علي شبيب ورد - العراق
مع أن الكتابة لا تتمكن من الاجابة عن كل الأسئلة، وربما حتى عن بعضها، أو عن بعض أهمها، غير أنها حتما تجيب عن أحد الأسئلة. وهذه الاجابة هي ما يحرض الكتاب على التواصل، ولعلها مصدر تواصلهم على هذا المنحى الابداعي المرير المحفوف على الدوام بالخسائر ودواعي الفاقة. غير أنه على المستوى الانساني يمنحهم غنى ورفعة وبهاء، كونه يضفي على وجودهم الحياتي جدوى ويكسب عيشهم قيمة تميزهم عن الآخرين. وكأنّي أرى بعضهم يقول: أنا أكتب إذاً أنا موجود. فهم لا يرضيهم التفكير فقط. بوصفه- أي التفكير – لا يميّزهم عن آخرين يفكرون أيضا، بيد أنهم لا يفكرون بعمق. هذا العمق الذي يشحذ المشاعر والأحاسيس ويؤجج لهيبها لتعيد قراءة العالم، وتبتكر له صورا جديدة وشتى عبر المخيلة التي تنتج عوالم الأحلام. الكتابة وحدها ترضي هؤلاء، لأنها تكسب وجودهم معنى آخر مبرر لديهم على الأقل. هذا الهاجس الكبير هو ما يدفع المبدعين على تدوين رؤاهم وأحلامهم على البياض.
البياض الذي سيكون شاهدا حقيقيا على مراحل قراءتهم لهذا العالم، وهو ما يعينهم على تطوير ملكاتهم وأدواتهم الإبداعية لتحقيق وجودهم الحلمي المنشود. أي الوجود الآخر المفترض كمعادل موضوعي تبريري لوجودهم المعتم الماثل. ولعل الشعر من أكثر الأجناس الكتابية عرضة للخوض من قبل الإنسان ومنذ الصبا. حتى أنك لو أجريت مسحا استبيانيا حول هذا الأمر لوجدت أن أغلب الناس، مارسوا في صباهم كتابة الشعر. الشعر إذا أقرب الأجناس الأدبية إلى المشاعر الإنسانية، وأكثرها تعبيرا عن جوهر الإنسان النبيل والنقي. ولعل هذا هو أكثر وأهم مبررات وجود هذا الحشد من الشعراء في المجتمع. الأمر الذي أفضى إلى سعي الجادين منهم إلى ابتكار أساليب جديدة محاولة منهم للتفرد عن حشود الشعراء.
والذي أدى بالنتيجة إلى تحول الشعر إلى ميدان حافل بالمحاولات الكتابية المتسارعة على مستوى التجريب. وكذلك إلى عدم خضوعه بل وتمرده على الأشكال والأساليب الكتابية السابقة على الدوام. إن حركة التمرد الشعري. وجنون التجريب الكتابي فيه أوقعت النقد في إشكالية التناول القرائي. ومع الزمن راح الشعراء يتسارعون في العدو، والنقاد وراءهم يلهثون. حتى تحول النقد المنهجي ذو المساطر والمحدّدات ضربا من الجنون. وعلى ما تقدم أجدني اليوم لا أقوى على مقارنة شاعر اليوم بمن سبقه، ولا حتى بمن جايله. لأن في هذا نوع من العسف وانحراف عن الصواب، إلاّ فيما يتعلّق بما أسميه(التناص السلبي) الذي يتضمن السرقة والتقليد الأعمى لتجارب الغير. نحن الآن أمام نصوص كتاب (غواية الساعات) الصادرة عن دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر والتوزيع/ بغداد2011. التي يحاول منتجها الشاعر (عدنان الفضلي) الخوض في منطقة تجريب يروم عبرها تشكيل صوته الشعري الخاص به. ربما يختلف معي آخرون في قراءة هذه النصوص الماثلة أمامي، وهذا أمر طبيعي في اختلاف القراءات. غير أني سأحاول قراءتها عبر إجراء انتقائي لعموم نصوص الكتاب، ولا يخضع لمحددات مسبقة أو قوالب جاهزة أو انحياز لتجارب أخر. في النص الأول (عائلة الوطن الأخير) يتنقل الشاعر عبر الذاكرة، محاولا تبيان سيرة عائلته منذ جده وجدته وحتى أمه وأبيه. العائلة هنا هي الوطن الذي يشكل ذاكرة الشاعر، حيث سفر النبل والطيبة والحب الغامر والتطلعات الانسانية للانسان العراقي عبر الازمنة. كل الشخوص الواردين في النص يحملون سمات متشابهة في نقائها وصدقها واخلاصها لوطنها الذي راح ينزف دما بفعل الكارثة الدائمة المثول.
