سلمان النقاش /اديليد
مازال المجتمع العراقي المكون وفق اتفاقية بين دولتين استعماريتين لم يبن بعد اسسا لدولته المدنية الحديثة منذ تاسيسها في بدايات القرن العشرين، وحتى لا نثير غضب الوطنيين، نقول ان هذه الاسس لم تثبت على الارض منذ ما يقرب التسعين عاما وها نحن نبحث عن العلل، وهي علل ربما نستدل على بعض اشاراتها حين نسلط الضوء على محطات تاريخية، انطلق منها عالم الانسان بحسب تطوره وتاثيرها او تاثرها بمنطقة الشرق الاوسط ومن ضمنها العراق، الذي لم يكن بمنأي عن التغيرات الدراماتيكية بعد الحرب العالمية الثانية، اذ تعاظمت اهمية المنطقة بعد الاكتشافات البترولية ونشاة اسرائيل لتكون واقعا لوجود غربي يستلزم الحماية والامن لها وكانها الدوار التي يرسم منه الغرب اتحاهات ممراته بحسب المصالح المتجددة وفق التطورات الخاضعة لقوانين السوق وحركة الراسمال العالمي والتبادل المكاني والزماني لمراكز القوى العالمية في اتفاقها او اختلافها وضمان تدفق مواد الطاقة من مصادرها دون مطبات او اعاقة سواء اكانت هذه محلية او بفعل معارك الحرب الباردة المخفية والمعلنة على حد سواء، وربما يكون اكتشاف البترول وحجم احتياطياته في المنطقة هو الحافز الاكثر تاثيرا في اتخاذ الجمعية العامة لهيئة الامم المتحدة قرار برقم 181 قي 29 نوفمبر قرار التقسيم عام 1947 ليعلن رسميا ودوليا قيام اسرائيل وهو ايذان باعتبار منطقة الشرق الاوسط ساحة نفوذ غربية تتمكن من خلالها بريطانيا وامريكا من التدخل لحماية الدولة الناشئة، جاء هذا بعد الاتفاق التاريخي على توزيع مناطق النفوذ ضمن اتفاقية يالطة عام 1945بين الاطراف المنتصرة في الحرب "بريطانيا وامريكا والاتحاد السوفيتي " تلك الاتفاقية التي شرعت لبداية حرب باردة بادوات مبتكرة سياسية واقتصادية وثقافية وعلمية وعسكرية وفنون مخابراتية وتقاسم النفوذ على المستوى العالمي لا بل حتى الكوني. وانطلاقا من هذه التواريخ نجد ان التاثير المباشر لهذه التغيرات الدولية قد سرى مفعوله مباشرة في العراق بالاعلان عن معاهدة "قبلت او رفضت لا يهم تضمن لبريطانيا قرارا سياسيا واقتصاديا وعسكريا مباشرا في العراق ازاء ما يمكن ان يقابله من نفوذ محتمل للاتحاد السوفيتي ونعني بها معاهدة بورت سموث عام 1948 ، ودون الخوض في تفاصيل اخرى ربما يعلمها القاريء المتابع، نستطيع ان نتبين حجم التاثير الاجتماعي في تصنيف اتجاهات الانسان العراقي بحسب واقعه الاقتصادي والثقافي، باختصار "واقعه الطبقي"، والعمل على ضمان موقفه السياسي "او بعبارة ادق استمالته لاعطاء التفويض.. او "قبضة الرمل".
