بمناسبة إدراج الأهوار العراقية على لائحة التراث العالمي لليونسكو
بيتنا الثقافي يحتفي بالشاعر الكبير مظفر النوّاب "فتى الأهوار الثائر"
علاء الماجد/ بغداد
أقام منتدى "بيتنا الثقافي" في بغداد، الأسبوع الماضي جلسة احتفاء بمنجز الشاعر والمناضل مظفر النواب، تحت شعار "مظفر النواب فتى الأهوار الثائر"، بمناسبة إدراج الأهوار العراقية على لائحة التراث العالمي لليونسكو، تحدث فيها عدد من الشعراء والصحفيين. وحضرها عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي الأستاذ بسام محيي، وعضو اللجنة المركزية للحزب الدكتور أيوب عبد الوهاب، وعائلة الشاعر النواب متمثلة باخيه الأستاذ حسام النواب وولديه، وجمع من المثقفين والأدباء والإعلاميين. وبدعوة من مدير الجلسة الباحث الموسيقي ستار الناصر نهض الحاضرون وقوفاً في ذكرى شهداء العراق والحركة الوطنية، الجلسة التي أدارها الناصر تحدث فيها عن تاريخ الشاعر الكبير مظفر النواب على الصعيدين الشعري والإنساني: مظفر عبد المجيد النواب شاعر عراقي معاصر ومعارض سياسي بارز وناقد، تعرّض للملاحقة وسجن في العراق، عاش بعدها في عدة عواصم منها بيروت ودمشق ومدن أوربية اخرى. ينتمي إلى أسرة ثرية مهتمة بالفن والأدب، وفي بغداد ولد عام 1934، اكمل دراسته الجامعية في كلية الآداب ببغداد. وبعد انهيار النظام الملكي في العراق عام 1958 تم تعيينه مفتشاً فنياً بوزارة التربية. في عام 1963 اضطر لمغادرة العراق، بعد ان تعرض إلى الملاحقة والمراقبة الشديدة من قبل النظام الحاكم، فكان هروبه إلى الأهواز عن طريق البصرة، إلا ان المخابرات الإيرانية في تلك الأيام (السافاك) ألقت القبض عليه وهو في طريقه إلى روسيا وسلمته إلى الأمن السياسي العراقي، فحكمت عليه المحكمة العسكرية هناك بالإعدام، إلا ان المساعي الحميدة التي بذلها أهله وأقاربه أدت إلى تخفيف الحكم القضائي إلى السجن المؤبد. وفي سجنه الصحراوي (نقرة السلمان) القريب من الحدود السعودية-العراقية، أمضى وراء القضبان مدة من الزمن ثم نقل إلى سجن (الحلة) الواقع جنوب بغداد.
في هذا السجن قام مظفر النواب ومجموعة من السجناء بحفر نفق من الزنزانة يؤدي إلى خارج أسوار السجن، وبعد هروبه المثير من السجن توارى عن الأنظار في بغداد، وظل مختفياً فيها ثم توجه إلى الجنوب (الأهوار)، وعاش مع الفلاحين والبسطاء حوالي سنة. وفي عام 1969 صدر عفو عن المعارضين فرجع إلى سلك التعليم مرة ثانية. غادر بغداد إلى بيروت في البداية، ومن ثم إلى دمشق، وراح ينتقل بين العواصم العربية والأوروبية، واستقر به المقام أخيراً في دمشق. وقد عاد النواب إلى العراق عام 2011م. وأضاف الناصر "أن سيرة النواب كبيرة لاتقف عند مدى معين أو حدّ فيكفي أنه الشاعر الانسان، الشاعر الثائر، صاحب القلب الصافي والصادق الذي وصل إلى العالمية لما يمكلة من قدرات وقوة أثبتها من خلال القصيدة."
الشاعر الفريد سمعان
ثم اعتلى المنصة الشاعر الفريد سمعان للحديث عن مظفر النواب مشيرا إلى انه التقاه أول مرة عام 1959 في الاتحاد العام للأدباء والكتاب، ثم بقي متواصلا معه، حتى انه كان دائما ما يقله بسيارته من مقر الاتحاد إلى محل سكناه في الكاظمية لكي يحميه من أزلام النظام البعثي الدكتاتوري.
وبيّن سمعان "ان النواب كان حريصا على أن يكون مبدعا، وانه رفض كل الإغراءات ولم يتنازل عن مبادئه، وعمل بجدية في سبيل شعبه ووطنه، وعانى الكثير من الاضطهاد، ولم يتراجع عن رسالته الوطنية".