(جدتي..
عينٌ.. تستبدل أخطاء الرؤية
وترتكب نظراتٍ واطئة
حتى لا تتعثر بلفظ الجلالة
وحين تستقيم..
تطعم الغافلين آخر الشتائم).
وفي مواجهتنا لبوابة نص(سبعة أحزان عجاف) نواجه ثيمتي الألم واليباب وفقدان الأمل ببزوغ الضوء آخر النفق. البوابة بوصفها قناع جمالي يخفي ما بعده، ينبهنا إلى متن يشير إلى محنة الشاعر بوجوده المحبط حيث لا شيء يلوح في الأفق عن انفراج قريب لمعاناته من الوضع الكارثي لوطنه. ولعلنا نجد في المتن -ذي الأحزان السبعة- ما يعزز ذلك، حيث وجود مسوّرٌ بما يوحي بالقنوط والخذلان واليأس الذي يشمل الحيوات والأمكنة معا. الشاعر يخفي جراحا عميقة لا يظهرها جسد النص، بل تتوهج نيرانها عبر بنياته الأيقونية المبثوثة هنا وهناك. والتي تعلن قدرته على ابتعاده عن النواح الممل في الكتابات الصوتية، وتحديدا المنبرية، والحاملة لأسرار موتها خارج المنبر.
(القرى المسافرة
اشتاقت لرائحة القصب
ومن سماء الوسط
تساقط حزن الزقورات..
على مدن الدخان)
ويفضح فداحة الكارثة التي حلت في الوطن الذي تعطل عن مواصلة العوم صوب مناطق الضوء الإنساني. الوطن -الذي خربه الغرباء- عاطل عن مداعبة رموش أحلام الفقراء وفاقد لقدرته على إنعاش قلوب أبنائه، بما يعيد لهم وشائج القربى والألفة مع الأماني الجميلة التي تغمر قلوب أقرانهم من البشر في أوطان أخرى. وفي دوامة فوضى الوطن ضاعت أبسط حقوق الإنسان في حياة معافاة وسليمة خالية من عراقيل التطلع للإشراق واستقبال ما يذكي مجامر الخلق والإبداع وما يحرض براعم الخير والمحبة التي طالها الذبول.
(الغرباء .. مضغوااسمَ وطني..
مدافا بشتات الرماد
بعد أن نصبوا..
مصائد للأفكار الخضر
لماذا.. القدح المعلّى..
يرفعه الساقطة انباؤهم)
من هنا فان نص (ربيع أجّلته النوافذ) يحيلنا إلى التأخير المتعمد للربيع الذي يمثل الولادة الجديدة والخصب والنماء في الراهن العراقي. من خلال براكين الدمار والحرائق المنتجة للدخان والرماد، بفعل هيمنة سدنة الوهم والخرافة المشيدين لعالمٍ قائمٍ على الانقياد الأعمى للهيكل الهرمي الذي يتربع على رأسه الخواء. والنص يدعو للتمرد على السائد والمألوف واليسير، ومواصلة الظن وبث الشكوك وبعثرة الأسئلة في مسارب البحث والتقصّي عن الجديد الناقض لما قبله. يأتي هذا عبر خطاب جمالي موحٍ وأخّاذ، الى صاحبه أبي غيلان، وبمشهدية فاتنة في مواربتها ومشاكستها للمحظورات والخطوط الحمر في الذاكرة الجمعية.
