د. غيـلان / سيدني
لعل أخطر نفق مرت به التجربة العراقية بعد التغيير هو نفق النظرية الأميركية لمعالجة الوضع العراقي والمسماة "نظرية الفوضى الخلاقة "والتي صنعتها بيوت الدراية الأميركية قبل اسقاط النظام الدكتاتوري ودخول قوات التحالف بقيادة مركزية للولايات المتحدة، حينذاك كان الصقور هم قادة غرف الدراية وكانوا لا يتوانون عن اعلان استراتيجيتهم القائلة "بأن مهمة جيوشهم لا تقتصر على الحاق الهزيمة بجيش العدو بل تتعداه إلى تغيير وجهة مجتمع العدو الثقافية". وخلاصة هذا المفهوم ليس التغيير باتجاه الأحسن فحساسية الاستراتيجيين الأمريكان تستثيرها في التعامل مع الشعوب الأخرى قضيتان (التاريخ والثقافة) لذلك فأول فعل جسدوا به فوضاهم الخلاقة هو نهب التاريخ الآثار والمكتبة) والثاني دفع المثقفين إلى الهامش (وليس المقصود بالمثقفين هنا هم جوقات المداحين وكتاب "العوازة" بل مثقف الاختصاص والمثقف العضوي كما يصفه غرامشي) فكان مجلس الحكم بأطرافه المهلهلة من جهة وتشكيلته الطائفية و همهومه العقارية من جهة أخرى. صار هذا المجلس يمثل الوجهة السياسية الجديدة في البلاد والتي ستكون مهمتها تنفيذ أعلى درجات الفوضى وهذا التنفيذ سيكون رأسمالها في الاستمرار في العملية السياسية ومصدر قوتها في الاستيلاء على المال العام.
كل الذي سلف خلق هذا التراكم الرهيب والذي يمتد من سيطرة الأميين على مجريات التفاصيل اليومية في الحياة العراقية إلى تنفيذ أجندات خارجية تنظر بشراهة إلى الثروات العراقية ولا تأبه ان كان ثمن الوصول اليها المزيد من الدم العراقي حيث تحولت البلاد من بلاد الرافدين إلى بلاد السائلين "الدم والنفط" والسؤال الآن .. كيف يمكننا كنس هذا التراكم الرهيب وبأي قوة نستعين ؟؟.
من مميزات القوة كما يقولون.. قدرتها على إظهار الضعف ومن مستلزمات القوة أن تكون مرفوقة بلغة واضحة يجمعها خطاب الوضوح فلا حضارة من غير وضوح، والسؤال هنا هل يمتلك الدكتور حيدر العبادي وحكومته والقوى التي تسنده القوة المقصودة وهل هناك توجه لديه لكتابة خطاب الوضوح؟
كل المؤشرات تؤكد بأن حزمة الاصطلاحات لم تأخذ طريقها إلى التنفيذ وأن سبل مكافحة الفساد بطيئة ودور الادعاء العام شبه معطل ودوره يحتاج إلى تعديل يمكنه من توجيه الأتهام، كذلك لم يلجأ العبادي إلى الاختصاصيين لكتابة برنامج حكومي جديد يعالج الأزمة المالية الراهنة ويستند إلى خطاب واضح وصريح، ولا ندري فالدعم الذي حظي به العبادي لم يحظ به أحد من قبل ورغم ذلك لا تصدر من الرجل أفعالاً توحي بأن قادر على استثمار حاجة الشعب للتغيير وليس الترقيع فالتغيير الوزاري الأخير يقع في خانة الترقيع والتسويف.
كان على العبادي اللجوء إلى طلب حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة، لكن العبادي تتحكم به أجندتان، الأمريكية وأجندة حزب الدعوة والتحالف الشيعي وقواسمه المشتركة الواضحة للعيان، الادارة الأمريكية ماضية في سياستها وسيطرتها على مخلوقاتها أي أطراف العملية السياسية وستقوم بنقل الملف العراقي إلى ادارة الجمهوريين في حال فوزهم في الانتخابات المقبلة وبهذا سينتظر العراقيون تغييراً كبيراً على يد الصقور الذين أرسوا هذه العملية السياسية المشوهة، وأطراف التحاف الشيعي تراهن على هذا التردد الذي يمنع حركة التظاهر من الأتساع وصولاً إلى شرعية دستورية مصدرها الشعب تطيح بالعملية السياسية وتتوجه نحو حكومة انتقالية، وكلنا ننتظر .