سلمان النقاش /اديليد
ما زالت النخب المثقفة في العراق لم تسلم بعد ان ما يجري هو مجرد صراع طائفي، فهذه النخب رغم انتماءاتها الاجتماعية المتباينة ورغم بيئاتها المختلفة ورغم متبنياتها المتأثرة بمصالحها.. فانها تدرك ان الطائفية فعل دراماتيكي يتحرك بارادة واعية.. اي انها اداة من ادوات الصراع وليست اساس له، هذا ما تذهب اليه اشارات الانتماء التي تتمظهر من خلال مخرجات هذه النخب وان كانت غيرفعالة او مؤثرة في عملية التصدي للثقافة الطائفية التي اريد لها ان تسود اليوم، وياتي هذا الادراك ايضا من خلال التاكيد المتواصل على ان العراق يمتلك اسسا مدنية ساهمت بدرجة ما في نشأة المجتمع المدني منذ ان تكونت المجتمعات واصبحت دولا وامبراطوريات.. ويكفي الاطلاع على تاريخ العراق ليؤكد هذا، فالعراق بحكم موقعه الجغرافي وطبيعة ارضه لم يكن جزيرة في عرض البحار او مساحة رمال خالية.. فطبيعة الحكم المدني ((دولة المدينة)) تواترت عبر محطاته التاريخية منذ الاف السنين.. وما حدث من استجابة حضارية بعد الحرب العالمية الثانية في العراق وتأثر المجتمع بالافكار القومية واليسارية والليبرالية من خلال فعل الاتصال المتطور (النقل والمواصلات، حركة الترجمة، ووسائل الاعلام والصحف.. الخ) يؤكد المساحة المدنية التي بها تمكن العراق من انشاء دولته المدنية الحديثة بالمقارنة مع مجتمعات الجزيرة العربية التي لم تمر بمرحلة التحضر الزراعي الذي ثبت الانسان على ارضه والتي كانت الاساس الذي يمكن له ان تنهض به اسس الدولة، مع التسليم بان المجتمع العراقي كان قد مر عبر تاريخه بعدد من النكسات والكبوات الحضارية التي جعلته يتأثر بثقافة الغازين لارضه. ولان الطائفية تحرك ذات طابع سياسي يستلزم نهجا فكريا يقترح طريقة تنظيم حياة مختلفة عن نهج سياسي اخر.. فهي بحاجة شانها شان اي فكر عقائدي اخر، الى تنظيرات ومنظرين والى تاريخ يؤكد حضورها في نمط حركة المجتمع.. ولانها ايضا تعتمد اساسا على الدين باعتباره منجزا حضاريا تمكن من خلاله الانسان ان يؤسس لحضارته التي باتت منجزاتها شرطا لوجوده، فان فلسفة الدين ومحتواه التراثي والفني وما يتصل به من جذور عميقة في تواتر حركة اي مجتمع على جميع الصعد والمستويات.. فانها اي الطائفية لابد لها ان تكون حاضنة دافئة لمشاعر الاختلاف مع الاخر المشابه لتوجهاتها والمختلف معها سياسيا.. يعكس التبني الفكري والسياسي الطائفي طبيعة مراكز القوى في المجتمع ومستوى فعالياتها التي تثبت مواقعها فيه..
وكلما تراجعت الاسس المدنية للمجتمع فان هذه القوى لابد لها ان تتمسك بهذه المواقع حماية لمصالحها.. وهي في كل الاحوال اي هذه القوى لها القابلية على التكيف مع التقلبات المحيطة ويكون اعتمادها لاساسي هنا هو الجذر السلوكي والاخلاقي للمجتع "الدين"، وهي تمسك بدفته الطائفية وتضمن حماية المجتمع لها وتمسكه بها.. عمليا ومن خلال فعل سياسي وعسكري وثقافي متصل، خلال ما يقرب من اربعين عاما بدت صورة المجتمع العراقي تبدو فعليا متاثرة وبتسليم بالواقع الطائفي طابع عام يستلزم من المجتمع الدولي التعامل معه على هذا الأساس، ويعني هذا ضمنا أن تتخذ الدول المستقرة سياسيا واجتماعيا في المنطقة احتياطاتها في هذا الشأن ومحاولة درء أي خطر يهدد وضعها السياسي، ولكن بالتدخل مباشرة ومن خلال دعم واسناد قوى داخلية تقولبت لتلائم كل ما يفرضه الواقع السياسي بمعطياته الدولية والمحلية وصارت بحاجة إلى فرض إرادتها السياسية فلم يكن متاحا إلا العنف وتكوين جيوب ومناطق على الأرض تفرض الواقع الطائفي كأسلوب حياة خارج إطار الدولة والقانون بقوة السلاح، ما استوجب عمليات القتل على الهوية والتهجير وفرض الكانتونات الطائفية، كضمانات شعبية للحصول على الحصص السياسية في السلطات المكونة بحسب الدستور الذي قرر على أنه قانون اساسي مدني وتعاملت القوى الاقليمية والدولية مع هذا التشكل كامر واقع، ما يعني ان مراكز القوى المحلية ثبتت اسسها الاجتماعية بارادات محلية ودولية.. وهذا بالضبط ما تحتاجه اي حركة سياسية لديمومة وجودها " الشرعية".
فعل سياسي واقتصادي وثقافي دولي على اسس طائفية، كما اعلن منذ بداية تشكيل الادارة المؤقتة لحكم العراق "ادارة بريمر" ومجلس الحكم الذي قسم على اسس طائفية. اذ اتخذت جميع الدول التي لها مصلحة في ادامة علاقتها مع العراق شكلا يلائم النشاط السياسي الذي انتج السلطات بطابعها الرسمي والعرفي اذا صحت التسمية. وأصبحت الحياة بمجملها طائفية الأرض والزرع، السياسة، التعليم، الثقافة، التاريخ وحتى الاعتراض "حرية التعبير والتظاهر" أصبحت طائفية، فلكل مكون تظاهراته التي يستغلها السياسيون لكسب أكثر مساحة من السلطة.
اليوم وبعد أن وصلت الصورة الطائفية إلى شكل الاقتتال المنظم بين طرفين يرددان الشعارات الطائفية واتضح بشكل لا لبس فيه علاقة أجهزة الدول التي لها مصلحة في العراق يصبح الخروج من هذه المحطة التاريخية الخطيرة امرا في غاية التعقيد والصعوبة، لكنه ليس مستحيلا على الإطلاق، لأن الناس هنا تدرك معنى المدنية.