أ.د. داخل حسن جريو/سيدني
تؤكد كل الدول المتحضرة على حق كل البشر بالانتماء لأي دين أو معتقد أو طائفة، بشرط أن تكون معتقدات الشخص وممارساته لا تحض على أذى بالآخرين، وهذا ما أكده الإسلام العظيم بجلاء حيث أشار القرآن الكريم بأن لا إكراه في الدين فقد تبين "الرشد من الغي"، وأكده الرسول الأعظم بقوله:
"أن اختلاف أمتي رحمة".
فالطائفية طالما أنه تعني التزام الإنسان بقواعد سلوك معينة على وفق مبادئ وأحكام شريعة دينه طبقا لمفاهيم طائفته، واحترامه لالتزام الآخرين بشرائع طوائفهم كل على طريقته.
ولا تقتصر على دين معين ولا بلد معين أو حقبة تاريخية معينة، ولا ترتب حقوقا أو امتيازات لأفراد لمجرد كونهم من أبناء طائفة معينة، أو سلب حقوق آخرين لكونهم من أبناء طائفة أخرى، ولا تسعى لإشاعة روح التنابز والحقد والضغينة تجاه الطوائف الأخرى، فليس هناك من ضير بانتماء الناس لهذه الطائفة أو تلك.
فالتعددية الطائفية ظاهرة طبيعية موجودة في كل المجتمعات حتى في تلك المجتمعات التي تبدو متجانسة في نسيجها الداخلي حيث إن التعدد ليس دائمًا هو السبب الوحيد للانقسام ونشوب الصراعات المسلحة وتدمير الكيانات الوطنية ولكن تظهر إشكالية التعددية الطائفية إذا ما تم توظيفها سياسيًا الأمر الذي يؤدي إلى اندلاع الصراعات بين الطوائف المختلفة كما هو واضح للعيان اليوم في عراقنا الجريح.
يوصف الإنسان بالطائفي إذا ما سفه معتقدات الآخرين ووصفها بأوصاف غير لائقة أو ربما ببعض أوصاف البدع والتكفير مما قد يؤدي إلى الفتنة والإحتراب الطائفي وسفك الدماء.
يذهب البعض فى تعريفهم للطائفية على أنها جماعات حصرية مغلقة تتحدى البيئة التي نشأت فيها، وينظرون إلى أنفسهم على أنهم نُخب، مهمتهم الحفاظ على نقائهم الأخلاقي وتغيير العالم وإعادة صياغته وفقاً لمبادئ دينهم التي يعتقدون في صحتها، وقد عرفها البعض الاخر بأنها سلوك التعصب لصالح المجموعة التي ينتمي إليها الشخص تجاه المجموعات الأخرى بإظهار التباين معهم، وهو ذاته التمذهب والمذهبية وتعرف أيضاً على أنها تمسك الجماعة بمصالحها ومنظومة قيمها المشتركة وتعصبها في الحق والباطل.
إن مجرد الانتماء إلى طائفة أو مذهب لايجعل الإنسان المنتمي إلى تلك الطائفة طائفيا كما لا يجعله طائفيا عمله لتحسين أوضاع طائفته أو المنطقة التي يعيشون فيها دون إضرار بحق الآخرين، ولكن الطائفي هو الذي يرفض الطوائف الأخرى ويغمطها حقوقها أو يكسب طائفته تلك الحقوق التي لغيرها تعاليا عليها أو تجاهلا لها وتعصبا ضدها.
تمثل الطائفية عقبة كداء أمام تطبيق دولة المواطنة، فالمواطنة بالأساس تقوم على فكرة المساواة بين الجميع ورفض التمييزبين الناس بسبب الجنس أو اللون أو العرق أو الدين، وتسعى لتحقيق التنمية الشاملة والعادلة في كافة أرجاء الوطن الواحد وإعلاء دولة القانون أي أن الجميع متساوون أمام القانون بغض النظر عن أى اختلاف.
وفي كل هذا تأتي الطائفية لتكون بمثابة معول هدم يفتت كل ما يمكن أن تحققه دولة المواطنة من بناء مجتمع عادل فـتمثل النزعات الطائفية والأثنية والعشائرية الخطر الحقيقى الذى يهدد الدولة من الداخل.
وهنا تكون المواطنة هي السبيل الوحيد لحماية المجتمعات من الانزلاق في آتون الحروب الأهلية والصراعات الطائفية، وتسهم في تحقيق الأمن الشامل للوطن والمواطن القائم بالأساس على فكرة سيادة القانون والمساواة بين افراد الوطن الواحد دون أدنى تمييز.