(أبا غيلان
لماذا الآن..
نطعم ابناءنا التشبث بالصمت؟
لماذا.. أقداح السومريين..
تقرع على مسامع الله
ولايزورها النادل..!؟)
ونراه يجنح لعواطفه المتأجّجة، حين يشم عطر حبيبته في نص(لا أنثى على حبل غسيلي) كاشفا لنا عن تحرّقه ونشوته بطقس الوصال بينهما.
مفترضا عمل كل ما من شأنه دحض السكون والنأي، وتحريض الجسد على ولوج عوالم الحراك العامرة بفراديس الحلم والأماني التي ترضي ضمأ الرغبة.
(وبعد مجيء سلالات عطرك
قذفت بكل نونات النسوة بعيدا
والغيت تجاعيد الجدران من ناظري
حتى أحتفظ بليلك...
ينساب على اطراف نهاري)
ويغالي في تماديه الملتهب على ضفاف الأماني، وفي سرد مراميه لخرق العرف والسائد. وذلك عبر رسم مشهد متخيل يتجاوز ضراوة الواقع القائم على الردع والمنع ووأد المحبات. مشهد يخرج فيه من جسده المتشوّق للذّة الاكتواء بنار اللقاء الساحر، نار الوجد الصادق، بعيدا عن عالم الحواجز والعلاقات المؤسّسة على ما هو غير إنساني نبيل.
(في الداخل طيفك
وعلى زاوية الباب قميصين
قدّهما الشوقُ..
حتى تمزّق اللذان كانا بداخلهما)
وفي مرثيته لصديقه الذي وصفه بشهيد الفقر الشاعر الراحل(محمد درويش علي) والمعنونة(الدرويش يكره اللون الازرق) ينزف ألماً لغيابه الذي أثار حنق وتساؤلات الوسط الثقافي العراقي حينها. والذي في ميتته المدهشة هذه يفجر أسئلة كبرى عن مغزى الوجود الإنساني، وتوصله إلى حالة من الانهيار الذهني دفعته إلى التغلب على آلام الجسد عبر الامتثال لقسوة الموت. وإلاّ كيف تمكن من الوصول إلى هكذا قرار صعب وجنوني ومرعب؟! أي انطفاءٍ للمشاعر والأحاسيس أوصله لهذا الحسم الجريء لموقفه إزاء الحياة؟! وهل في مقدورنا أن نفكر نيابة عن المستسلم للموت، وهو يضع حداً لوجوده وبهذا الفعل الهائل؟! متوالية أسئلة لا تنتهي في مواجهة هذا التطرف في الانتصار على آلام الجسد الانساني وهو يقاوم مصير الزوال مختاراً لا مكرها عليه.
(أيها المتشبث بوطنٍ خذلك مرارا
أيها المتفق معنا..
على أن عيون الحكومات..
عسس وتنابلة وجواسيس
لمْ تَرَكَ تستجدي الهواء
عبر كابسةٍ يدوية)
أما نص(تلعق سرّةَ الورق) فقد نجح في استدراجي لتفكيك بناه العلامية والغور صوب بناه الثيمية. وذلك لكونه وفر لي فرصة ثمينة في إقامة علاقة اتصال سليمة مع منظومة البث، بدءاً بالعنوان وانتهاءً بالمتن. فالعنوان بتركيبته اللغوية هذه أحدث التشفير العلامي القادر على تحريض التلقي لإيجاد منطقة خصبة للانزياح الدلالي. والتي من خلالها يتم إنتاج نصوص ما بعد القراءة. وهذا ينسحب على المتن الذي تمكن منذ مفتتحه في حث التلقي على تلمس بؤرة بث دلالي لانتاج التأويل القرائي. وهذا يشي الى أن النص برمته كان ذا كفاءة عالية في مهمته الادائية وتشفيره المؤثر والخصب خلال عملية الاتصال والتلقي.
