نامق عبد ذيب/ العراق
كُنّا صغيرين، لا، لم نكنْ صغيرينِ جداً، بل طالبان في الجامعة، ولكنَّ وصولَنا نحن الاثنين إلى الستين من عمرنا الآن، جعلني أحسُّ بأن ذلك العمرَ مجرّدُ برعمٍ في شجرة السنين، ظننتُ حينها بأنّي شاعر، بل كنتُ أكثرَ ثقة مني الآن في كوني شاعراً، كلّما أتقدّم في العمر أجد هذه الصفة تزداد صعوبة!
هو كان يكتبُ ما تسمّى بالقصيدة العمودية، أنا ما تسمّى بالحُرّة، هو دائماً أكثرُ تطاولاً من عمود كونكريت، على قِصَرهِ، يحتذي دائما حذاءين عاليين يظهران كأنهما دبّابتان صغيرتان في قدميه.
أنا أكاد لا أبين من نحافتي، أرتبكُ دائما وأبحث عن زهرة غافلة تنبتُ جوارَ مسطبة لا يجلس عليها أحد.
أظلُّ مريضاً لنهار كامل بسبب حبيبتي التي لم تصلْ إلى محاضرتِها في الوقت المناسب، هو لا تربكُهُ الحبيبات، يستحضرهنَّ بكل سهولة، ويطلق عليهن ما شاء من صفات.
لم يتعبْ في إيجادها، نؤوم الضحى مثلاً، كانت إحداهنَّ عندما تسمعُ هذه الكلمة تُكرْكِرُ متفاخرة بكسلِها وبشاعرها الفطحل، والله كانت تسميه الفطحل، ربما أخذتْها منه، هي سمينة وتشتري من الكُشك لفّات كثيرة.
أنا حبيبتي نحيفة مثلُ قصيدة حرّة لا زوائدَ فيها، هي كانت، أقصد حبيبتي، تضع أوراقَ قصائدي الصغيرة بين طيّات دفاترها، هو ليس باستطاعة حبيبته أن تحتفظ بقصائده بين طيّات دفاترها، كانت طويلة جداً، أطول من المعلّقات، كما يقول. هو مغرمٌ بلبس البدلات والأربطة التي يثبِّتها بمثبِّتات متنوعة على قميصه، لا أذكر ما كان يسميها، وعنده الكثير منها، لكلِّ مهرجان قاط ولكل قاط قميص ولكل قميص رباط ولكل رباط مثبّت، أنا لم أكن ألبس بطريقتهِ حين أتواجد في الجامعة، أو خارجها، في الشتاء أكتفي بالزي الموحد: السترة النيلية والقميص الأبيض والبنطلون الرصاصي، وفي الصيف قميص أبيض وبنطلون رصاصي، حتى أنني لم أكن أزرّر كُمّي القميص برُدنيه الطويلتين، أتركهما مفتوحين مثل جناحي طائر تائه، كنت أكره المثبّتات، وحين ألبس رباطاً أتركه مفتوحاً قربَ رقبتي، وأية ريح خفيفة تلقيه على كتفي!
دائما عندما كنا نشترك في المسابقات الشعرية هو يحوز على التصفيق والضجيج، ولكني في نهاية المسابقة أفوز بالجائزة الأولى، وهذا ما يغيظه هو وحبيبته السمينة، فيذهبان إلى المطعم خارج بناية الجامعة بعد كل مسابقة يخسر فيها الجائزة الأولى، كل واحدٍ منهما يأكل دجاجة كاملة، بينما أنا وحبيبتي نذهب إلى النادي الطلابي ونأكل ما اعتدنا عليه كلَّ يوم!
حين نكون لوحدنا أنا وهو، نتحدّث عن الشعر، يقول لي بأنه لا يكتب قصيدة إلا بعد مشاهدة فلم هندي، الأفلام الهندية رهيبة يا صديقي، يقول لي، البطل فيها ينتصر في النهاية، الأغاني، شامي كابور، بَسْواجيتْ، سَنْكام، هذا الفلم يجعل دموعك تنهمر وكأنك تقطعُ بصلاً!
بعد 36 عاماً أو أكثر، قبل أيام، وهو وأنا في الستين من عمرنا، ظهر صديقي الشاعر العمودي، في إحدى الفضائيات، بصفته الجديدة، محلّلاً استراتيجياً يتحدّث عن (الوضع) بطريقة الفَطْحل إيّاها، مُفكّكاً قضايانا المتشابكة بثقة إله، مُقلقلاً الحروف، مُفخّماً صوتَهُ، وأيضاً يلبس قاطاً ورباطاً مثبّتاً بدبّوس يقترب لونُهُ من لون القميص، بينما الحرارة خارج الشاشة تتجاوز الـ 50، كان يصرخ على عادته، بينما المذيعة تحاول أنْ توصل له سؤالاً آخر، فوقتُ النشرة الإخبارية يوشك على الانتهاء، ولكنه لم يُعرْها بالاً، حتى أنها قطعت الصوت وتركتْهُ صورةً فقط.
صورةً لِقاط وقميص ورباط ومثبِّتات وخدّينِ سمينينِ من أثر الدجاج والقوافي العصماء وأشياء أخرى لم أعُدْ أعرفها عنه، فأنا لم أره منذ 36 سنةً، سرقتْ فيها منّي الحروب والحصار والاحتلال والنزوح والهجرة ما سرقتْ، ولكني ما زلتُ أبحث عن الزهرة التي كانت تنبت جوارَ مسطبةٍ لا يجلس عليها أحد، وأظل مريضاً لنهار كاملٍ بسبب غيمة تائهة لا يعرفُها الصيف، ما زلتُ أرتبكُ عندما أرى.. شاعراً حقيقيا!