ولفت إلى "ان النواب الذي ضحى في سبيل وطنه، لم تنصفه حكومات ما بعد التغيير 2003، فهي لم تستجب لطلبه في استلام راتبه التقاعدي، ما لم يأتِ شخص يشهد على اعتقاله، ولا أدري هل يحتاج النواب إلى شاهد!؟".
وعن ما اضافه للشعر قال سمعان:
قدم النواب للقصيدة الشعبية والفصحى خلاصة مخيلته، مرافقا الحركة السياسية بإخلاص؛ إذ خيره الدكتاتور صدام عما يريد، فلم يطلب شيئا.
الشاعر عريان السيد خلف
بعد ذلك تحدث الشاعر عريان السيد خلف عن لقائه النواب في السجن، وكيف توطدت علاقته معه. ثم قرأ مقدمة أحد دواوينه الصادر عام 1996، التي كان قد كتبها الشاعر النواب، وعنوانها "ولأنه الليل".
وجاء فيها: انهم يعبرون.. حوط قميصه عليهم.. يدفنهم بنبض قلبه الشهم، الشجاع.. الطمأنينة على حافة الخطر.. وشيء ما لا يضىء ليل العبور.. الليل منحة.. ((وكم لظلام الليل عندك من يد)).
وفي هذه الليل الخارج عن الزمن لا يرى الطريق الا على وهج الروح.. وتشعر أنك معهم.. الشاعر من يدمجنا بعالمه.. من يجعلنا نعبر معهم.. وهو يتكتم على الموضوع.. موضوع العبور، كأن البوح به في القصيدة كشف.. وشاية.. أو يسيىء الى الجو المظلم الذي يرسمه الشاعر لبداية القصيدة. هل هم يعبرون نهرا؟
مفازة، حقولا من القمح والروح، أو انهم يعبرون كل ذلك في ان، التكشيف الذي يقدر عليه الشعر فقط. و"عبد" يحتضنهم. يسير بهم في هذا الخفاء بجانب قلبه، ولكنك تلمحه فجأة الى الامام يمهد الطريق. يفرش جفنيه وقبل أن تطرف عينه تجده يخب وراءهم، يحرسهم والارض، فهو اكثر من "مكر، مفر، مقبل، مدبر معا" تلك الحالة التي يتزامن فيها الزمن مع نفسه، وهكذا من بداية الاغنية المقدامة تأخذك أصداء المتنبي وامرؤ القيس في عامية تستاف الاصداء العميقة لتلك اللغة الام.
ولان الليل، وتكثر العشرات، وأه ممن لايعرفون الا أن يعثروا ولان الشاعر عاش التجربة المرة ورأى كيف تعشر الافكار، والارجل والممارسات حتى في وضح النهار، فرش جفنيه امام قويفلته الصغيرة ولا يلبث ان يسبق حركته نفسها.. يسبق جسده طافحا على الريح، مستعيدا زمن الفروسية، رغم احتضانها في واقعنا العربي، ولا يلبث الشاعر – وكان امامه ان يستمر في رسم عالمه الليلي وايقاعات العبور ومخاطر كل لحظة.. وان تظل أضواء الروح والشهامة والشجاعة.. اضواء المهمة نفسها – اقول لا يلبث ان ينتقل الى اضاءات انية مستعجلة.
وفي تكثيف سريع ينتقل "عبد" الذي هو عريان ذاته، من محاورة الارض الى محاورة الذات ليضيف تطورا اخر في بناء القصيدة عبر تثنية الذات، فبدون هذه التثنية لا ينشب الحوار، عبر تثنية الحوار يلقي الشاعر بالازمة التي تعمل فيه.. الازمة التي يتجاوز الشعر والشعر فقط، فيها قوانين الالتزام الصارمة، القوانين التي جفت منذ زمن بعيد وكادت تجفف عروق الناس.
الشاعر هنا يتجاوز الممنوع.. الممنوع الذي وافق يوما ما هو على انه ممنوع، ولكن مهمة الابداع الاساسية تحطم قوانين الامس.. البوح.. البوح، ولتقم بعد ذلك القيامة. وهكذا "الجنح من ينخلع هم يكدر ايطير" تساؤل بمقدار بساطة عمقه.. مألوفه الشعبي اليومي يمنحه اضاءة ما هو سياسي. ولكن هل ينخلع الجنح فقط؟! يجيب عريان ببساطة ايضا "سمع حس الكنابر والعصافير" كأن هذا الشدو هو الجواب.
