داود سلمان الشويلي/ العراق
في مقدمة دراستي (الاشتغال الفضائي في المجموعة الشعرية "خطأ في راسي" للشاعر زين العزيز – المنشورة في جريدة الحقيقة يوم 11 / 5) قلت (حطمت قصيدة النثر ، كما حطمت قصيدة التفعيلة، بنية البيت الشعري في القصيدة العمودية، ويأتي هذا التحطيم في ان قصيدة النثر ترفض اي نظام هندسي ينتظمها، ودائما هي تهرع نحو الحرية، وهذا هو عالمها الذي تعيش فيه، والا فهي تموت كما ماتت العشرات من قصائد النثر، ان كان ذلك اثناء كتابتها، او كان ذلك اثناء طباعتها في وسائل الاعلام الورقية، او الافتراضية، اذ ان نزعتها المتجهة نحو الحرية تتطلب مثل هذا الاشتغال الفضائي الواسع والمنفلت من كل تحديد يحد بحريتها، على الرغم من محاولات بعض الدارسين، خاصة عند بحثهم لها لنيل شهادة الماجستير او الدكتوراه، لتحديدها بإشتراطات واليات عديدة. ان مثل هذه الحرية التي تتبعها قصيدة النثر في بناء شكلها خاصة، اي في اشتغالها الفضائي المنفلت عن اي تحديد، سيؤثر حتما في توليد الدلالات، والمعاني، اي انها توظف جيدا اشتغالها الفضائي واستثماره في توليد ما ينضح منها من دلالات ومعاني، وهذا ينتج عند القراءة الذكية لها على المنابر، او عند مطالعتها من قبل قاريء فطن على الورق الحقيقي او الافتراضي، اذ يعرف الاول محطات قراءة النص، او التوقف عن القراءة لاسباب لا مجال لذكرها ، من خلال اثراء النص من قاريء متمكن، ويعرف الثاني قراءة البياض والسواد، او هندسة الحروف والكلمات والجمل، او ترقيم المقاطع، وما شاكل كل هذا، في النص المكتوب على الورقة .)
وتاسيسا على هذا الفهم الخاص لشكل قصيدة النثر، وهي جنس ادبي معروف، نتساءل عن شكل جنس ادبي اخر، اسبق منه، وهو الرواية، فهل كان شكل الرواية الفنية الناضجة يمتثل لاشتراطات معينة تحدده ضمن حدود لا يمكنه تجاوزها، مع العلم ان السرد في روايـات مابعد الحداثة قد تميـــز بمميزات منها كسر التماسك الحاصل بين الاحداث وتشتيتها وتفكيكها، مثلا. صحيح ان الرواية هي كلام واشكال تضم هذا الكلام، الا انها لا قواعد لها، ولا اشتراطات تحكمها عند الكتابة، انها لا شكل معين لها، وان ما يحكمها هو ما ستهتدي اليه عند الكتابة، أي ان الرواية هي التي تضع قواعد واشتراطات بنيتها (كذلك جميع مواصفات عناصرها الاخرى ) عند الكتابة، حيث لكل رواية بنية خاصة، وياتي التشابه بين بنى واشكال بعض الروايات من باب التناص العام ، مثل ما نجده في الروايات التي كتبت على غرار الف ليلة وليلة، وبعض السير الشعبية، مثلا. فلو ان الذين نظروا لبنية الرواية من المنظرين والدارسين الاجانب (باختين، تودوروف، ياكوبسن، وبارت، وغيرهم ) قد اكتووا بنار كتابتها، مثلما اكتوى كاتب الرواية، لمزقوا كل ما كتبوا من تنظيراتهم، ذلك لان الرواية عصية على القواعد، إذ انها حالة هلامية تتشكل لحظة كتابتها، وانجازها، وهي بالتالي التي تضع قواعدها واشتراطاتها. وبناء الرواية منذ التأسيس قد اعتوره تغير وتبدل، إذ تغير الشكل التقليدي لبنية الرواية الى شكل ما بعد الحداثة، فقد تركت الرواية – مثلا - الاعتماد على قول السارد (المؤلف، او الراوي) ،او قول مصطلح السرد في الليالي (بلغني)، او في المقامة (حدثني)، او في السيرة الشعبية ( قال الراوي)، او ( زعموا )، او ( كان يا ما كان ) كما في اغب الحكايات القديمة، وسواليف الجدات.
