سيدة عشتار بن علي/ تونس
منذ أيّام اعترضني على مواقع التّواصل الاجتماعي منشور لشاعر وبمعنى أصح لشويعر أصابني بالوجوم لبعض الثواني ثم وجدت نفسي أسترسل في ضحكة صاخبة..
صدقا صعقت لما قرأته ووجدت نفسي مصدومة من تضخّم الأنا لديه ووجدت نفسي أضرب كفّا بكف وأتساءل كيف تشربت نفسيته كلّ هذا.. الشويعر صاحب المنشور يتمغّط ويتمطّط وبكلّ نرجسيّة وقحة يتوجّه بكلامه الى أعداء وهميّين وبكلّ صلافة يقول لهم أنا شاعر كبير جدّا جدّا ومن حقّي أن أتعالى عليكم أيّها الأدباء الصّغار جدّا جدّا وايّاكم أن تحلمو يوما بالوصول الى مكانتي العالية جدّا جدّا..
في الحقيقة كنت أقرأ تصريحه الأحمق هذا وأتخيّل أنه كان يكتبه واصبع سبّابته في ثقب أنفه المكتنز من الدّاخل.. لا أذكر يوما أنّ ما كتبه من نظم وتلفيق لجمل مسروقة من هنا وهناك ترك في تأثيرا ما أو دغدغ تفكيري واحساسي ولو بصفة محتشمة فنصوص هذا الشويعر سطحيّة وفارغة تعتمد غالبا على محاولة الابهار وخطف البصر عبر الاسراف في الاستعمال السطحي لعناصر الطبيعة من فراش وبلابل ونوارس وبحر وسماء وغيرها من العناصر الطبيعية الّتي يسرف الكثير من الشّعراء في استعمالها لتكوين صورهم الشعرية..
هذا الشاعر يصح تصنيفه ضمن مجموعة الشعراء الثانويين حسب تعبير غاستون باشلار في كتابة الماء والحلم وقد قصد باشلار بتصنيفه هذا الشعراء الذي يخلو شعرهم من العمق والتـّأمل فصورهم ونصوصهم حسب تعبير باشلار أيضا لا توقظ فينا انفعالا عميقا ولكونها صورا عابرة فهي لا تعطي الّا انطباعا عارضا..
شاعرنا الكبير جدا جدا حسب نظرته الى نفسه طبعا جعلني أفكّر مليّا في عدة امراض نفسيّة يعاني منها المثقّف العربي.. هي كثيرة دون شك.. من بينها داء النّرجسيّة وهي كلمة حديثة معرّبة تتضمّن عدّة معاني كالمبالغة في الاعتداد بالنّفس، وجنون العظمة، والتكبر، والاختيال؛ والخيلاء وهي صفات نجدها خاصّة عند الموهوبين من فنّانين وعلماء وأدباء وشعراء ورسّامين تشير عموماً إلى الشعور الذي يستحوذ على المرء ويجعله يعشق صورته أو جسده والنرجسية مفهوم بالغ الأهمية في نظرية التحليل النفسي للذات.
فقد أخذ فرويد أسطورة نارسيسوس (نرجس) من أعمال الشاعر أوفيد المقتبسة من الأساطير الإغريقية وتذكر الأسطورة أن شاباً جميلاً وقعت في غرامه العديد من الفتيات وتسبب في تعاستهن لانه لم يكترث بأي منهن.
وكانت Echoوهي أحدى الحوريات قد وقعت في حبّه أيضا لكنه رفض حبها بقسوة وكعقاب له لعنته الآلهة وسلّطت عليه مرض حبّ نفسه فقط..
تذكر الأسطورة أنّ الشّاب مال يوما فوق بركة ماء ليشرب فرأى انعكاس صورته على الماء ووقع في حب نفسه والافتتان بها ولم يستطيع أن يتوقف عن النظر إلى انعكاس صورته في محاولة للوصول اليها الى أن مات كمدا على ضفة البركة حيث نبتت زهرة أطلق عليها النرجس..
