رعد زامل/ بغداد
هل كانت مصادفة أم انه قدر أن تولد ظامئا في مدينة تنتشر فيها الأنهار انتشار الشرايين في القلب.
حدث ذلك في صبيحة يوم 22 / 4 / 1969 على ضفاف نهر الكحلاء وبعد أربعين يوما ارتبكت أمي بسبب الظهور المبكر للأسنان في فمي فذهبت إلى جارتنا التي تدرس الطب فأخبرتها هذه الأخيرة أن الظهور المبكر للأسنان ما هو الا ملمح من ملامح الذكاء.
وتدور الأيام لأذهب لاهثا وراء كرتي في مباراة خاسرة عند الساحة الواقعة على أطراف محلة الماجدية في مركز مدينة العمارة وبدلا من العثور على الكرة عثرت على ذراع لجندي مجهول وقد بتر الذراع من المرفق وجف عليها الدم.
حيث كانت هذه الساحة بمثابة مكان لنفايات وأنقاض عسكرية إبان الحرب العراقية الإيرانية.
لقد أيقظ ذراع الجندي في راسي جمرة من الأسئلة التي لا جواب لها. أضربت عن الطعام لثلاثة أيام بعدما واريت الذراع الثرى.
من حينها والكلمات تلسع شفتي والدنيا في راسي تدور.
هكذا بدأت رحلتي مع البؤس ورحت امتهن الاحلام والكتابة لكي اهرب من ذلك الشبح الذي لا زال في كل زقاق يصيح ورائي: ان مصير الانسان هنا لا يختلف عن مصير ذلك الجندي الذي لم يبق منه غير ذراع في مزبلة.
كنت أتوارى في البساتين النائية كنبي ينتظر الوحي، تعلق قلبي بأكثر من فراشة وهمت بأكثر من زهرة.
قرأت العشق في عيون القرويات.
ذات لقاء قالت امرأة لأدونيس انك لا تحتاج إلى امرأة تمارس معها الحب هذا لأنك تمارس الحب مع اللغة. هكذا تماما دفعني خجلي المفرط الى ممارسة الصمت على رمال الشواطئ المحاذية لبيتنا.
عارفا بأسرار القصب أرى أثار أسلافي وراء قطيع الجواميس وهي تشق صفحة البردي لتدون عليها قصة الإنسان المأخوذ كدحا على حافات المياه.
في عام 2009 صدرت مجموعتي (انقدوا أسماكنا من الغرق) عن دار الشؤون الثقافية / بغداد.
معلنا فيها عن احتراق أكواخ أهلي على ضفاف الأنهار.
سمعت أنين الأسماك وهي تستغيث مثلي من العطش.
لا اكترث كثيرا للكاميرات لكنني اعشق صورتي في عيون الفقراء وأمواج العزلة.
ويوم امتد التصحر والظلام وطال روح الإنسان انطلقت من (الروسم) مجموعتي الثانية (خسوف الضمير) 2014.
في مدينة ذات مياه وعطش ولدت على قصب توجني نايا لأنينه في يوم الشجن حيث تركني أسلافي السومريون كلوح يجف تحت شمس النسيان.
شكرا للمدينة التي أرضعتني وتركت على سحنتي لون طينها الممزوج بمسحة الحزن.
شكرا لحسب الشيخ جعفر الذي أوصلني إلى مايكوفسكي ويسينين.
شكرا لخليل خوري الذي أوصلني إلى بودلير.
شكرا للسياب الذي لا زالت "اجراس برجه" تقرع في روحي وشكرا لذلك الجندي المجهول الذي وافته المنية في قاطع (الطيب) حين شظية ليترك ذراعه المبتور في العراء من اجل أن يوقظ في راسي أسئلة كثيرة ليس أولها ولا آخرها: إلام سيبقى لحمنا معروضا في مزاد الحروب ودماؤنا على الأرصفة تسيل؟.