من اشكال البنى المستخدمة التي نصادفها في الرواية (الناضجة) بعد الانجاز هي:
- رواية يعتمد بناء شكلها على استمرارية الزمن – الرواية التقليدية:
يعتمد بناء الرواية هذه على بنية زمنية مستمرة، انطلاقا من نقطة زمنية محددة ومنها تنطلق الى المستقبل دون تعرجات زمنية، او توقفات للاحالة الى الماضي، اي ذات زمن مستمر، كرونولوجي، حيث يسير الزمن على خط مستقيم، مثل رواية:
ثلاثية نجيب محفوظ (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية)، و" الايام" لطه حسين، وروايات "عودة الروح"، و "يوميات نائب في الأرياف "لتوفيق الحكيم، وروايات جرجي زيدان التاريخية، ورواية "الدكتور ابراهيم" لذنون ايوب، او في رواية "صعود النسغ" لهشام توفيق الركابي مثلا، واغلب الروايات العربية والعراقية.
- رواية تبنى على تذبذب الزمن بين الماضي والحاضر والمستقبل:
رواية " كتاب التجليات " لجمال الغيطاني مثالا على استخدام شكل البنية التي تعتمد على تذبذب الزمن بين الحاضر والماضي والمستقبل، مع تغير في الاسبقية، ورواية عبد الرحمن مجيد الربيعي" خطوط الطول.. خطوط العرض"، وبعض الروايات العراقية والعربية .
- الرواية المبنية على غرار حكايات الف ليلة وليلة:
ان استلهام التراث الحكائي العربي كان هاجس الكثير من كتاب الرواية ، ابتداءا من المويلحي ، وانتهاءا باخر روائي له منجز روائي منشور ، مرورا باسماء روائية قديرة. فهناك روايات استلهمت الف ليلة وليلة وتشكلت من مجموعة من الحكايات المتداخلة، حكاية وسط حكاية تضمها حكاية جامعة تسمى حكاية الاطار، مثل رواية الف ليلة وليلة، التي يعدها البعض من الدارسين رواية، فيما لا يعدها البعض مثل هذا.
لقد كتب على غرار الف ليلة وليلة، روايات كثيرة، كرواية " ثرثرة فوق النيل" و رواية "ليالي ألف ليلة" لنجيب محفوظ ، وكذلك رواية " الزيني بركات" لجمال الغيطاني"، ورواية " موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، و رواية "الأنهار" لعبد الرحمن مجيد الربيعي، ورواية " عالم بلا خرائط" لجبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف، و ورواية " سابع ايام الخلق " لعبد الخالق الركابي، و رواية " تيمور الحزين "ورواية" الحلم العظيم " لاحمد خلف، ورواية " ليس ثمة امل لجلجامش " لخضير عبد الامير ، وغيرها من الروايات، حيث بنيت على شكل حكايات الف ليلة وليلة، او قريبا منها، يضاف لها البعض من الروايات العراقية والعربية. تنطلق رواية " الانهار" للربيعي، كمثال على ذلك، من حكاية اطارية هي حكاية / اسطورة "جلجامش"، ويضم كل فصل من فصول الرواية قسم منها، كما نرى ذلك في الف ليلة وليلة حيث تتولد من الرواية الاطارية" الحكاية الاطارية" روايات / حكايات اخرى.
- الرواية المبنية على غرار السيرة الشعبية:
تقاربت بعض الروايات العربية مع الشكل الفني العام للسيرة الشعبية العربية، مثل رواية "ملحمة الحرافيش" لنجيب محفوظ، ورواية مجيد طوبيا "تغريبة بني حتحوت إلى بلاد الجنوب" ، حيث بنيت على تقنية تشبه الى حد ما السيرة الشعبية التي كتبت عبر تاريخنا الادبي العربي، مثل " سيرة ذات الهمة ".
وكما في سيرة " ذات الهمة " مثلا، نجد ان "ملحمة الحرافيش" تحكي الصراع الأزليّ بين الخير والشر،في عشر حكايات لأجيال عائلة بالتعاقب، سكنت حارة غير محددة الزمان ولا المكان بدقة، حيث تمثل صراع الأجيال البشرية فى كل زمان ومكان.
تمتاز السيرة الشعبية بضخامة متنها الحكائي، حيث ينقسم إلى أجزاء معنونة تتحدث عن مرحلة من مراحل حياة البطل، وتحوي موتيفة الرحيل عن المكان والذهاب إلى مكان اخر، والدخول مع الاعداء في صراع، ليعود في النهاية ظافراً إلى مكانه.
