أ.د. داخل حسن جريو/ عضو المجمع العلمي العراقي/سيدني
يشهد التعليم العالي في معظم دول العالم طلبا" متزايدا" في جميع التخصصات العلمية والانسانية على الحد السواء، يفوق كثيرا" قدرات مؤسساتها التعليمية، الامر الذي ولد احباطا" شديدا" لدى فئات واسعة من السكان، وبخاصة الفئات الفقيرة في المدن الكبرى وسكان المناطق النائية والقرى والأرياف حيث تتضاءل فرصها التعليمية اكثر من سواها.
ومما يزيد الامور سوءا"، عدم قدرة معظم هذه الدول بما في ذلك الدول الغنية على تحمل نفقات التعليم العالي الآخذة بالتصاعد سنة بعد اخرى، مما حدى بالكثير من هذه الدول تخفيض حجم الانفاق على التعليم العالي في موازنتها المالية، والى فرض رسوم وضرائب بصورة او باخرى على الراغبين بالألتحاق بالجامعات ومؤسسات التعليم العالي المختلفة.
وحيث ان التعليم ينبغي ان يكون حقا" مشاعا" لجميع طالبيه وليس حكرا" على الفئات الميسورة، ولاجل تحقيق تنمية بشرية واجتماعية شاملة ومستدامة. لذا أصبح لزاما" على جميع المعنيين بشؤون التربية والتعليم ايجاد نظم تربوية وتعليمية راقية تتسم بالجودة والمرونة والقدرة على مواكبة حركة تطور العلوم والتقانة والمعارف الانسانية المختلفة واستشراف آفاقها المستقبلية من جهة، وان تكون متاحة لجميع فئات المجتمع بهذا القدر او ذاك بتكلفة إقتصادية مناسبة من جهة أخرى.
ومن هنا شهد التعليم الجامعي في الكثير من الدول تغييرات جوهرية في بنيته الاساسية وتوجهاته العامة بالافادة من معطيات تقانات المعلومات والإتصالات المختلفة لمواجهة الطلب المتزايد على التعليم من قبل قطاعات واسعة من المجتمع، في الوقت الذي تواجه فيه الجامعات والمؤسسات التعليمية مشكلات حادة في مصادر تمويلها الآخذة بالانخفاض عاما" بعد آخر.
لمواجهة هكذا أوضاع اعتمدت هذه الدول انماطا" تعليمية جديدة اثبتت كفاءة وجدارة عالية ليس في مجال العلوم الانسانية فحسب بل وفي العلوم التطبيقية ايضا".
ومن هذه الانماط:
¨التعليم المفتوح
¨التعليم عن بعد،
¨التعليم عبر شبكات المعلومات،
¨التعليم المسند بالحاسوب،
¨التعليم الإفتراضي.
عقدت في مدينة دبي مؤخرا القمة العالمية للحكومات بحضور نحو (4000) شخصية إقليمية ودولية من (139) دولة، من القيادات وصناع القرار ورجال الأعمال والمفكرين والخبراء، لإستشراف مستقبل الدول وآثار التغيرات المتسارعة التي يشهدها عالمنا المعاصر وكيفية التعامل معها.
أن ما يعنينا بهذه الدراسة هو موضوع التغيرات المتسارعة التي يشهدها قطاع التعليم العالي الذي تطرقت إليه هذه القمة ضمن موضوعات أخرى كثيرة.
تحدث الدكتور بيتر ديامانديس المؤسس والرئيس التنفيذي لمؤسسة "إكس برايز" في إحدى جلسات القمة الحكومية العالمية، إن مستقبل الجامعات في ظل التطور المتسارع للتقنيات الحديثة والابتكارات المتواصلة مفتوح على آفاق جديدة، ويواجه تحديات متسارعة. وأضاف أن الروبوتات دخلت كافة مجالات حياتنا اليومية، حتى في الاختصاصات المعقدة جداً، مثل صناعة السيارات، والعمليات الجراحية، والسيارات ذاتية القيادة، وحتى في مجال التعليم هناك توقعات بأن تأخذ الروبوتات أدوار المعلمين في المستقبل.