الامر واضح ولا يحتاج الى الكثير من النباهة والذكاء بتحول الانسان العراقي الى هدف وغاية لمن يسعى الى السلطة، سواء اكانت هذه السلطة بشكلها الدولي المتوازن بحسب مقتضيات الحرب الباردة ام السلطة المتكونة ضمن منافسات مراكز القوى المحلية بجذورها العقائدية والقبلية او مدى قدرتها على التشبيك مع مراكز القوى العالمية الفاعلة في المنطقة، وعليه فان القوى المحلية الساعية الى السلطة تركز بكافة امكانياتها لتاسيس قاعدة ولاء تعتمد البيئة الثقافية المعتادة والمتجذرة لدى الانسان العراقي في تحديد ولائه وهو هنا يعتمد بكله على العقيدة كمفهوم تكتيكي مبرمج من قبل الساعين الى السلطة يوصل الى تبني الموقف السياسي، عند هذه النقطة تحديدا نستطيع ان نضع بعض ملامح الفكرة التي نسعى الى تاكيدها، وهي ان المجتمع المدني في العراق لم يتاسس على تنامي حركة المجتمع وفقا لتلبية متطلبات حاجياته الاساسية وتطورها (نشاط صناعي وتجاري وعلمي ومعمار وفنون..الخ)، بل تبعا لمشيئات سلطوية تسعى لتكون الوكيل لبيع النفط وتضمن له الحماية والبقاء بحسب مرتبته في المجتمع، وهذا ما يفسر الموجات العقائدية التي تتغير لدى العراقي تبعا لتغير السلطة الاقوى ونستطيع تلمس هذا الامر بملاحظة اندفاعات الشباب والطلبة واساتذة الجامعات في تشكلهم وفق اتجاه عقيدة السلطة اذ بانت في العهد الملكي وكانها ذات مزاج غربي برز بها اليهود والمسيحيون في المدن الكبيرة بغداد والبصرة والموصل ليظهروا على انهم من يشكل الطبقة الوسطى، وللاستدلال عن هذا بالامكان الرجوع ومعاينة طبيعة السوق انذاك واعلاناته والمعاملات التجارية والفنون والاداب ربما سنصل لتاكيد هذا المنحى، وهذا لا يعني عدم تاثير الطبائع الاجتماعية المتباينة، لكنها الان تبتعد فاسحة المجال امام من يفهم او يسوق الى عقيدة السلطة المحلية ومن وراءها. والامر ينطبق بنفس النمط على الشكل الذي تبنته الطبقة الوسطى ايام حكم عبد الكريم قاسم والنفس الثوري الرومانسي الذي جعل المجتمع يبدو يساريا او بعبارة اكثر قربا من المعنى شيوعيا، المسيحي شيوعي والشيعي شيوعي والسني كذلك والعشائري شيوعي وحتى المتدين شيوعي وانقلب الامر بنفس الطريقة والمنهج ليكون المجتمع بعثيا بكل تفاصيله. ومن الطريف ان نذكر هنا وجود فرع لحزب البعث العربي الاشتراكي للاكراد (فرع سليمانية) اي بقيادة كوردية، وفرع اخر لسكان مدينة الثورة صدام لاحقا (فرع صدام) وهكذا تتبدل انفعالات الناس العقائدية وفقا لارادة السلطة.. الان هل يختلف الامر؟
نعم هناك اختلاف واضح، النمط الكلاسيكي لمراكز النفوذ العالمية تغير تماما فلم يعد هناك ما يسمى بالاستعمار والتبعية ووجود ادارات احتلال سواء اكانت مباشرة او بواسطة الانتداب، لم يعد بإمكان سلطة واحدة في المجتمع ان تفرض ارادتها على الكل، طبعا هذا بسبب التغيير الذي حدث في 9/4/2003، لكن السلطات التي جمدت او ضمرت سطوتها ايام سطوة السلطة القوية، برزت بقوة لتأكد ذاتها كواقع اجتماعي يميز او يطبع الانسان العراقي بكافة اتجاهاته، الا يفسر هذا التناقض الكبير والطريف بين المثقف او الاديب او الفنان وانفعالاته المذهبية العقائدية؟
كتعبير عن انتمائه ناشدا الحماية، وحين يغادر هذا النمط الوطن ويتحرر من سطوة السلطة يلعنون عقيدتها سواء اكان منهم متواجد حاليا ام في الفترات السلطوية المركزية السابقة.. المختلف اليوم ان لا حرب باردة بين اقطاب عالمية تحرك المجتمعات وتقسمها الى معسكريين مدنيين.. بل قطب واحد يصنع حروبه متى واين يشاء امام عقائد تدافع بواسطة انسانها وبحسب مستوياته الحضارية وكالة عن الطامحين الاولين والاخرين نحو السلطة اذ تتحول واقعا الى الى اداة تركيعية ولا تني تقدمهم قرابين في سبيلها.. لا مجتمع مدني في العراق، كل الاسس والمساهمات نسفت منذ نشاة الدولة العراقية الحديثة بدايات القرن العشرين، والان تاتي "الديمقراطية" اليوم لتثبت وترسخ تشظي السلطات او مراكز القوى الحاكمة فعلا وتعطي الاذن لتكون العقيدة باكثر اشكالها تخلفا هي التي تحدد مكانة الانسان في المجتمع واسس حمايته تلك الاسس التي لا تعتمد القانون ضرورة مدنية، بل اسس لحماية السلطة الفعلية التي هي بالتاكيد فوق القانون.