وتتميز السيرة كذلك بتعدد الشخوص، واتساع الزمان والمكان فيها، حيث يقتضي انتقال البطل من مكان إلى آخر، سعياً وراء إنجاز المهمة المكلف بها، اتساع رقعة الأحداث، كما ان السيرة تقدم حياة البطل من الولادة إلى الوفاة. ونجد ذلك في رواية نجيب محفوظ "ملحمة الحرافيش"، حيث تتشابه والشكل العام للسيرة، من حيث ضخامة متنها، وتعدد وتنوع أمكنتها، وامتداد زمانها، وكثرة شخوصها، وتقسيمها إلى عدد من اقسام معنونة، وكذلك في رواية مجيد طوبيا " تغريبة بني حتحوت إلى بلاد الجنوب"، ولا تخلوا مثل هذه الروايات كما السير الشعبية العربية من الاشعار كذلك.
- الرواية المبنية على غرار المقامة:
المقامة فن حكائي عربي قديم، ومن أوضح الامثلة للتأثر بفن المقامة هو (رواية ) ”حديث عيسي بن هشام” للمويلحي، وكذلك " مجمع البحرين " لناصيف اليازجي، ورواية“ علم الدين” لعلي مبارك، إذ يتصل بطلها بشخصيات متعددة، وقد كتبت هذه الروايات متأثرة بالروايات الاجنبية من حيث تنوع مناظرها، وتسلسل الحكاية فيها، وبعض ملامح التحليل النفسي للشخصية.
- الرواية المبنية على غرار الرحلة (رحلة ابن بطوطه مثلا)
فقد استلهم الروائي العربي الحديث هذه البنية، من كتاب " رحلة ابن بطوطة " وكتب الى حد ما على منوالها رواية فنية ناضجة، كالروائي نجيب محفوظ في روايته " رحلة ابن فطوطة " مثلا.
تعتمد رواية محفوظ على الرحلة، ويستلهم شكل كتاب ابن بطوطة الذي كتبه عن رحلته، مبتعدة عن ان تكون رواية رحلة فقط (اخبار عن تفاصيل رحلة)، اذ جعلها محفوظ رحلة غير تقليدية، وقد اهتم بالحوار الذي ينشأ مع الحضارات التي يدخل في كنفها البطل، وليس نقل ما يشاهده من امور غريبة ومدهشة، انه مهتم بنقد الواقع الذي يعيشه .
- الرواية التي تبنى على نوع موسيقي:
تبنى بعض الروايات على قالب موسيقي معروف مثل قالب السيمفونية، او على قالب الكونشرتو ، كرواية " المصائر " للروائي الفلسطيني ربعي المدهون التي فازت بالبوكر لعام 2016 ، التي بنيت على قالب الكونشرتو، حيث تتكون من اربع حركات، كل حركة تمثل حكاية تتضمن بطلين، ثم يتحولان في الحركة الثانية الى شخصيتين ثانويتين ليدخلا بطلين رئيسين جديدين وهكذا .
وراجع كذلك كتاب "أسعد محمد علي" (بين الأدب والموسيقى - دار افاق عربية- للصحافة والنشر، بغداد، ١٩٨٥ (.
- الرواية المبنية اعتمادا على تعدد الاصوات:
هناك روايات تبنى على حكاية واحدة يحكيها عدة اشخاص كل من وجهة نظره، تسمى رواية بوليفونية، تتعدد فيها الاصوات، وهذا يعطي المجال لاكثر من كاتب ضمني لرواية حدث ما، ومثال على ذلك رواية "خمسة اصوات" لغائب طعمة فرمان، ورواية " ميرامار "لنجيب محفوظ، ورواية "متاهةُ أخيرهم" لمحمد الاحمد، حيث المؤلفين عديدين يقومون بتأليف الرواية ذاتها، إذ كل شخص يروي الحادثة من منظوره هو، ووجهة نظره، وكل مؤلف من هؤلاء يمكننا ان نجد فكره واعتقادة مجسدا فيما يؤلف ويكتب، اي ايدولوجيته ماثلة وراء ما يقول ويصوغ من افكار.
