جمال علي الحلاق/ سيدني
لم يكن صباح يوم الإثنين - الثلاثين من تشرين الأوّل - صباحاً عاديا ، الطلبة والمدرسون في ثانوية كبرماتا Cabramatta High School يتحرّكون وكأنّهم خليّة نحل ، يملأون الفضاء بألوان وأفكار تتداخل بانسجام تام ، إنّه يوم السلام: The Peace Day ، قوافل الضيوف تتوافد الى المدرسة من إتّجاهات متعدّدة، البعض قطع أربعة عشر ألف كيلومتر ليصل، وبعض جاء من أطراف ولاية نيو ساوث ويلز، إضافة الى وجوه محليّة من جاليات متعدّدة، وكان للإعلام حضور فاعل في المتابعة والتغطية، فقد حضرت قناة ( ABC ) ، ومن الصحف حضرت صحيفة (Champion ) وصحيفة (Fairfield Advance ) ، ومن بين الصحف العربية إنفردت صحيفة ( بانوراما ) ممثّلة برئيسة تحريرها ( السيدة وداد فرحان ).
***
رأيت سبعة وأربعين طالبة وطالبا يقفون على جانبي الممرّ المؤدي الى القاعة الرئيسية، كلّ واحد منهم يرتدي زيّاً لبلد ما، متوشّحاً بكلمة (سلام) بلغة الزيّ الذي يرتديه، يستقبلون بها الضيوف القادمين.
***
بعض الطلبة يشتركون في حمل التنين الآسيوي على رؤوس العصي ، يركضون به ، يحرّكون العصيَّ بين رفع وخفض ، فيبدو جسد التنّين وكأنّه أمواج بحر ، ولأنّ الشمس كانت ساطعة فإنّ مشهد ظلّ تموّج التنّين على الجدران كان مذهلا .
***
الى جانب ذلك كان عددٌ آخر من الطلبة أيضا يشتركون في ارتداء زيّ النمور الآسيوية ، نمر أحمر، نمر أصفر ونمر أبيض، كانت النمور مأخوذة ترقص على ضرب الطبول.
***
رأيتُ عدداً من الطلبة يرتدون زيّاً أسود، سألتُ طالبة عراقية - كانت معهم - عن سبب السواد، قالت: " سنطلق سراح طيور السلام البيضاء ". وبالفعل كان مشهداً هائلاً عندما بدأت المدرسة كلّها تعدّ من العشرة وبشكل تنازلي ليبدأ إطلاق سراح طيور السلام، وفي اللحظة ذاتها، وبالقرب من الأقفاص التي تمّ فتح أبوابها، رأيتُ طالبتين ترتديان زيّين مختلفين، وقد بدأتا بالضرب على ناقوس نحاسي برّاق منصوب في (حديقة السلام ) داخل المدرسة. كان إنفعال الطلبة لا يقلُّ عن إنفعال الطيور وهي تستعيد حرّيتها.
***
في البدء تجمّع الضيوف في القاعة الرئيسية للمدرسة، ثمّ إقتحمت النمور الملوّنة القاعة برفقة ضرب الطبول، بعدها وقف الجميع ، طلبة وضيوفاً وأساتذة حين غنّت الطالبة (نادين) - العراقية - النشيد الوطني الأسترالي على أنغام القانون والكمان للطالبتين السوريّتين ( مغري وسيرلي ) ، ثمّ تسلّقت ( العمّة مي: Aunt May ) - وهي امرأة أبورجينية كبيرة في السنّ - سلالم المسرح لتشكر البلد الحاضن، ولتعلن بداية فعّاليات يوم السلام في ثانوية كبرماتا.