(الصيف ساخنٌ..
وأنثاي تلعق سرّةَ الورق
تتلمس بعكاز سخونتها..
ذات الجدار الاخضر
هناك.. حيث تسند كفيها وتتقوّس
باتظار المزامير السومرية)
بعد هذا الفحص العجول للنصوص، أجدني ملزما الى الاعتراف بالجهد المعرفي والجمالي المبذول من لدن منتجها، لمنحها طاقة بث اتصالي مع المتلقي.
ومن هنا فهو يكشف لنا عن انصرافه الاكيد لتخصيب منجزه بما هو جمالي دون غيره، على طريق انجاز مشروع كتابي يحقّق له تفرداً، على كل مستويات أبنية النص. وهذا لن يتم دون الانصراف التام لعزلة المشغل الكتابي والتي لا يقاوم ضراوتها، إلاّ المخلصون للهم الإبداعي الثقيل الوطأة. وأجدني واثقا من انني سوف ألتقيه في نصوص قادمة أكثر اغواءً لي على التعرض لتجربته الكتابية ثانية وبشكل أوسع. بغية التعمق المتامل في مشغله الكتابي، والوقوف طويلا عند كل ما يعيننا على تلمّس أهم السمات السياقية لتجربته الشعرية. سيما وانه يمتلك حرصاً ومقومات اشتغال تؤهله لهذا، وذلك على مستوى التجربة الحياتية والخزين المعرفي، الذي يخصب المنجز الابداعي، ويكسبه غنى جماليا وفكريا على حدٍ سواء. وما علينا سوى الاشارة الى أنه تمكن من العمل على تقصّي مواطن اشتغال وابتكار جديدة لتشكيل العنوان ومن ثم المتن الكتابي، وأنه حث الخطى دون تهيّب من نتائج المغامرة على هذا الطريق الوعر. فالكتابة الجادة –كما نراها نحن- هي بحث متواصل في الأقاصي، ومغامرة محفوفة بالمخاطر. وان أكثر ما يواجه النص النثري الآن من مخاطر، هو التنضيد المفتعل للتراكيب اللغوية، المفضي إلى الغموض غير المنتح للتشفير الدلالي المتوهج. وأخيرا علينا التنويه الى قدرة الشاعر(عدنان الفضلي) في هذه النصوص وسواها، على تقديم منظومة بث تتباين في مستويات خصوبة علاقتها مع التلقي. كما نشيد بحرصه ودربته في انتاج نص قادر على كسب ود التلقي، كيما يواصل قراءته دون ملل أو تذمر، ومن ثم تاويله.
ومرد هذا يأتي من ثقتنا الأكيدة في توفّره على مخيلة تنم عن قدرة بينة على تجاوز ما يبعد نصه عن نفور المتلقي، لاكتنازه على أقنعة جمالية تتسم بالمواربة الاتصالية. وحسن الظن هذا يقودنا ويقوده إلى اليقين بقدرته على تطوير مشرعه الكتابي وصولا بالنص إلى متن يتوفر على طاقة بث عالية الكفاءة في معادلة الاتصال والتلقي.
ولنا في قول النّفّري الذي ينص على أن (حسن الظن طريق من طرق اليقين) خير عظة وعبرة في ما ذهبنا اليه أعلاه. ومن المفيد القول بأن الشاعر (عدنان الفضلي) تمكن من الاجابة عن الاسئلة التي اثارها في معرض تجربته الماثلة امامنا عبر نصوصه التي ضمها كتابه الأول(غواية الساعات) والتي تمرد فيها بدراية قاريء وفطنة مؤول على الثوابت والمقاييس، ونكش الأسلاك الشائكة التي بعثرتها تراكمات الأزمنة.