سلمان النقاش / ادليد
قد يكون من المفيد هنا قبل ان نبدأ حديثنا عن مفاهيم الوطن الشعب، الفرد، ان نستعرض بما هو ضروري شيئا عن مفهوم الدولة لما له من علاقة بمسألة التطور البشري، ومحاولة لتتبع علاقة تكوين الجماعات البشرية بتنازلها او اضطرارها على نحو ادق للتنازل عن الفردية لضمان البقاء ودرء الالم او الخطر، فالانسان ما هو الا كائن في سلم تطور المادة الحية الذي تخلى عن الاستهلاك المباشر لمتطلبات وجوده وديمومة بقاءه سواء اكان بقاءا حسيا او حفظا لنوعه كما هي حال الكائنات الاخرى، ما ادى حتما الى فقدانه الكثير من خواص جسده او لنقل التحرر منها تلك التي تجعله ملتصقا ببيئة بعينها، لتكون الارض كل الارض مكانا ممكنا للعيش باستخدامه لاعظم عضو في منظومة جسده (العقل) ذلك الجزء الذي ما كان بهذه الاهمية والقدرة على كشف الطبيعة وتتبع علل حركاتها وعلاقاتها به الا من خلال تطور عمليات الاتصال بنوعه، حتى غدا هذا العقل يمثل كل الانسان اينما وجد.
وبناءا على ما تقدم ، فان التخلي عن الصراع المباشر مع الطبيعة، ومحاولة مصالحتها، بالتعرف على مكنوناتها وخباياها، ومن خلال الاشتراك الذهني والعقلي الذي وفره الاتصال سواء في المكان او الزمان عمقا ومستقبلا ، وتثبيت المنجز العقلي على هيئة ثقافات ومهارات تترسخ في الافراد والجماعات ، لتبث في كافة الاتجاهات اتفاقات سلوكية تحولت بظروف مصاحبة الى عادات ثم اعراف ثم لاحقا قوانين جعلت من الانسان كائنا يستحيل عليه العيش دون الاخر، بعبارة اخرى التي نحن بصدد التركيز عليها في هذا المقال "الانتماء".
فمن عصر الإشارات والعلامات الى عصر التخاطب واللغة ثم عصر الكتابة الى عصر الطباعة والاتصال الجماهيري الى عصر المعلوماتية والاقمار الصناعية والانترنت.
هذه المراحل تمثل تاريخيا العلاقة المنتجة او النشطة بين الاذهان البشرية لاستكمال منظومات يتم الاتفاق عليها كقواعد تشمل جماعة بعينها ضمن الزمان والمكان ، ومع تطور صيغ الاتصال وانتقالها مرحليا ، سوف تكون الارادة الجمعية الانسانية المتجمعة في مركز فارضة لنسقها المتخم بأخر المنجزات الحضارية ما يحيل هذا المركز الى قطب جاذب للابتكارات والخلق الذهني، اذ يحكي لنا التاريخ عن هذه المراكز ونموها وتعملقها ثم اضمحلالها في المكان لتنتقل الى اماكن اخرى عبر محطات التاريخ ، فمن بابل الى فارس الى مصر والصين والهند واليونان وروما وبغداد والاستانة الى لندن وباريس ثم واشنطون، على ان المراحل التاريخية تختزل المكان وتجعل او تحاول ان تجعل العالم الانساني موحدا باستخدامها أدوات الاتصال بأخر تقنياتها محملة بقيمها الاجتماعية وسعيها هنا لتوحيد الثقافة الانسانية سلوكيا وذوقيا وحتى لغويا وبالتالي متقبلة اخر امكانيات الاخضاع لسلطة الانسان السوبر او العقل الجمعي التاريخي للانسان.
ومع هذه الانتقالات تستفيد القوة المسيطرة الاخيرة من الأنماط التاريخية لثقافة الشعوب فبها ومن خلالها تتمكن من فرض سطوتها كضرورة حتمية للتمايز وإدامة الصراع والإخضاع، ومن ثم استخدام القوة كحالة واقعية لابد منها لإزالة معوقات البناء العالمي لمنظومة التكيف العقلي باخر تجلياته المتمظهرة في أداة القوة الفارضة ونتاجها المادي وعلاقاتها وقوانينها المتمسكة بها حد التشبث والتوحد ، وما يلفت هنا مقدار القسوة التي تبديها هذه القوة ازاء الشعوب المختلفة عنها ثقافيا (استعباد شعوب افريقيا لبناء المستعمرات واحتلال اراضيها وامتصاص كنوزها ، الحرب العالمية الاولى واحتلال العالم المتخلف وتقسيم الاراضي بين الحلفاء والحرب العالمية الثانية، واستخدام تكنلوجيا الإبادة الشاملة في اليابان ).