انطلاقا من هذه الأسطورة بنى فرويد فكرته عن حب النفس بصورة قاتمة وتنقسم فكرة فرويد عن النرجسية إلى شقين:
النرجسية الأولية، وهي جانب ضروري في نمو الأنا ويرتبط بالعناصر الغريزية في النفس ويتوقف على طبيعة العلاقات مع الآخرين.
والنرجسية الثانوية ومعناها التفسخ المرضي..
وداء النّرجسية أو الاعجاب بالنّفس هذا كما يبين الطّب النفسي يميل المصابون به إلى الغرور والتباهي والكبرياء ومحاولة لفت الأنظار بأي إنجاز يقومون به واستعراضه مهما كان تافها واذا ما أصيب فنّان أو كاتب أو شاعر بهذا المرض يستبدّ به الوهم بأنه البداية والنهاية في تاريخ اللأدب والفن ويصبح مشحونا بالاحساس بالمرجعية والامامة ورغم هذا الوهم بالعظمة الذي يسيطر عليه الا أنّنا نجد صاحبنا يعاني من اضطرابات نفسية وخوف مرضي سببه فوبيا السّقوط من برجه العالي ومكانته الكبيرة الوهمية طبعا فاذا بالغيرة تنهشه وتفسد منامه خاصّة من الأشخاص الّذين يراهم في قرارة نفسه أقدر منه وأكثر نجاحا فاذا به ينسى الكتابة والفن والجمال ويصبح كل اهتمامه منصبّا على محاولة الحطّ من شأن غيره والسّخرية منه فجنون العظمة يستبدّ حتّى أنه يرى أنّ الاعجاب المفرط بشخصه وابداعه حقّ من حقوقه وواجب مفروض على المحيطين به..
من حقّه هو أن يوجِّه انتقاده إلى الآخرين لكن الويل كل الويل لمن يتجاسر عليه وينتقده ولو بصفة محتشمة فصاحبنا يجافيه النّوم ولا يغمض له جفن قبل الانتقام ولا يخفت غليانه حتّى لو راى ذلك المنتقد الوقح ممزّقا اربا اربا أمامه.. كيف لا والمنتقد صدّع نرجسيّته وأشعره بالمهانة.. سوف يزيل كل أقنعته وتظهر على وجهه كلّ عجرفته المخبوءة..
سوف يشهر ضدّه كلّ سيوفه ويتحوّل الى وحش مستعدّ لفعل أيّ شيء لتدميره ونهشه فنزعة الشّراسة وفتل العضلات خاصّة على من يعرف انّه لا قدرة له على الرّد عليه بالمثل من الايذاء نجدها تسيطر عليه فيشمّر عن ذراعه للنّزال مستنجدا باصحاب النّفوذ ومسخّرا كلّ قدراته لتحطيم من يراه عدوّا وغريما..
أذكر حادثة عايشتها شخصيا صدمتني وغيّرت الكثير حول نظرتي للشّعراء ففي أحد المهرجانات توجّه أحدهم بالانتقاد لشاعر معتدّ بنفسه فاذا بهذا الأخير يثور ويهيج وفي حركة مفاجأة للجميع ينتزع الميكروفون ويصعد الى الرّكح ليردّ على منتقده.. كيف.. لقد عيّره في حضرة الجمهور الغفير بعقمه ثم ارتجل قصيدة هجائية شبّهه فيها بالبغل.
في الحقيقة ظاهرة الغرور والنرجسية لدى هؤلاء ليست ظاهرة حديثة او طارئة فبنظرة شاملة في تاريخ الشعر العربي مثلا نجد ان العديد من الشعراء القدامى تكبر في نظرهم نفوسهم وخير مثال على ذلك يمكن ذكره هو المتنبّي للشاعر الفذ أبي الطّيب المتنبي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس فقد فاق بنرجسيّته وشموخه كلّ من تقدّم وتأخّر ونادرا ما نجد قصيدة للمتنبي تخلو من تضخّم الأنا فالأنا لديه هو اللّحن المميّز لأغلب قصائده..