الطيور التي خلعت اجنحتها لا تزال تغرد؟
وما يغرد يمكنه ان يطير وان "يغسل وجه الصبح" اول الطيران الغناء، ويضيف عريان ان "يرضي النواطير" الغناء جزء من لحم القصيدة.. من اعصابه.. من دمه، لايمكنه الا ان يغني رضي النواطير أم غضبوا.
بلا شك ان ارضنا حفلت بنواطير شجعان كثيرون منحوا حياتهم لحراسة الارض والتاريخ والناس ولكن هناك نواطير جلسوا في احضان اللصوص اللصوص الذين سرقوا كذلك الارض والتاريخ والناس. فالناطور وبهذه الصيغة من التعميم التي تشي بأن الشاعر يشفق على الناس وعلى نفسه من كشف تلك الازدواجية.. التناقض المرير اضاءة الجانب الاخر المعتم.
قد يتبادر انني اخوض في السياسة.. ربما، فالاخلاص، انما ما اردته تماما هو في البناء الفني.. فحينما يغني الشاعر بهذه الجمالية الاخاذة "غسل وجه الصبح" هذه الصورة المشرقة.. المشرقة جدا ولا يداعب بفرشاته اللون الاسود، يكون قد استبعد الدرامية.
لقد ثنى ذاته ممهدا لجو درامي مسرحي هو حين اشفق ان يستحضر النقيض، النقيض الذي يبدو كالقدسي الذي لا يمكن التعاطي معه، او ربما لان الشاعر اراد الا يكشف مأساة التناقض الذي كان مضطرا ان ينخرط فيها ويسكت، او يستمد عالمه وقوته من ذاته، من ثبات موقفه.. من "المدد" الذي في القلب.. مقابل القصور الذي في الواقع.
"ويصير المدد بكلوبها اتطير" عناد الشاعر.. عناد الشاعر تلك القوة الرهيبة، الشاعر يعاند الواقع، يعاند المألوف الشائع.. يعاند السقوط"واعاند للصبح وجه التفاطين".
واجدني اشتد، ويزداد عودي صلابة مع عناده، ولكني لست اجتهاد الاخماد.. او التغاضي عن الجانب الاخر من الصورة او النسيان، انا ضد ان ننسى وانما ان نظل ونتجاوز. ولعريان عشق بمذاق خاص "واوادد للعمر كل ذرة تراب".
اننا نحيك اكثر من "اشكد"هذه ياعبد.. يا عريان السيد خلف ابن ارضنا العراقية العظيمة، ونسمعك من منافينا تؤنس وحشتنا التي لا تنتهي الا اذا عدنا الى تلك الارض بشرا احياء، او شواهد قبور ونرف ان عراقنا يزخر بالنواطير الحقيقين وله حسابه مع النواطير الذين جلسوا في حضن اللصوص.
الصحفي يوسف المحمداوي
أعقبه الصحفي يوسف المحمداوي بقراءة شهادة عنوانها "كريري وجويسم وفالح انموذجا.. غناء الأهوار وأثره في شعر النواب"، افتتحها بواحدة من أشهر قصائد النواب "إشكد نده نكط ع الضلع.. وإنسيت أكلك يمته"، متابعا قوله: من يسمع تلك الكلمات دون معرفتها مسبقا، سيحيل مرجعيتها بالتأكيد الى جنوب العراق، ويجزم وبما لايقبل الشك بأن كاتبها هو شاعر مولود من رحم تلك الارض وعاش طفولته فيها، وأتقن لهجتها. ولا يجيد تلك الحبكة الشعرية، الا شاعر من ابناء الهور، لكنها وكما يعلم جميع من عشق قصائد مظفر النواب، بأنها مقاطع من قصيدته “ياريحان“ .النواب كما هو معروف ابن الكاظمية، ولد ودرس وشبّ فيها، يرتدي زي ولهجة وطقوس العاصمة، بحذافيرها، بل تعد لهجتها متميزة بنطقها بين مناطق بغداد.
