د. غيـلان / سيدني
الصراع الخفي بين العراقيين والدين والقومية العربية ليس بالجديد فهو إسلامياً يمتد إلى الفترات الأولى من الفتح الإسلامي للعراق، والغلبة دائماً للدين والقومية التي تقوده في ذلك الصراع الخفي والذي فيه الكثير من مساحات التورية التي تُجيز التفسيرات، ومن بينها المعارضة للدين بصبغة من نفس الدين فقد لجأ الحجاج إلى تعيين سعيد بن جبير قاضياً ثم قتله، وحاول أبو جعفر المنصور إجبار أبي حنيفة النعمان على تولي القضاء وحين فشل قتله سجيناً وكل هذا يأتي في سياق الخطاب القومي العربي المخلوط كيميائياً بالإسلام وهكذا في عصرنا الحديث فحين عجز الدكتاتور صدام حسين عن ثني محمد باقر الصدر (صاحب المؤلفات..
فلسفتنا، اقتصادنا، المدرسة الدينية والأستقراء) من عدم الولاء لولي الأمر قتله وقد سبقه إلى ذلك جمال عبد الناصر حين قام بقتل سيد قطب صاحب التصوير الجمالي في القرآن والعدالة الاجتماعية في الإسلام.
لم يتوافق العراقيون والسلطات الدينية القومية أو القومية بمرجعيتها الدينية و التي تعاقبت عليهم منذ دخول المسلمين فاتحين لبلادهم، وقد قال عمر بن الخطاب قولته في ذلك "والله لو حكمت هذا المصر (العراق) لحكمت الأمصار كلها" وجاء الحجاج فأراد أن ينبش وجدان العراقيين بالسيف كي يقرأ نسبة الطاعة عندهم، لقد خلا تاريخ العراق الإسلامي من التوافق رغم وجود استثناءات نسبية في المراوحة بين الهدوء وصخب المعارضة كفترة حكم المأمون التي إتسمت بالأنفتاح وازدهار العلوم وتورية الخلاف مع المعارضة العلوية بتولية علي بن موسى الرضا ولياً للعهد وكل هذا لم يمنع من وجود ثورة فكرية أخذت من قضية "خلق القرآن" مرتكزاً لها ومات المأمون ونيران هذه القضية تستعر في أعماق الحاكمين بعده.
وفي عصرنا الحديث حيث دشن الوطنيون من العساكر الزمن الجمهوري ونجح عبدالكريم قاسم بقيادة الجمهورية الفتية بالتفاف العراقيين أو الغالبية العراقية حول قيادته وبدأ العراقيون يتلمسون هويتهم الوطنية بعيداً عن التأثير الديني والقومي، فتحالف جراء ذلك القوميون والمرجعية الدينية وبمعونة أمريكية على إسقاط أول حكومة تنفس فيها المراقبون وكتاب التاريخ ملامح هوية عراقية قيد الظهور، وهذا مالم تسمح به القوى القومية والدينية، فكانت فتاوى التكفير وتهم الشعوبية تنصب على عبدالكريم قاسم ومن والاه، وانتهت بأسقاط حكمه بطريقة دموية غير أخلاقية.
وبعد فترة من الدم والعسف والقسوة شهد العراق فترة استراحة أو هدنة وهي الفترة التي إنتقل فيها الحكم إلى عبدالرحمن عارف شقيق الرئيس الذي "طار لحماً ونزل فحماً" عبدالسلام عارف، ولم تمتد فترة الهدوء طويلاً حتى عاد البعثيون إلى الحكم بقيادة أعادت تاريخ ويوميات الحجاج بن يوسف الثقفي إلى الذاكرة العراقية وتمثلت هذه الاستعادة بالأبن غير الشرعي للحجاج وأقصد صدام حسين.
وفي 2003 وبقرار أمريكي وتحالف دولي تقرر إسقاط صدام حسين واعلان نهاية مشروعه القومي والغريب هنا أن مرحلة ما بعد سقوط أغرب دكتاتورية لم يُكتب لها برنامج وطني بل سار العراق إلى حيث قرر الأستراتيجيون الأمريكيون والذين أشارت عليهم مصالحهم بزرع الطائفية واعطاء الحكم لرجال الأحزاب الشيعية في نظام سمي ديمقراطياً وفي حقيقته لا يختلف في التفاصيل عن أنظمة الحكم السابقة بل تفوق الحاكمون فيه على بني أمية وبني العباس وجماعة الملكية والجمهورية وحتى على غلاظة العصملية، تفوقوا في الفساد وجعل الأمن هاجساً لحظوياً في استمراره وعلى خطى القوميين لكن الأشارة تختلف رهنوا البلاد بتوجهات الحاكمين لبلاد فارس والتفاصيل هي ذاتها والدين نفسه لكن القومية تختلف!!