أليس هو القائل:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي مــن به صمم
الخيل والليل والبيــداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا
بأنني خير من تسـعى به قدم
أنشد المتنبّي أبياته هذه في حضرة سيف الدّولة الحمداني وجمع من كبار العلماء والنقاد والشعراء دون ان يهاب تبعات ذلك فتضخم الأنا لديه جعله يصدح باعلى صوته:
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا
بأنني خير من تسـعى به قدم
كانت نرجسيته طاغية حتى في حضرة الحكّام واولي الامر والنعمة فمابالك أمام غيره من صغار الشّعراء ومبتدئيهم ولو أن الكبير يصغر في عين المتنبي ..
يقولها دون تردّد:
ودع كل صوت غير صوتي فإنني
أنا الطائر المحكي والآخر الصدى
يقول المتنبي أيضا في صباه:
أمط عنك تشبيهي بما وكأنما فما أحد فوقي ولا أحد مثلي هذا البيت أربك شرّاح ديوانه ، حتى قال أبو العلاء المعري في شرحه للديوان " وقد أكثر الناس في هذا البيت، من حيث أن "ما" ليست من أدوات التشبيه.
وقال ابن جني: إن المتنبي كان يجيب إذا سئل عن هذا البيت بأن يقول:
تفسيره أنه كان كثيرا ما يشبه فيقال:
كأنه الأسد،
وكأنه البحر،
وغير ذلك من التشبيهات.
فقال هو معرضا عن هذا القول:
امط عنك تشبيهي "بما" و "كأن"، فجاء بحرف التشبيه وهو "كأن" وبلفظ "ما" التي كانت سؤالا فأجيب عنها بكأن التي للتشبيه وأدخل "ما" للتشبيه لان جوابها يتضمن التشبيه
ولنتأمّل هذه الأبيات أيضا للمتنبّي والّتي تعبّر خير تعبير عن حقيقة شخصيّته النّرجسية يقول:
أنا ترب النّدى ورب القوافي
وسمام العدى وغيظ الحسود
أنا في أمة - تداركها الله-
غريب كصالح في ثمود
ففي البيت الأول نلمس نرجسيّة مفرطة ثمّ يأتي البيت الثاني ليفضح ما في نفس الشّاعر من احساس بالغربة والاضطراب النفسي والشعور حاد بالاضطهاد.
في بعض مقولات المنهج النّفسي عند آدلر نجده ينطلق من فرضية أن الإنسان كائن ناقص، إما عضويا أو اجتماعيا، ولكي يتفادى عقدة النقص والدونية يلجأ إلى استحداث آليات تعويضية تضمن له التوازن النفسي وعلى أساس فرضية آدلر قام الكثير من النقاد بدراسة شخصية المتنبّي النّرجسي وقراءتها.
نرجسية المتنبي مدعاها لا ماله ولا حسبه ولا سلطته السياسية بل شعره وكي لا أبالغ في التّجني على شاعرنا المتنبّي لا بدّ من التّذكير دائما انّ ظاهرة النّرجسية لدى الشعراء طاغية على نفوس أغلبية من الشعراء القدامى منهم والمحدثين فأبو العلاء المعرّي رهين المحبسين رغم فقدانه لبصره ورغم مرضه وقبح شكله الّا ان كل ذلك لم يمنعه من أن يكون معتدّا بنفسه
يقول أبو العلاء المعري:
وإني وإن كنـت الأخيرَ زمـانُه
لآتٍ بما لمْ تستطعه الأوائل
ولي منطق لم يرض لي كنه منزلي
على أنني بين الســماكين نازل
لدى موطن يشـتاقه كل سـيد
ويقصر عن إدراكه المتنـاول
ينافس يومي فيّ أمسي تشـرفا
وتحسد أسحاري عليَّ الأصائل
الشعراء المحدثون أيضا كثيرون ساروا على نهج القدماء من الشعراء وتوارثوا عن بعضهم البعض صفة النّرجسية لكن درجات متفاوتة..