هنا تقف علامات استفهام كبيرة على طاولة الاستفسار مفادها، كيف استطاع النواب ان يجلس على عرش مملكة الشعر الشعبي العراقي كسلطان له، من خلال عشرات القصائد الرائعة التي كتبها بتلك اللهجة الصعبة، التي يقول عنها ادونيس في حوار اجريته معه، انها من اصعب اللهجات العربية على الاطلاق. هنا يأتي الرد من السلطان في حوار أجرته مجلة "المدى" العراقية الصادرة في دمشق معه مطلع تموز 1995، قائلا: “في فترة 1956 كنا ضمن دورة ضباط احتياط، إذ ساقونا إلي السعدية في ديالى“ ضمت شخصيات لها دور في الحركة الأدبية والفنية في العراق، مثل صلاح خالص ويوسف العاني وقادة حزب البعث من أمثال علي صالح السعدي والخشالي.
دعينا من قبل أحد طلاب الدورة وهو طبيب بمناسبة العيد إلى محافظة العمارة، وكان معي صلاح الذي أعدم ويوسف العاني وإبراهيم كبة وأقام لنا والد الطالب سهرة على نهر الكحلاء حضرها أشهر مغنيي الهور.. كريري وجويسم وسيد فالح.
يؤكد النواب: “لأول مرة أسمع هذا الغناء، وهو غير الذي يبث من الإذاعة.كل شيء ساحر وآسر أدى إلى التصاقي بعامية العمارة كل شيء منتش بطبيعة الغناء.. “المحمداوي“من جويسم، و” كرير “شخصية آسرة له مجموعة من الدفوف يبدأ يغني “وينحط“حتى يصل صوته عمق الهور. ينقل لك الهور وأنت هنا.
صوته أشبه بصوت (بول روبسن) عميق جدا.. “جويسم“صوته رقيق جدا ناعم يطوح بالمحمداوي هو وسيد فالح. ومن أصواتهم وغنائهم أحسست بالغنى الموجود في عالم الهور وأبعاده والحزن الذي فيه والشجن والمعاناة والفرح، وتولدت عندي رغبة شديدة أن أشاهد هذا العالم.
بدأ عندي نوع من النفرة من شعر عامية المدن لانه ساخر.. ناقد ليس فيه صور. صادف في تلك الفترة تعرفي على عبد الرحمن شمسي، من تلك المنطقة، وكان يلقب بلبل الجامعة. وهو من قبيلة الشموس التي تقطن أهوار العمارة يملك صوتا جميلا هائلا يغني في حفلات الجامعة. طلبت منه أن نذهب إلى هناك سوية حيث أهله، فسحرني القصب والطيور واللهجة الجنوبية بتنوعها".
إكتشفت مفتاح السر والسحر الذي ألهم النواب.. الشاعر البغدادي، أن يطلّق لهجة قومه وبيئته ويتكلم بلهجة أهل الهور شعرا، لتصبح قصائده أغاني خالدة في أرشيف الفن العراقي والعربي. كيف تسنى له أن يحاكي لهجة الهور بمواويله ومشاحيفه وبرديه وجواميسه وصرائفه وطيوره من أين أتى بالبنفسج؟ وحن وآنه احن؟ وصويحب؟ وغيرها.
هذا ما يبينه النواب في حوار صحفي مع جريدة "الحياة" اللندنية، قائلا: “استمعت لكريري وجويسم وسيد فالح، فذهلت فعلا بغنائهم، وتكشف لي عالم مهمل“ لكنه مليء بالجمال يمكن أن يسد حاجة كبيرة في إمكانيات الخلق لدي جعلني انفر من عامية المدن، كما لو وجدت طينة معجونة جيداً ومخمرة جيداً لتصنع منها تمثالا.. عالم مختمر، بما فيه من الطين والماء والقصب وأصوات الجواميس، أمام عجينة حية تماماً تنتظر أحدا ممن لديه فهم للمعاصرة الشعرية الحديثة، لينتبه إليها وليشتغل على المادة الخام الهائلة التي لا تنضب منابعها، كما كتبت عن مناطق الهور من قصائد.. لكن إلى الآن أشعر أنني لم أعمل شيئاً نهائياً هذا العالم المختمر يكفي كمنبع لأعمال إبداعية هائلة.
وبيّن النواب انه من البديهي ان يحارب الديكتاتور الطبيعة في الاهوار ويقدم على تجفيفها لكون القبح دائما في حرب مع الجمال.
