كوبنهاكن / رعد اليوسف
للزمن قوانينه.. ومن قوانين الزمن.. الأثر.. بمعنى انه لن يمر دون ان يترك بصمة او تغيير في قلب او سلوك او سياسة او اخلاق. ونادرا ما يستطيع الانسان ان يعطل هذه القوانين، ويحد من تأثيرها عليه وتغيير سلوكه، نحو الأسوأ، خاصة في ظروف تعم فيها الخيانات.. ويسوّق في دكاكينها الفساد دون خجل.. اذ يحتاج الى شحذ طاقات اخلاقية عالية يتحدى فيها رداءة الزمن في مراحل اللاأخلاق التي تشهدها حُقبة. وفي تدهور مثل الذي شهده العراق، صار الانسان الذي يحافظ على ثوابته الاخلاقية، مثل الذي يقبض على الجمرة ويشد بأصابعه عليها. اكثر من عشرين سنة، لم ارها، حيث فرّقت بيننا، دولا وبحارا ومحيطات، عشرين سنة عبثت بالكثير من النفوس، وهدّت إرادات قوية، التقيتها في بغداد قبل أسابيع، فوجدتها بذات الهيئة، وذلك الكبرياء، والعنفوان، والارادة، متحدّ ية السنين، وتردي الأوضاع والفساد، في النيل من جوهر أخلاقها وزعزعة أركان ايمانها بالكلمة الحرة والصحافة النزيهة.. وتتحدث بتفاؤل عن الشمس التي تقول بثقة عنها.. انها ستشرق ثانية.. هي زميلة رحلة صحافة طويلة، يمتد جذرها لثمانينيات القرن الماضي.. نرمين المفتي.. الصحفية المتعددة المواهب.. الثابتة في الدفاع عن الحق .. والجريئة في الكتابة دون الاكتراث بالمخاطر. دردشنا بمحبة وشوق واسى ولوعة عن زمن جميل.. واصدقاء وأحبة.. ومررنا بواقع غربة جديد مع فنجان قهوة ودخان سكائر. وكأي صحفي وظّفت الدردشة لتكون مادة صحفية.. فكانت على الشكل التالي..
- نرمين المفتي، عراقية من كركوك.. تخبرني لاول مرة انها تركمانية وتقول:
لكنني دائما اقدم انتمائي العراقي على انتمائي القومي مع فخري الكبير بكوني تركمانية.. وطالما كتبت وأكدت انه لابد من الانتماء العراقي اولا ومن ثم الانتماءات القومية والدينية والطائفية مع فخرنا واعتزازنا بقومياتنا ودياناتنا ومذاهبنا. التنوع يمنح قوة، لكنه في العراق استغلوه ليحولوه الى عامل ضعف وبدل ان نكون مواطنين عراقيين جعلونا مكونات، مع الاسف.!
العشق المبكر للكتابة
احبت نرمين الكتابة منذ الطفولة وقبل ان تدخل المدرسة،حيث كان والديها، رحمهما الله، يجلبان لها قصص الاطفال المصورة ويقرأن ويشرحان لها الأحداث.. ومنذئذ تقول احببت الكتابة وعشقتها.. وتضيف:
في الصف الرابع الابتدائي، اصبحت مسؤولة النشرة الجدارية الأسبوعية، ذلك التقليد الرائع الذي اختفى من مدارسنا الان، وكان سبب اختياري لرئاسة تحرير النشرة، تفوقي في درس التعبير، تقليد اخر اختفى من مدارسنا الان، كانت المعلمة ترافقنا الى مكتبة المدرسة وتختار لنا قصصا لنقرأها ومن ثم نعيد كتابتها باساليبنا وفي الوقت نفسه كان والدي، رحمه الله، يجلب الصحف والمجلات، وقررت ان أكون صحفية.
كان الوالدان يتمنون ان أكون طبيبة وفعلا قبلت في كلية الطب لكنني حولت الى كلية الآداب، ولم يقبلني قسم الاعلام بسبب شرط الانتماء الى الحزب الحاكم حينها واخترت قسم الترجمة في اداب المستنصرية.. وكنا اول دورة فيها وكان اختياري صحيحا اذ يحتاج الصحفي لينجح في عمله ان يعرف لغات اخرى.
مواد مدفوعة الثمن؟!
- وحينما حاولت استشراف رأي نرمين عن رؤيتها لواقع الصحافة والاعلام بعد 2003 .. قالت:
لا بد من القول ان العراق لا يواجه فقط الارهاب بمعناه المتعارف عليه، انما يواجه (ارهابات) عديدة من ارهاب الفساد وحتى إرهاب الاعلام وان كان الاخير اخطرها. الفوضى التي ارادها الاحتلال (خلاقة!) في التدمير ليتمكن من فرض أجنداته، فسحت فرصا لاصدار المئات من الصحف اليومية والأسبوعية وعشرات محطات الإذاعة والفضائيات وكان من بينها صحفًا وإذاعات وفضائيات تصدر بمساهمات مالية امريكية تحت بند (مواد مدفوعة الثمن) وقطعا تلك المواد لم تكن لصالح العراق كما عرفناه بشعب واحد انما عراق المكونات. سادت الفوضى تلك الصحافة بكل اشكالها المكتوبة والمسموعة والمرئية والالكترونية. بمرور السنوات، صمدت بعض الصحف و قل عددها و قل عدد الإذاعات وارتفع عدد الفضائيات سواء التي تبث من داخل العراق او خارجه وبعضها مسمومة جدا بطائفيتها وعرقيتها.. بصورة عامة، لا أقول ان هناك صحافة متميزة في العراق الان، انما هناك صحفيون متميزون يجعلون المواقع التي يعملون بها مقبولة جماهيريا.