***
كانت الفعاليات تتناوب بين كلمة حول أهميّة السلام في العالم ، وكيف نرتقي الى مرتبة الإنسانية التي تعلو على كلّ تحجيم آخر ، ألقاها ( السيد آرجي لو : Mr Archie Law ) رئيس مؤسسة سدني للسلام، ثمّ تبعه عرض فنّي / رقص تعبيري بعنوان بجع: Swans ، تلاه فيلم وثائقي عن بعض من ضحايا العنف تجاه السود في أمريكا، ثمّ حوار مع الضيفين الرئيسيين (السيدة باترس كلر:Ms Patrice Cullor ) ) والسيد رودني دايفرلوس:(Mr Rodney Diverlus ) ، وهما إمريكيان من أصول أفريقية، وعضوان ناشطان في حركة BlackLivesMatter# )) وحاصلان على جائزة سدني للسلام.
***
تحدّث الضيفان عن دلالة السلم وأهميّة الحوار في تجاوز العنف ، وكيف أنّ حريّة الإنسان الأبيض لا تكتمل إلا بحرية الإنسان الأسود ، وكيف أنّ هذا الحوار ينبغي أن يرتقي ليصل الى أنّ السلام لا يتحقّق إلا إذا نظرنا الى الآخرين - مهما كانت ألوانهم وقوميّاتهم وإعتقاداتهم - على أنّهم بشر، لهم مثل ما لنا، وعليهم مثل ما علينا، أي أن نتشارك الحياة على الأرض، وبهذا ينفتح الحوار ليعمّ الأرض كلّها وليس البيض والسود فقط.
***
ثمّ انفتح باب الحوار مع الجمهور ، فكان هناك ما لا يقل عن عشرين طالباً سألوا أسئلة جعلت الحوار أكثر سعة وأكثر عمقاً.
***
ثمّ انتقل الحفل من داخل القاعة الى الساحة الرئيسية للمدرسة ، وهناك إحتشد طلاب المدرسة جميعا ، وقبل أن يصل الضيوف الى أماكن الجلوس المخصّصة لهم تجوّلوا في الحديقة الجديدة، حديقة السلام ، ثمّ ألقت السيدة ( بيث كودوين: Beth Godwin ) مديرة المدرسة كلمتها أمام الطلبة والحضور وأشارت الى أنّ ( %96) من عدد طلاب ثانوية كبرماتا ينتمون الى أصول تعتبر اللغة الإنجليزية لغة ثانية لها، وفي هذا إشارة الى أنّ السلام يمكن أن يتحقّق وأن يعمّ الأرض كما يعم ثانوية كبرماتا.
***
ثمّ ارتجلت السيدة باترس : Patrice كلمة تعريفية عن حركة (BlackLivesMatter # ) ، كيف نشأت في نطاق ضيّق، وكيف انتشرت لتعمّ العالم ، وقد أشعلت جملتها الأخيرة حماس الطلبة ليردّدوا معها " أنا هنا لأنتصر".
***
ثمّ نزل الى ساحة المدرسة لفيف من الطالبات البيض، القادمات من (كلية القديس بات: St Pats College يرتدين اللون الأسود، وكلّ واحدة منهن تعقد وشاحاً بألوان قوس قزح على خصرها، وابتدأن برقصة أبورجينية تكشف علاقة الإنسان بالطبيعة.
***
ثمّ ألقى السيد كرس توبن: Tobin Chris Mr وهو رجل أبورجيني – كلمة تعريفية عن تأريخ الأبورجينيز ودلالة السلم في حياتهم، مستخدما الخرائط الأبورجينية في حديثه.
***
وفي الختام ، وفي مشهد مذهل، إبتدأ العدّ التنازلي لإطلاق سراح طيور السلام البيضاء لتظلّ محلّقة في سماء ثانوية كبرماتا ، وكأنّها إشارة الى أنّ الكائن - أيّ كائن - يظلّ في النهاية ينتمي لمن أطلق حريّته.
***
لقد كان يوماً كامل الدسم، رأيت فيه باعتباري مشاهداً، مستمعاً، مراقباً، أنّ السلام لا يتحقّق بلا حوار، وأنّ الحوار لا يتحقّق بلا لغة (قد تكون اللغة إشارات)، وأنّ اللغة لا تتحقّق بلا عقل، وأنّ العقل لا يتحقّق بلا إنسان، وعليه فإنّ السلام لا يتحقّق إن لم يرتفع الوعي الى مرتبة الإهتمام بالإنسان.