الشاعر والإعلامي كاظم غيلان
وألقى الشاعر والإعلامي كاظم غيلان كلمة عنوانها "مظفر النواب.. بشارة الماء وانشاد الثورة"، قال فيها:
"رد الماي للهوره
ورجع حمريهه يتلاعب لعب
والتفك خزامة ذهب بخشومهه
وكمره وصهلة خيل"
كأن مظفر النواب وبحدسه الدقيق ايقن من عودة الحياة الى الاهوار قبل التفاتة اليونسكو الخجولة المتأخرة. من أين اتى بهذا الحدس.. لربما ثمة من يسأل؟ خرج النواب من رحم تاريخ لاهب بالنضال، محاط بمياه وفلاحين وبنادق، ادار ظهره للبيوت الفارهة الشاهقة بطوابقها، ايمانا منه بحتمية انسلاخه الطبقي ليقتحم عالم الماء واسراره. وقدسيته.. الماء الذي لا تجده على سطح النهر ولا حتى في قعره لانه خلاصة الصفاء.
يا ماي العروس
اتوكح اسواليف
والكمره خذوهه ابعيد الغراريف
غرابة ومغايرة تجربة النواب في شعر العامية حملت خصائصها منذ خطاها الاولى لريادته حركة التجديد الشعري، حتى يحس متتبعها بانها لا تشبه الا الربيع بمجمل دلالاته. فقد ازاح ربيع النواب كل ما علق من أتربة وغبار طارئ ليكشف لنا السماء الاولى المشتعلة بنجوم الابدية، اذ اختلطت النقائض التوحدات وراح يبهر انسان الهور بمفاتيح لهجته الساحرة غير المستساغة من قبل.
أجزي امضايف الطيبين شيمة وهيل وافناجين
كل دله ابسماهه اهلال
تشرك بالمضيف اسنين
ونته هناك بالدخان
تعلك لهبة ارياحين
كمرية وزبونك طيف
طرز نومة الغافين
سيلن يا غتر واسكن فججنه اطيور وابساتين.
وراح يعانق (غيلان ازيرج) في انتفاضة الميمونة بذات اللحظة التي يهم فيها بدخول (مضايف هيل) صاحب الملا خصاف:
اصويحب ع العكل صندوك عرس اجبير
حزمة من الحصاد يلفهه طيب اجثير
وين اللي يكلي افلان وين ايصير
لوصله وادك اشراعه بشراعي
لم ترتد (عشاير سعود) ولم يغمض جفن لكهاوي العبره حين يطل عليها النواب صائحا ومحرضا:
لو ننسه عرج ثوار
كوموا انكوم نفنيها
نشاكيهه ابخناجرنه
انتلاعبلك لعب بيهه
انها (عشاير سعود) التي تصطف لجانب الكثيرات (ما مش مايل، ايام المزبن، حرز، ابن ديرتنه حمد، حجام البريس..الخ) من كنوز خارج المعاجم ولقواميس.فليس ثمة ما هو صارم ومشروط في اللهجات العامية، لكن خصائص العامية العراقية شعرا لم تتهذب وتأخذ شكلها الجمالي ومضمونها المشبع بالوعي الذي اجتاز حواجز التقليد والراكد، الا على يد مظفر النواب. وهذه علامته الفارقة دون شك كابن مدينة امسك بمفردات العامية قبل ان يمسك بجمالياتها ابن الاهوار نفسها ليجيد توظيفها.. لا حشرها:
لا تتجفل – فاله ومنجل
والماي ازر
او: إمروز الريحان اتهلهل
لذيالك حتى الذبلانه
حته المكسور بخاطرهه
وعطشانه اتگلك عطشانه
ولربما يصل الى ما يوحي بالموروث الكربلائي:
خنجر، وجفية غوه
وكل كذله ريحانة طف
ني مشيت لدخلتي
ويدفعني رمشك لو رف
لم تتعرض الاهوار الى سياسة القمع الفاشي بوصفها مسطحات مائية ومستنقعات قصبية، انما تعرضت لتلك الوحشية بوصفها ثقافة وانسان تماهى مع بيئته وتاريخها وطقوسها، واعلن انسجامه مع تمرداتها وغضبها وحزنها الثقيل:
دعن الربعات كلهن
والحمامات الحمر الن: عبر
وحمد المغضب عبر، مغضب عبر
طفر الغراف بالمهرة الحليبيه
اللي شوفتهه سفر
بلل اجروحه ومسح بهداي
كصة الثار بمية النهر