ان ايديولوجية الكاتب الاصلي لهذه الرواية اوتلك تنمحي كليا عن الواجهة، إذ هي تتوزع بين اصوات وافعال وممارسات مؤلفي الرواية، اي شخوصها، او اصواتهم، وهذا الامر تشترك فيه روايات ذات صوت واحد، الا انها تختلف من حيث انها تمتلك صوتا واحدا اي انها ذات ايديولوجيا واحدة، افكارا وعقيدة، انها افكار وعقائد المؤلف الاصلي ذاته، على الرغم من ابتعاده عن الشخصية هذه او تلك. ان خاصية ان تكتب الرواية من عدة شخوص، اصوات شخوصها المتعددين، تجعل الكاتب الاصلي، مؤلف الرواية وكاتبها على الورق، حذرا جدا كي لا يقع في المحذور الذي هو الاسفاف في اعتماده على صوت واحد يصبح هو الطاغي على اصوات الرواية من الاول الى الاخير، انه الوعي التام بما يفعل الكاتب، ووعي الشخوص بما تقدم، اي يكون وعيا مغايرا لوعي الكاتب، وبهذا تمحى من الذاكرة الصورة التقليدية للبطل في الرواية كما عهدناه في الرواية التقليدية، اي الرواية غير البوليفونية، ذات الشخصية المحورية الواحدة، او الصوت الواحد، مثل البطل في رواية" اللص والكلاب "لنجيب محفوظ، او في رواية عبد الرحمن مجيد الربيعي "الوشم" او في رواية "صعود النسغ" لهشام توفيق الركابي. في مثل هذه الروايات يستقل الصوت، المؤلف الاخر للرواية، من كل شيء خارج ارادته بكل ابعادها، الفكرية، او الاخلاقية، او الوجودية، او اي شيء، من ارادة الكاتب الاصلي، فيصبح عند ذاك ارادتين، صوتين، مؤلفين، اضافة للمؤلفين الاخرين، اي الاصوات الاخرى. اننا نبحث عن المؤلف الاصلي في مثل هذه الروايات ونسأل انفسنا اين الكاتب، او صوته، او تأثيره حتى، الا اننا لا نجده في الرواية وشخوصها الا بما له علاقة بما يجمع تلك الاصوات فيما بينها، وهذا غير مرئي، وغير معروف.
- الرواية المبنية اعتمادا على الرسائل:
مثل رواية "الرسائل المنسية" لذنون أيوب التي بنى قصة حب في الرواية على الرسائل الى حد ما.
إذ بعد ان هجر "عارف" اهله وبلده الى جهة مجهولة وترك لصديقه الراوي ظرفا يحوي على مجموعة من الرسائل معنون باسمه، يقول الراوي: (هاك كل ما ترك واحمد الله على أنه لم ينجب أطفالاً، ولعلك تجد في هذه الرسائل ما يفسر سلوكه الغامض، ولست ألح في تقصي أخباره فغيابه خير من وجوده ولا أظنك تخالفني(. . وكما فعل في روايته الاخرى " الدكتور ابراهيم " في انه بناها على مجموعة رسائل الدكتور.
- الرواية المبنية اعتمادا على البنية البوليسية:
تعتمد بنية الرواية البوليسية على المطاردة، والتوتر، وتقطيع الحدث الى اجزاء ، وتطويره باطراد، والسرد المتسارع خاصة الذي ينضح منه توترا و تشويقا.وقد بنيت الكثير من الروايات العراقية والعربية اعتمادا على هذه البنية، او قريبا منها، كرواية " اللص والكلاب " لنجيب محفوظ.
***
ان اغلب كتاب الرواية يكتبون نصوصهم دون ان يحددوا شكل البنية قبل البدء في الكتابة، انما هي تتحدد اثناء الكتابة ، ولا سيطرة للروائي على ذلك، لذا نجد ان اغلب النصوص الروائية هي تجميع لاكثر من شكل للبنية، مثلما يجمع الذئب (او الاسد) من هضم لحوم خراف عديدة، كما يقول بول فاليري، وهذه ميزة تحسب للروائي لا عليه، اذ انه لا يتدخل فيما يطرحه النص من افكار واقوال واحداث وفي اي قالب ما تصب.( راجع كتابنا الذئب والخراف المهضومة – دراسات في التناص الابداعي – دار الشؤون الثقافية العامة - 2001 ).
وفي ختام هذه السطور علينا التأكيد على مسألة مهمة هي انه لا يمكن استعراض جميع اشكال البنى الروائية لكثرة الروايات المنشورة، من البنية التقليدية حتى رواية ما بعد الحداثة واستعمالها لبنى متنوعة وعديدة ، الا اننا ذكرنا اهم ما استخدم من بنى الروايات التي اطلعت عليها منذ قراءتي للرواية. وايضا التأكيد على انه لا توجد بنية واحدة وصافية لشكل واحد للرواية.