعنة على (الأوتجية) أينما ثُقفوا! عدتُّ بأدراجي إلى الدروب التي سرت فيها قبل قليل، اللعنة على الدروب، ولكن لا أثر لقميص فاتحِ الزرقة بنصف ردن، لا أثر لقميصِ أخي الكبير! ذهبت مسرعاً إلى المكتبة وسلّمت عُهدتي إلى العمَّ ماجد قائلا له: لم أبعْ شيئاً اليوم، وخرجت عائداً إلى البيت.
اللعنة على البيت! كان أخي الكبير هناك، سألني بمجرّد دخولي عن القميص! قلت: لا قميص، ولا نص ردن، ولا أزرار بيض، اللعنة على الهواء، أطارَهُ من فوق رأسي دون أن أنتبه، بحثت عنه في كل مكان ولم أجدْهُ، تناولني أخي ورفعني عالياً وألقاني على الأرض، انهالتْ كفّاه على وجهي صَفْعاً ولكْماً، ورجلاهُ على بطني ومؤخرتي ركلاً ورفساً، انبثق الدم من أنفي، هربت إلى الغرفة وأغلقت الباب خلفي.
اللعنة على الدم والغرفة والعالم المعاصر! دمي يسيل ولم أحاولْ إيقافَهُ، تركته ينساب على راحته إلى أن تكوّن غدير صغير منه، غمسْت إصبعي فيه، وبدأت أخطُّ على الأرض وجدران الغرفة لعَنات أخرى، لَعَنات بدمٍ أحمرَ حار !