ومظفر بطبيعة ما ارادته له عبقريته لم تكن سارداً لما يحصل على سطح الحدث، بل رائياً كاشفا ذلك الما ورائي المسيطر، بوصفه مقاتلا من هذا العراق ونتاجه الانساني. ولذا مارس الادانة المباشرة مستعينا بمجمل اسلحته، ولعل الشعر في مقدمتها، مجابهة واحتجاجاً.. نابهاً منذراً محذراً:
لا وين صدك، شايل ابهليل ركّد روحك
خذني أذلّ الدوله
لو رادت تذل اجروحك
ولأن الهمجية مارست بكل ما لديها من طاقة البذيء في الفعل المعادي للانسان وجد المجابهة بكل ما فيها من نقاء سريرة ونبل سلاح كشف ادانة:
عمت عين الكاع ضمتهم زلم كانوا خميره
كول ادير العين عنهم
كلبي الملسوع شكله اشلون اديره
شلون والقايد صدك بينه نفس منه وبصيره
شلون هذا الشعب للعفنين يتسلم مصيره
رد على اهلك يا حمدنه
رد على اهلك وازرع الزينات واتفيّه بشجرهه
الواحد امن اهلك عدل طيبات
والثورة اظن كرّب شهرهه
كأني بمظفر النواب الآن واقفاً على ضفة الهور متأملاً شمس بلاده عند مغيبها وهو على بعد منها مناجياً احبته:
ولك ردوا، حنيني ايكعد الميت
وحشتي اتطلع ابليل الشته
شمس الربيع ايام
ما أنذل الشمس ان لم تستجب لما اردت يا مظفرنا النواب.. الشمس التي نهبت خيوطها اصابع (الحاكمين البغايا).. شاعر انت تشرق في اوراحنه دوماً، اما الحكومات ففي حكم الغياب والتلاشي والسقوط دوماً.
الشاعر رياض النعماني
وجاء دور كلمة الشاعر رياض النعماني التي قال فيها: لم تكن جملة (عيونك زرازير البراري) الشعرية بكل ما تنطوي عليه من قلق حار لم يتوقف تأججه.، واندلاعه، الا تعبيرا عن العالم الداخلي الملتهب والموار بعناصر توتره الدائمة التي تعصف بالشاعر مظفر النواب.
انه ومن شدة قلقه كان وكأنه كالكون الذي يتمدد باستمرار وتفصح عنه تطورات علوم الكون الحديثة التي تتحدث عن اننا في المستقبل وبعد تطور نظريات الفيزياء الكونية. يمكننا ان نكتشف ان الحركة.. يمكن ان لا تنحصر في اتجاه واحد.. بل في عدة اتجاهات في ذات الوقت (امام وراء وجوانب) فاتحة امامنا امكانية رؤية المستقبل ومعرفته.
هكذا هي حركة خطوط مظفر الداخلية التي غذتها قدرته على الرسم، والى جانب تكوبنه الشعري المرهف الخاص – الذي حول لب مظفر المتوثب الى ما بشبه طير (الزرزور).. قد يكون للظروف السياسية التي عاشها مظفر. وما يحمله من تراث عربي رسمي، (سياسة القتل والتنكيل والملاحقات) دور في نضج هذا القلق، والشك في جملة من المعطيات والتعبيرات الحياتية العاصفة، فلم تكن نظرته تثبت على شيء او برهة معينين.. انها تتحرك وتتقلب باستمرار، وتفحص، ونسأل، وتشك في نتائج كل شيء.
كان يقول في جلساتنا الخاصة (انا اخاف ان تكون الذائقة الشعرية لدى الناس في العراق قد تخلفت لان هناك نوعا من الشعر المتخلف تتكرس قيمه العشائرية يوما بعد يوم).. لكنه لم يتوقع او يرى توقعه وقد اندفع بعيدا وعميقا – دون يلتفت – الى قاع هاوية سحيقة تاركا خوف مظفر عند حدود الجاء والامل.
وها هو الشعر العامي العراقي باستثناءات قليلة يتخبط في رثاثة لم تولي أي اهتمام لاهمية الثقافة في ابداع الشعر الجديد، ثم يمنح الامل قنديلا كبيرا وجود اصوات شعرية شابة بدأت تنتبه الى ضرورة الثقافة الحاسمة في تكوين الشاعر وقصيدته، فانه ما نسمعه من صراخ مقززعلى المنابر ونسمعه من رهيم وركام كتابي يثير الحزن والرثاء.