وأشار ديامانديس إلى أن حوالي ( 40% إلى 50%) من فرص العمل المتوفرة التي يعمل بها البشر اليوم سوف تُستبدل بالروبوتات قريباً. وقال: إن المسار المتوقع لجامعات المستقبل سيكون مرتكزاً على خمسة محاور هي:
1.توفير تعليم مخصص يناسب احتياجات وقدرات كل طالب.
2.التحول نحو التعليم المجاني الذي توفره العديد من الجهات حالياً.
3.توفير التعليم طوال حياة الإنسان حسب الطلب بحيث يتناسب مع ظروف المتعلم.
4. التوجه بشكل كامل نحو استخدام تقنيات الواقع الافتراضي والواقع المعزز.
5. إلهام الأطفال والطلبة لتحقيق أحلامهم مهما بلغت والمساهمة في حل أعقد التحديات المعاصرة.
وتطرق ديامانديس إلى تقنيات الواقع الافتراضي، وذكر أنه يتم استثمار أكثر من خمسة مليارات دولار من قبل شركات ضخمة مثل "جوجل" و"فيسبوك" لتطوير هذه التقنيات التي من شأنها أن توفر طرقاً جديدة للعب والتعليم والتفكير واستكشاف أماكن لم نكن لنحلم بها، وأكد أن هذه التقنيات سوف تغير الطريقة التي يرى بها الإنسان العالم وستغير كذلك العالم الذي نراه.
يمثل التعليم المفتوح او التعليم عن بعد نمطا" تعليميا"اقتصاديا" فاعلا" في زيادة فرص التعليم وتنوعه، ذلك انه يستهدف قطاعات واسعة من المجتمع لاكسابهم مهارات ومعارف عديدة بتكلفة قليلة،كونه يستثمر الموارد والامكانات المتوفرة في الجامعات والمؤسسات التعليمية ومراكز التدريب المختلفة بصورة ممتازة.
تزداد كفاءة نظام التعليم عن بعد كلما تطورت وسائل الاتصالات الحديثة وتحسنت فرص الاستفادة من الاقمار الصناعية وانخفضت تكلفة استخدامها. كما يوفر هذا النمط من التعليم فرصا" ممتازة لتأهيل وتدريب جميع العاملين في المؤسسات المختلفة الانتاجية او الخدمية لرفع قدراتهم العلمية واطلاعهم على آخر مستجدات العلوم والتقانة الحديثة في تخصصاتهم، او ربما اعادة تأهيلهم في تخصصات جديدة طبقا" لمتطلبات سوق العمل التي تشهد تغييرات مستمرة باحتياجاتها بالنسبة لهذا التخصص او ذاك.
يعد التعليم عن بعد بحق ثورة في التعليم الجامعي المعاصر، بجعله تعليما" جماهيريا" وعدم أقتصاره على صفوة أو نخبة محدودة من الناس كما كان الحال سائدا" لقرون خلت في بلدان العالم المختلفة، ذلك أنه يتيح العلم للجميع دون قيود، وأرساء قواعد رصينة لديمقراطية التعليم ونشر وتعميق الوعي العلمي بين النـاس، ألا أن البعض يرى عدم رصانة هذا النمط من التعليم بدعوى أن الجامعة المفتوحة ليس بمقدورها ضبط العملية التعليمية وأساليبها في التقويم والقياس كما هو عليه الحال في نظم التعليم التقليدية، وكأنه حكر على هذه النظم، وليس نشاطا" أنسانيا" تحدده أرادة الأنسان نفسه في أية منظومة عمل أنسانية كانت أم تعليمية أوسواها.
وخلاصة القول أن جامعات المستقبل سوف تكون جامعات بلا أسوار أو قيود، بمعنى أن الطالب يمكنه أن يتعلم وهو في بيته أو مقر عمله أو أي مكان آخر، دون أن يكون ملزما بالحضور والإنصراف في مكان محدد أو في وقت محدد وبذلك تنتفي الحاجة لمباني جامعية ضخمة، كما يمكنه التعلم ذاتيا عبر شبكة المعلومات حسب قدراته وحاجاته المتجددة مدى الحياة، والتفاعل مع الآخرين. وتختلف مهام المعنيين بهذا النمط من التعليم كليا عن مهام المعلمين والمحاضرين والأساتذة العاملين في الجامعات التقليدية حيث ينحصر دورهم بإعداد المواد التعليمية لطالبيها وتحديثها.