واكثر مقدار للقسوة تمارسه هذه القوة اليوم باستغلالها للثقافة المحلية نفسها كاداة لتركيع الشعوب والخضوع الى القوانين الدولية التي تعكس مصالح الانسان المتحضر ونتاجه المادي ، ودونكم ما يحدث اليوم في دول العالم المتخلف من تأجيج للصراع الطائفي والديني وجعله سمة ملاصقة للثقافة والسلوك الجمعي لهذه الشعوب وكأنه حالة واقعة لتتحول هذه الثقافة نفسها الى اكبر مستهلك لمنتوجات ادوات القتل في مصانع الانسان المتحضر، في حين ان البعد الانساني الناتج عن تحول قوانينها الى سلوكيات في مراكزها الجغرافية يظهرها وكانها ملائكة المجد الانساني في الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة وما يرافق كل هذا من روعة الاختزال والجمال والإبداع في الترفيه والتسري وضمان المستقبل ، لان الانسان هو الغاية والوسيلة في نفس الوقت ولان الطبيعة لم تعد عصية على الذهن البشري ففي اخر مراحل العلاقة بينهما انكشفت أفاقها واقتربت على ان تكون هي ذاتها اداة من ادوات الصراع من اجل البقاء، وها هو الإنسان اليوم يبحث جادا عن كوكب اخر يلائم بقاءه بعد ان ادرك فناء المنظومة الشمسية التي يعيش ضمن فلكها.
لكن الانسان لم يصل الى هذا لمجرد الرغبة او التمني ، بل ان الامر تطلب قرونا من الزمن وهو يكونمنظومته العقلية التي تجعل من وجوده سيدا بلا منازع على الكون ربما .
الدولة منجز عقلي تاريخي
هنا لابد لنا ان نتوقف عند مفهوم الدولة باعتبارها " الوجود بالفعل للفكرة الاخلاقية كما يؤكد هيغل فيلسوف المثالية الالمانية (1770-1831) ويشدد على انها الروح الاخلاقية والارادة الجوهرية التي تتجلى وتظهر وتعرف وتفكر في ذاتها، وهي تمثل روح الجماعة والارادة العامة العليا، والفرد هو عضو في تلك الارادة "
وبالتركيز على هذه المقولة لهيغل ، نراه يقترب تماما من التسليم بان لا حياة للانسان دون العيش مع الاخر، او بعبارة اخرى ان التجمع الانساني هو الانسان بهذا المعنى او ذاك ، لا بل انه لا يقبل بمفهوم الحرية الا من خلال نظام الدولة اي النظام المسلم به اجتماعيا، اذ يقول " ان الحرية هي من تجليات الدولة ونتيجة من نتائجها الايجابية " وهو يرى ان مفهوم الحرية خارج الدولة ضرب من الوهم والخيال.
وهو بهذا يتعمد اعتبار السلطة (الدولة) شرط من شروط البقاء الانساني وبها وحدها يحقق الانسان انسانيته المميزة وبذلك فانه يخالف ما جاء به بعض المفكرين الذين اعتبروا الدولة شرا لابد منه مثل ميكافيللي وهوبز وماركس، وفي اشد مثاليته تعريفا للدولة يقول هيغل "ان هناك حقيقة عقلية مستقلة عن المصالح المختلفة والمتنوعة في المجتمع، وهذه الحقيقة تتحقق فقط بوجود الدولة" بمعنى ان الدولة هي العقل الجامع للتاريخ لضمان المستقبل .
وهنا تحديدا لابد لنا من اشراك الفيلسوف الالماني الاخر ماركس (1818-1883) فيلسوف المادية باخر تجلياتها المعروفة الان بالماركسية الذي قسم مراحل نشاة المجتمعات البشرية (المادية التاريخية) تبعا لعلاقتها بالانتاج المادي فهو يلتقي مع هيغل في موضوعة الحركة المستمرة وقبوله بالتحليل التاريخي للمادية الديالكتيكية او الجدلية وهو اذ يخضع تاريخ التطور الاجتماعي الى هذه الرؤية لكنه ينفصل عنه حين يصر هيغل على مثاليته في ان يجعل العقل او الفكر هو المصدر او المقرر النهائي في عملية الانتقال من مرحلة الى اخرى، ويقرر ماركس ان العامل الاساسي في تحديد طابع المرحلة وسماتها الثقافية والسياسية انما مرده الى المنتج المباشر اذا يقول " وكيفما يكون اسلوب انتاج مجتمع ما، هكذا يكون، بصورة اساسية، المجتمع نفسه، آراؤه ونظرياته، وجهات نظره السياسية ومؤسساته السياسية.
وعليه، فان تاريخ التطور الاجتماعي هو في نفس الوقت تاريخ منتجي القيم المادية أنفسهم ، تاريخ الجماهير الكادحة الذين هم القوة الرئيسة في عملية الانتاج والذين ينجزون انتاج القيم المادية الضرورية لوجود المجتمع.