استعادة بائسة لمفاهيم وجمل مدرسية مثل 1+1= 2، (اذا ما تجي الريح.. ما توكع النخلة) لم يكن هذا تعبيرا عفويا عن تردي ظروف البلاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بل شغلا مقصودا من قبل السلطات التي تعاقبت منذ تدخل صدام حسين الشخصي لتشويه تاريخية الشعر العامي العراقي والى هذه السلطة التي ترى من الشعر والشعراء عدوا مصيريا (يتبعهم الغاون) لان الشعر بالنسبة لهذه الانظمة يظل دائما يشعل نار الوعي والتطور ومحاولات تجاوز قيم التخلف والماضي الميت والاتجاه الاكيد نحو المستقبل.
لكن ما تقوله التجارب الانسانية وما تقوله حقائق الابداع غير ما تقوله السلطات وتروج له.
صحيح ان اتجاه حركة الشعر والتاريخ والاحداث ليست خطا مستقيما يذهب الى امام دائما بل يمكن ان يكون الى الخلف.. ولكن لهذه الخطوط السيرورة اشتعالاتها واضواءها الخاصة التي تظل في عناد شرس وصراع ملتهب مع عناصر ثبات الحياة وردتها وقوى تراجعها التي تقاتل كل متحول ومتطور في التاريخ. صحيح.. ان القصيدة العامية العراقية كالواقع العراقي تعيش – على المستوى الجمالي والفني – انتكاسا واندحارا كارثيا تكرسه وتشيعه فضائيات وصحف وسياسة اعلام سلطة دينية طائفية متخلفة.. فكتنت كما نشهد موجة وهوجه امية وفوضى شعرية هابطة تنكرت لكل المنجز الجمالي الاستثنائي الباذخ لمظفر النواب.. ومن مشى في دروب الحداثة الخلاق.
اذكر على سبيل المثال لا الحصر (طارق ياسين وعلي الشباني وكاظم الركابي وابو سرحان وحامد العبيدي وكريم محمد). لكن لنصر وننقب ونتشبث بقوة استثنائية نادرة بالمستقبل المنبعث من اضواء الاصوات الشابة لانها هي من سيجدد دماء القصيدة العامية العراقية.. ولانها هي كل ما تبقى من امل في نهوض هذه الفصيدة من جديد.
الشاعر طارق حسين
اما الشاعر طارق حسين فقد ألقى كلمة عنوانها "مظفر النواب فتى الأهوار.. أسطرة البطل في القصيدة النوابية.. حجام البريس انموذجا. وجاء فيها:
من الصعب بمكان لقارىء مثلي الامساك بكل مفاتيح خزائن مظفر النواب مرة واحدة، فهو شاعر استثنائي واستثنائيته تجعل من الباحث المتفحص يفكر قبل الاقدام على ادعائه بالوصول الى ذلك الفردوس. في قراءتي الاولى لقصيدة (حجام البريس) منتصف سبعينات القرن الماضي لم اخرج بشيء سوى الاندهاشة، تلك التي تشبه الى حد كبير اندهاشة طفل برؤية عصفور في الفضاء الواسع وقد غاب عن عينيه بلمحة بصر، ومرت الايام والسنون واذا بي اعود ثانية وثالثة لاكتشف انني امام عمل شعري اسطوري .. لايمكن مقارنته بالاعمال اليومية العابرة.
ولاشك بأن (موضوع الثورة والتحريض من الموضوعات البارزة والمهمة في الحقبة العراقية الحديثة، لان الشاعر العراقي عاش الثورات والانقلابات، وحرض عليها، وتمرد ونور الناس وتغنى ببطولات الابطال منهم فقد كان الجزء الاساس والمهم في تحريض الناس على الظلم والطغيان الذي سرى على الانسان والوطن على حد سواء، ومظفر النواب شاعر ثوري مديني فهو ابن بغداد ولقد كان الهور بالنسبة له محطة جهاد مؤقتة، ومن المفارق انه استطاع ان يستقل ويؤسس له قاموسا باللغة العامية لايجاريه قاموس.. على الرغم من مكوثه غير الطويل في الجنوب الذي شكل منه لغته تلك.. ولاشك بأن البعد الثوري رافق تجربة النواب الشعرية، ولاشك ايضا بأن سمة ولغة التحريض على التسلط والاذلال والقمع شاخصة في قصائده، فنموذج المناضل والبطل الثوري هو المثال ومنه يؤسس لقصيدته، منه ،ومن المواقف التي يتعرض لها المثال ومن المواقف التي يقوم بها، يخلق اسطورته الشعرية المستلة من واقع خبرة النواب نفسه ومن اولئك الابطال حجام البريس يقول:
(سالوفتنه عن فلاح مثل كل الفلح،اخته اسمهه (سعيدة)
من هور الغموكة
بعد سنه تعرس
والمفارز طوكت بالليل اخوهه
وجانو الحوشية والشرطة الف
والحرة ماخافت
عمرهه 17 سنبلة
صاحت، ياجبير الهور.. يا ابن الشلب
ياحجام، رد الهور يسمع
يا جبير الشلب، يا حجام)
فقصيدة حجام البريس من بين قصائد النواب/ الواقعة/ الحدث/ المشهدية/ التحريضية، فلا غرابة ان يستنفر النواب عددا من ادوات النداء مرة واحدة ( ياجبير الهور، يا ابن الشلب، يا حجام) طرقا على فكرة التحريض والاستنهاض والثورة وشد العزم، معتمدا الحكاية وروح القص، ومسندا فكرة التحريض والاستنهاض الى الأخت / سعيدة، ومشددا ثانية على النداء بوصفه واحدا من الأساليب التي تضمر في طياتها روح التحريض والترغيب معا.