أما الطائفية السياسية فيقصد بها توظيف الدين من منطلق طائفي لأغراض سياسية دنيوية لا علاقة للدين بها لا من بعيد أو من قريب، وقد لا يصب هذا التوظيف في مصلحة الطائفة التي ينتمي إليها.
وغالبا ما تقود مثل هذه السياسة الحمقاء إلى كوارث إنسانية لا حصر لها، وقد تتسبب بحصد أرواح آلاف الناس دون ذنب، وخلق أزمات لها أول وليس لها آخر، وقد تؤدي إلى صراعات مريرة وربما حروب أهلية لسنين طويلة يحترق فيها الأخضر واليابس، والأمثلة على ذلك كثيرة في تاريخ الأمم والشعوب قديمها وحديثها.
تكون الطائفية السياسية مكرسة في معظم الأحيان من ساسة ليس لديهم التزام ديني أو مذهبي بل هو موقف انتهازي ليتمكن السياسي الانتهازي من الوصول إلى السلطة.
والطائفية السياسية ليست وليدة اليوم، فقد شهدت أوربا في العصور الوسطى صراعات طائفية دامية راح ضحيتها آلاف الناس بين البروتستانت والكاثوليك، وبين الأرثوذكس والكاثوليك في إطار الديانة المسيحية.
وما الصراع الطائفي الدامي في إقليم أيرلندا الشمالية التابع لبريطانيا بين الكاثوليك والبروتستانت الذي استمر سنينا طويلة إلاّ مثالا آخر للصراعات الطائفية في العصر الحديث.
وقد تمكنت الدول الأوربية من حسم صراعاتها الطائفية بعد أن تحولت إلى دول مدنية تقوم أساسا على المواطنة بصرف النظر عن الدين أو المذهب أو القومية.
فالجميع متساوون في الحقوق والواجبات، وهي اليوم تنعم بالأمن والآمان والعيش الكريم والتقدم والإزدهار.
وشهدت الهند قبل عهد الاستقلال في أربعينات القرن المنصرم حربا طائفية ضروس بين الهندوس والمسلمين، أفضت إلى تقسيم الهند إلى دولتي الهند العلمانية وباكستان الإسلامية عام 1947التي انقسمت فيما بعد إلى باكستان وبنغلادش عام 1971، فضلا عن صراع مفتوح حول ولاية كشمير المسلمة بين الهند وباكستان والذي قاد إلى حروب عديدة بينهما، وما زال يمثل مصدر توتر دائم بين البلدين حتى يومنا هذا، ومثال آخر انفصال ولاية تيمور الشرقية ذات الأغلبية المسيحية عن جمهورية اندونيسيا ذات الأغلبية المسلمة بعد صراع مرير لسنوات طويلة، وما الصراع الطائفي الدامي الذي يدور حاليا بين الأقلية المسلمة في مانيمار والأكثرية البوذية الذي راح ضحيته آلاف المسلمين فيها بعيدا عن الأذهان.
والأمثلة كثيرة على التناحر الطائفي في أنحاء شتى من العالم قد يطول الحديث عنها، إلاّ أن ما يعنينا هنا بروز المد الطائفي السياسي في بعض بلداننا العربية بعامة وعراقنا الأشم بخاصة وما ينطوي عليه من مخاطر على امن السلم الأهلي والأمن القومي حيث فتح الباب واسعا على مصراعيه للتدخلات الأجنبية والإضرار بمصالحها الوطنية، ناهيك عن تبديد ثرواتها وإيقاف عجلة نهضتها وتقدمها للحاق بركب الحضارة الإنسانية، فضلا عن قتل وتهجير ملايين الناس وفقدانهم لممتلكاتهم، ليتحولوا إلى غرباء في أوطانهم أو لاجئين في بلدان أخرى يستجدون لقمة العيش بعد أن كانوا أعزاء كرام في بلدانهم.
وما كان لهؤلاء الناس أن يهانوا لو أن بعض ممتهني السياسة حكّموا عقولهم بدلا من تجيش العنف الطائفي، ففي مصر مثلا أتخذ العنف الطائفي مسار التصادم بين أبناء الوطن الواحد من المسلمين والمسيحيين الأقباط، وفي لبنان أقدم الكيانات السياسية الطائفية في الوطن العربي، اتخذ الصراع الطائفي مسارات عديدة، تارة بين المسلمين والمسيحيين بدعوى خطر الوجود الفلسطيني وتداعياته على الأمن اللبناني، وما نجم عنه من حرب أهلية شرسة لقرابة عقدين من الزمان، وتارة بين المسلمين من السنة والشيعة بدعاوى دعم المقاومة بحسب رأي البعض، وتداعيات الوجود السوري في لبنان بحسب رأي الطرف الآخر، والتي في أساسها تصفية حسابات إقليمية ودولية على حساب المصالح اللبنانية.