- يقال ان الصحفي العراقي يمتلك قدرات خارقة وارادة استثنائية في التعاطي مع الواقع المرير الذي يصل حد التصفية بالكاتم وغيره.. هل هذا صحيح؟!
تقول ام علي: نعم هذا القول صحيح جدا وعدد الشهداء والمغيبين من الصحفيين العراقيين دليل عليه. كان للصحفي العراقي، رغم المخاطر، فخر فضحه للأكاذيب الامريكية واستخدام قواته المحتلة لاسلحة ممنوعة دوليا ولفضيحة ابو غريب وغيرها وكان له فخر مواجهة الطائفية والارهاب وفضح الفساد. طبعا ليس جميع الصحفيين. اذ هناك البعض وهم قلة اصبحوا طائفيين وعرقيين وفاسدين. ولعشوائية المرحلة وضياع المقاييس، تعرضت الاقلام الشريفة الى ضغوطات غير طبيعية، ليس مظاهر فقط، اذ أقيمت العشرات من الدعاوى ضد الصحفيين والصحف وكان القضاء عادلا في تبرئة الصحفيين. قطعا وهناك مسؤولون لا يستوعبون حرية التعبير.
ليست بحجم الطموح!
- ولا بد ان يأخذنا الحديث الى المرأة العراقية وحجم مشاركتها في المشهد عموما.. فقالت نرمين..
المرأة عامة في العراق وبسبب الظروف اصبح نشاطها محددا في فترة ما بعد الاحتلال، لكنها بدأت تعيد نشاطها، هنا لا اقصد غالبية النائبات واللواتي اصبحن سياسيات بالصدفة او ببركة الكوتا ( ٢٥٪ ). هناك صحفيات وإعلاميات متميزات الان في المشهد الإعلامي العراقي. وان كانت النسبة ليست بحجم الطموح.
- وعن الاعلام العراقي ومواكبته معارك التحرير، كان لها رؤية ملخصها:
محليا او عراقيا، تمكن الاعلام العراقي من مواكبة هذه المعارك، ولكن لكون الاعلام العراقي بلغة واحدة، لم يتمكن من إيصال الحقائق عالميا، لكنه في معارك الموصل نجح لدرجة ما في التأثير عالميا، وكان للانتصارات العسكرية مساهمة كبيرة بهذا التاثير.
- والحديث لابد ايضا ان يمر بالفضائية التركمانية- احدى قنوات شبكة الاعلام العراقي، لنتعرف على واقعها واهميتها.. واسباب تأسيسها.. فقالت مديرة الفضائية، السيدة نرمين:
تأسست الفضائية التركمانية في ٢٠١٣ و بدأت البث التجريبي في أيلول من تلك السنة. يؤكد قانون شبكة الاعلام العراقي انها للعراقيين كلهم ويحق لها بث فضائيات باللغات الرسمية في العراق وأية لغة تراها الشبكة ضرورية.. وان الهدف الرئيسي من فضائيتنا هو ان تكون جسرا بين بغداد والتركمان واقصد ببغداد مركز صنع القرار، فضلا عن كونها جسرا بين العراق والدول الناطقة بالتركية. وفضلا عن أهداف اخرى منها دعم الثقافة التركمانية والمحافظة على التراث التركماني وتدريب جيل شاب من الاعلاميين التركمان والقاء الضوء ايضا على مساهمات التركمان في مختلف المجالات مع تأسيس الدولة العراقية في 1921ومحاولات تحقيق الأحلام التركمانية ضمن العراق الموحد و مؤخرا تسليط الضوء على مساهمات قوة التركمان، احدى فصائل الحشد الشعبي، في تحرير الاراضي والبلدات والمدن العراقية. نجاحنا خارجيا سيظل ليس بحجم الطموح ما لم نصعد على قمر (ترك سات) اذ اننا نبث من خلال القمرين عرب سات ونيل سات، تركمانيا أستطيع ان ادعي بأننا نجحنا جماهيريا بدليل المشاركات الهاتفية في برامجنا التفاعلية ولدينا برامج يشارك فيها الإخوة من القوميات العربية والكردية واخوتنا المسيحيين، في كركوك خاصة. ونبث ٢٤ ساعة.
(بانوراما) استراليا محطتنا الاخيرة
- تقول ام علي في معرض الحديث عن الصحف والاعلام العراقي بالمهجر:
(بانوراما) نموذج لصحافة عراقية تربط المغترب بوطنه وتساعد في الوقت ذاته المغتربين العراقيين في استراليا وتسلط الضوء على حياتهم. واسفا هناك صحف الكترونية مسمومة وطائفية وتعمل على (الحث) على العنف وتنشر اكاذيبا وصورا مفبركة، مع الاسف، وفي المقابل هناك صحف تعمل على نبذ الطائفية والمحاصصة ومساعدة العراقيين مثل (بانوراما) التي نتابعها اسبوعيا.
- في وداع نرمين.. وداع وطن وذكريات وشراكة اصدقاء.. غيّبوا كضرغام ورحلوا كحاتم ورياض قاسم.. واخرين اطال الله في اعمارهم.. حقيقة مرت الساعات كنسمة ربيعية تهب من ضفاف دجلة او الفرات.. لتنتسم بها القلوب، خاصة تلك القلوب التي تغربت بعيدا وما زالت وستبقى تحن الى الاصول.