(لاياخوي لايازين
لاتمشيش راك الراك
مايستوحش التفاك
يبن الحرة
لابد ماتفرخ الكاع
هذا اعراك
هذا اعراكنه الموصوف للعميان..
والميتين
يبن الحرة فك عينك ولاتغفل
غفل كبلك حزب ونباك
بطل قصيدة مظفر النواب اخذ اسطرته من الواقع، ومن مجريات النضال العتيد الذي لايستند الى اية فكرة فنطازية، ولم يحمل الشاعر شخصية حجام ما لاتتحمل، ولم يذهب بها الى غير بيئتها المائية، ولغتها، ومكابداتها، الامر الذي يؤشر حالة شدة قرب الشاعر من الشخصية، واستيعابه، واحاطته بظروفها المادية والنفسية على حد سواء.
ففي قصيدة / ملحمة (حجام البريس) على رأي الدكتور حسين سرمك.. يأتي العنوان كالعادة بسيطا مستلا من القصيدة و (حجام) هو اسم بطل القصيدة..
بطل انتقاه الشاعر، كعادته من صفوف الفلاحين المتعبين المضطهدين، يتصدى لقوى الطغيان والاقطاع، حاله حال ابطال اخرين جسد الشاعر نضالهم في قصائده مثل: صويحب، سعود، لعيبي، او غيلان وغيرهم.
وفي كل هذه النصوص يأتي اسم البطل المنتقى، شعبيا شائعا في ارياف العراق واهواره لتعزيز مصداقيته (الحكاية) وحرارتها "ولذلك فان المتلقي لا يحار في اسناد القول"
(اواكح جني ايد تفوج
اشوغ أويلشمس ليفوك
مكتوب ابلا ويهه
التحفر بيه مساحيهه)
الى مظفر النواب نفسه، لشدة تمثيله لموضوع القصيدة وبطلها ومعايشته وفربه الروحي والايديو لوجي منها كما يمكن اسناد القول مار الذكر الى حجام البريس (اواكح / ودلاله عود الضمير على المتكلم الذي يتحمل الاثنين، الشاعر وبطله المثال. وبذلك فان اسطرة البطل في قصيدة النواب لم يتناقض مع بعده الارضي وقاعه الاجتماعي كما في قوله:
(ابوس ايد اللي يسكي الناس
ويحمل تمر، وسلاح، ورصاص
بشرايعهه
بطرك ثوبه، وبايعهه)
فقد نجح النواب في استدعاء البعد اللغوي والبعد المكاني والبعد النفسي المناسب للبطل هذه الابعاد مجتمعه عملت على ترسيخ فكرة التحريض التي غالبا ما تكون الهدف الاساس من كتابة الفصيدة واسطرة البطل في وقت واحد.
الختام
وقبيل الختام ألقى كلمة عائلة النواب ابن اخيه ضرغام حسام النواب، الذي أشار فيها إلى السفر النضالي الخالد لـ "فتى الأهوار الثائر"، ثم قرأ قصيدته المعروفة "صويحب"، وتطرق إلى علاقته بالأهوار، وكيف انه استخدم مفردات أهالي الأهوار في أشعاره، بالرغم من انه ابن المدينة. وعلى هامش الجلسة أدى الفنان علي حافظة باقة من الأغنيات الأصيلة التي كتب كلماتها النواب.
وفي الختام قدم الأستاذ بسام محيي شهادة تقدير باسم الحزب الشيوعي العراقي إلى عائلة النواب، ولوح إبداع إلى إدارة منتدى "بيتنا الثقافي".