ولهذا فاذا اريد ان يكون علم التاريخ علما حقيقيا، فلا يمكن بعد الان اختزال تاريخ التطور الاجتماعي إلى إعمال الملوك والجنرالات ، إلى إعمال "الفاتحين" و"مخضعي" الدول ، بل يجب فوق كل شيء تكريس نفسه إلى تاريخ منتجي القيم المادية، تاريخ الجماهير الكادحة هذه، تاريخ الشعوب" ولعلنا هنا نذكر مراحل التطور التاريخي على عجالة ونتوقف قليلا عند المرحلة الثانية لما لها من اهمية:
المرحلة البدائية:
ثم الرق والعبودية ثم مرحلة الاقطاع والمرحلة الراسمالية والمرحلة الاشتراكية بحسب الماركسية طبعا:
مرحلة الرق والعبودية:
وهي مرحلة بداية نشوء السلطة، او اخضاع الانسان للانسان، ويمكن عدها بداية انفصال الذهن عن الجسد او ما يعرف بالروح ، وبداية اشتغال المنظومة العقلية للسيطرة على القدرات الجسدية للانسان واستثمارها للتراكم المادي، في هذه المرحلة بالذات يتحول التجريد الذهني الى فن او دين ثم الى سلطة .
وهنا نسال الفيلسوفين الكبيرين سؤالا ملحا - الان وبعد ان استكملت مراحل التطور الاجتماعي حلقاتها واتضحت بجلاء صحة السطوة الثقافية والاقتصادية والسياسية للانسان المتحضر وقيمه:
ماذا عن الإنسان المتخلف عن ثقافة منتجي القيم المادية المباشرين؟ وهؤلاء تراهم من يكونون؟
طبعا ليس من المعقول ان تكون الطبقة العاملة بمفهومها الذي طرحه ماركس في القرن التاسع عشر "البروليتاريا" ، فلقد اصبحت تكنلوجيا الانتاج المادي هي بحسابات ما تمثل المنتج المباشر للقيم المادية، وسنجيب نحن كمحاولة متواضعة لتوضيح هذا اللبس ونقول ان هذه التكنلوجيا هي نتاج التراكم المعرفي والعقلي للمنتجين المباشرين وان تداخلت المصالح المطورة لها واقصد هنا مصالح مراكز القوى المستغلة لنتاج هؤلاء المنتجين، وبالتالي مازال المنتج المباشر هو صانع التاريخ البشري وان ابتعد قليلا عن استخدام قوته الجسدية والعضلية المباشرة ،فوجوده لا يتحدد فيزيائيا او تجسيدا مكانيا، انما وجود تاريخي يعبر عنه بالتراكم المعرفي والعلمي المختزن في الالة التكنلوجية بما فيها النظم المعلوماتية ونظم الاتصال ، فحتى الانتاج الزراعي اليوم بات يخضع هو الاخر الى لكل المنجز التكنلوجي لا بل ان الانتاج الحيواني خضع هو الاخر الى كل صنوف الاتمتة الانتاجية التي وفرتها اكتشافات الهندسة الوراثية وانا ادعوى القاريء الكريم الى الاطلاع على كتاب الدكتور فؤاد مرسي العالم الاقتصادي المصري (1925-1990) في كتابه الصادر عن عالم المعرفة عام 1990 " الراسمالية تجدد نفسها" نقتبس منه التالي:
" ان تكنولوجيا الهندسة الوراثية القائمة على علم احياء الخلية في النبات والحيوان صارت تعني الكثير للانسان ، انها تعني ثورة تكنولوجية في الزراعة ، فمن خلال مجالاتها الواعدة ، تنمية بذور الحاصلات الزراعية ذات صفات مرغوب فيها ، كالإنتاجية العليا المقاومة الفعالة للامراض والافات وتحمل العطش وملوحة التربة، وفي هذا المجال يمكن ان نتطلع الى طفرة في إنتاج الغذاء وخصوصا القمح ، وفي مجال الغابات اصبح من الممكن تطوير اصناف جديدة من الاشجار ذات قدرة اسرع على النمو بالاضافة الى مقاومتها للامراض وغيرها بنوعية افضل من الالياف، واصبح من المطروح التوصل الى زراعة دون اسمدة، والتعاون بين الزرع والبكتريا لاعطاء غلة اكبر ، ويقدر العلماء انه في عام 2000 "كتب هذا نهاية الثمانينيات" ينبغي توفير الطعام لحوالي ستة مليارات نفس ويجب ان يتزايد انتاج الغذاء في المتوسط بنسبة لا تقل عن 2.9 % وهذا المعدل سوف يتم تجاوزه " انتهى الاقتباس.
تابعونا في الاسبوع القادم في الجزء الثاني...