ربّما هي أقل صخبا لدى المحدثين من الشّعراء ونلمسها في سلوكهم اليومي غالبا ونادرا ما نلمسها في شعرهم..
ربّما يعود هذا الى تغيّر اغراض الشّعر بين لقديم والحديث فلا يجب أن ننسى أن غرض الفخر كان يعتبر من أهم الأغراض الشعرية قديما..
لم تنقرض اغراض الشعر القديم دون شك لكن تغيّرت ملامحها ولم ينته شعر الفخر بما فيه تمجيد الأنا لدى المحدثين لكن خفّ صخبه وأصبح أكثر احتشاما ولو أنّنا من حين لاخر يصلنا صداه عاليا كما هو الشّأن لدى الجواهري فهو القائل بكلّ خيلاء ونرجسية:
وتقول كيف يظل ‘نجـم“ساطع
ملء العيون عن المحافل غائبا
كذبوا فملء فـــم الزمـان قصـائدي
أبداً تجوب مشـارقاً ومغـاربا
تستل من أظفارهم وتحط مــن
أقـــدارهم وتثُّل مجــدا كاذبا
أنا حتفهم ألج البيـوت عليهـم
أغري الوليد بشتمهم والحاجبا
مع عمر ابي ريشة نلمس شموخا ونرجسية أيضا ...يقول في قصيدة ‘هذه أمتي“بعد خروجه من السجن معتدّا بنفسه:
شاعر لو شـكا الحيـاة لكانت
سروات الملوك من ندمانه
أقسم المجد أن يمر على الأرض
ونجوى الإباء خلف لسانه
عاد للروح عندليبك يا شعر
ومات النعيب في غربانه
وفي قصيدة ‘عرس المجد ‘يقول أبو ريشة:
يا عروس المجد حسبي عزة
أن أرى المجد انثنى يعتز بي
رب لحنٍ سال عن قيثــــارتي
هز أعطاف الجهــاد الأشيب
الاعتزاز بالنفس هو غريزة فينا نحتاجها ونرغب فيها بشدة ولا أقسى على الانسان من معانته من الاحساس بالنقص والدونية ومن حق ّ كل انسان أن يعتزّ بنفسه خاصّة اذا كان اهلا لذلك
لكن حين يتحول هذا الاعتزاز الى حالة مرضية تجبر صاحبها على التّبجح بذاته بمناسبة ودونها الى درجة تجعله يسيء الى غيره من النّاس ويتعالى عليهم بطريقة فجّة جارحة او يصل به الامر الى تعمد الايذاء لارضاء غروره وقتها يمكن القول أن صاحبنا يعاني من العمى في البصيرة ومرض جنون العظمة وهذا المرض يزداد خطورة وتعقيدا حين يصاب به المثقف تحديدا سواء كان أديبا أو شاعرا;
فما قيمة الكلمة او الفكرة التي يمتلك مهاراتها اذا لم تساهم في توعية الآخر ومساعدته على تشرّب القيم الانسانية والجمالية من حب وخير وتعاون..
ما قيمة الكلمة اذا كانت ستجعل منه كائنا مكروها ينفر الجميع منه ومن كلماته بسبب عجرفته ونرجسيته..
ابحث عن نفسك أيّها النّرجسي واعرفها.. سوف تجدها حتما في ما هو مذكور داخل هذا النّص واعلم أن نرجسيتك لا تؤذي غيرك وتجرحهم بتسفيهك واحتقارك لما يكتبون أو ينشرون بل هي تؤذيك انت بدرجة أولى لأنك مع الوقت ستتحول الى كائن معزول ومنبوذ يعاني من الخواء العاطفي والغربة عن الاخرين وعن نفسه.