وفي اليمن تثار الفتنة الطائفية بين الحين والآخر بين الحوثيين ومواطنيهم من أهل السنة والجماعة، التي زادها التدخل العسكري السعودي الخليجي ضراوة، نجم عنه دمار شامل لليمن بأسره دون أن تلوح في الأفق بارقة أمل بإنفراج قريب لهذه المأساة الإنسانية. وتتكرر المأساة في سوريا بعد أن تحولت الاحتجاجات المطالبة ببعض الحقوق السياسية إلى حرب طائفية ضروس لتصفية حسابات إقليمية ودولية ليس لسوريا شعبا أو وطنا أية مصلحة فيها.
والحديث المؤلم يطول لما يحدث الآن في بلدان عربية عديدة أبرزها السودان والصومال والبحرين وليبيا ودول أخرى لا يتسع المجال هنا للخوض بتفصيلاتها.
وبلغت الفتنة الطائفية ذروتها في العراق حيث تحاول جهات عديدة داخلية وخارجية صب الزيت على النار المستعرة (منذ غزو العراق عام 2003 حتى يومنا هذا) بين جماعات محسوبة على الطائفتين السنية والشيعية دون تفويض من أي منهما، حيث اتخذت هذه الفتنة أشكالا مريرة شتى، كان نتيجتها تدمير العراق دولة وقيما وحضارة، فضلا عن إزهاق أرواح آلاف الناس دون ذنب، وتشريد آلاف أخرى من مناطقهم بعد أن دمرتها عصابات داعش الإرهابية، ولعل ما يثير الدهشة أن دعاة الطائفية ومروجيها يتهمون خصومهم بممارستها ويدعون البراءة منها، كبراءة الذئب من دم يعقوب.
وها هم يتراقصون على أجساد الضحايا دون حياء ويخططون في الظلام لتفيذ مشاريع تقسيم العراق إلى كيانات عرقية وطائفية هزيلة في أعقاب هزيمة داعش المتوقعة قريبا إن شاء الله والتي ما كان لها أن تتم لولا تضحيات وبسالة العراقيين بمختلف دياناتهم وطوائفهم الذين حركتهم مشاعرهم الوطنية وحبهم للعراق العظيم الذي لم يحصدوا منه سوى المزيد من المصائب والويلات من جراء حماقات سياسي الصدفة الذين تربعوا على كراسي حكم العراق في غفلة من الزمن.
وخلاصة القول أن الطائفية السياسية قد أفرزت حكومات فاشلة يقودها أميون أو نصف متعلمين من مزوري الشهادات والفاسدين المفسدين عديمي الذمة والضمير ممن وظفوا الغرائز الطائفية بعيدا عن منطق العقل وخلافا لتعاليم الدين ضد خصومهم السياسيين من الطوائف الأخرى لتحقيق مأربهم الشخصية، أدت إلى صراعات دامية راح ضحيتها الناس الأبرياء الذين ليس لهم فيها ناقة أو جمل، وإيقاف عملية التنمية والرجوع إلى الوراء عشرات السنيين، وتفشي ظاهرة الفساد دون حسيب أو رقيب، وانتشار البطالة لاسيما بين صفوف الشباب وتعاطي المخدرات، وتراجع التعليم بأنواعه وازدياد عدد الأميين لاسيما بين صفوف الإناث، وانهيار الأمن ومنظومات القيم والأخلاق وتفتيت النسيج الاجتماعي، وهجرة الملايين إلى خارج بلدانها وبخاصة أصحاب الكفاءات من المفكرين والمبدعين وأساتذة الجامعات، وفسح المجال واسعا أمام المداخلات الخارجية للعبث بأمن ومقدرات بلدانها.
ولأن الطائفية السياسية ورم سرطاني خبيث عليه يجب أن تتضافر الجهود الخيرة لاستئصاله، بالأعمال لا بالأقوال قبل أن يستفحل أمره ويفتك بجسد أمتنا الذي بات هزيلا في أكثر من موضع، وكخطوة أولى لابد من إعلان ميثاق شرف يحرم العمل بالطائفية السياسية بأي شكل كان وتحت أي مسمى، وتحريم سفك الدماء وتكفير الآخرين من أي طائفة أو مذهب، والعمل على إشاعة روح التسامح والتعايش بين أتباع الديانات والمذاهب المختلفة، وعدم إقحام الدين أو المذهب في الخلافات السياسية، وصيانة كرامة الإنسان خليفة الله في أرضه وحفظ حقوقه في العيش الكريم الآمن.