بعد ثلاث سنوات من التهجير
الشاعر العراقي حامد البياتي : لقد استولى الارهاب على مدينتي وبعد تهجيري، تمت مصادرة ارشيفي الثقافي بالكامل!
شاركه مائدة الحديث: الشاعر رعد زامل
انه الشاعر والانسان، حامد البياتي، التقيته للمرة الاولى في احدى مكتبات العمارة ذات صدفة ليست بعيدة عن مصادفات الزمن العجيب. وطلبت منه رقم هاتفه، اتصلت به بعد يومين للاطمئنان عليه فاذا به يسكن في مدرسة حيث كانت المدارس تعطل في مثل هذا الوقت اثناء نزوحه من نينوى.
ذهبت لاستطلع ظروفه القاسية واواسي فيه الشاعر الانسان، وهو ينتقل من مكان الى اخر مع العائلات التي تم تهجيرها من نينوى ومناطق اخرى. رافقته في تجربة نزوحه التي هي مريرة بلا ادنى شك، وفي كل مرة التقيه يستيقظ في راسي السؤال الاكبر– هل ان روح الشاعر محكوم عليها بالنزوح، فمن فردوس الى منفى ومن وجود الى عدم ومن فضاء الشعر الى ضيق اللغة واخبرا من داره العامرة بدفء الامن الى خيام اللاجئين؟ انها رحلة محفوفة بالعذاب واللعن الابدي، ربما ان العزاء الوحيد للشاعر / الانسان هو مواصلة كفاحه من اجل الحفاظ على انسانيته. وربما ان هذا الحوار سيكون سريعا وعابرا، ذلك لان الشاعر حامد البياتي يكتب لي من جهاز هاتفه الصغير (النقال) فهو – الان – بلا مكتبة، لا اوراق ولا حاسوب.
انه شاعر يتحدث في العراء عن تجربته الشعرية التي برزت منذ سبعينيات القرن المنصرم وهي تتدفق شلالا من الضوء في جوهره الصلب الذي تتكسر عليه كل معاول الظلام. فكانت لنا معه هذه الاسئلة:
- كيف بدأت علاقتك مع الحروف والكلمات في غابات الشعر؟
منذ مرحل الدراسة الابتدائية كنت اميل الى حفظ النصوص الأدبية اضافة الى ولعي بقراءة الدواوين الشعرية الامر الذي خلق لدي ملكة كتابة الشعر وكتبت اولى قصائدي وانا في مرحلة الاول الثانوي وقراتها في باحة المدرسة ولم تكن من النضوج ولكنها كانت البذرة الاولى لانطلق فيما بعد الى عالم الشعر جنبا الى جنب مع مراحل عمري وتقدم دراستي . فكان انتمائي الى ما يعرف بمديرية الثقافة الجماهيرية عام ١٩٧٠ كعضو من الشعراء الشباب وقد لاحظت اللجنة الثقافية نبوغي وتفوقي على اقراني من الشعراء الشباب بحيث تمت استضافتي في برنامج تلفازي وكنت الوحيد من بين اقراني.
- بمن تأثرت من الشعراء ؟ ولماذا؟
تركزت قراءاتي في بداياتي الاولى على الشعر الجاهلي ولشدة ولعي بالمعلقات فقد كنت احفظ بعضها، قرات لأمرئ القيس والاعشى وزهير بن ابي سلمى وعنترة والنابغة الذبياني واكثر فحول شعراء الجاهلية مرورا بشعراء العصر الاسلامي ثم الاموي، جرير والفرزدق وغيرهم من شعراء هذه الحقبة غير ان تجاوز النمط الكلاسيكي نوعا ما في العصر العباسي قد جعلني اتأثر بالشاعر المتنبي بالدرجة الاولى ثم البحتري وابي تمام وفي الجانب الرومانسي الشاعر الرقيق الشريف الرضي وحديثا، لا يخفى هيمنة شعراء كبار مثل احمد شوقي في مصر والجواهري في العراق ورومانسية شعراء المهجر التي مهدت للحداثة الشعرية، لا يخفى تأثير هؤلاء على حديثي التجربة.
اما بالنسبة لي وبسبب تجربتي الشعرية الطويلة فقد تحررت من تأثير هؤلاء وغيرهم فلي تجربتي واسلوبي المستقل.
- كيف تنظر الى الشاعر حامد البياتي؟ ما الذي ظل حلما مؤجلا من ذاتك؟
ليس لدي شيء مؤجل ربما الشيء الوحيد المؤجل يقيني الراسخ من انني سوف غادر هذه الحياة عاجلا ام اجلا اما نظرتي الى نفسي فاني مخلوق مجبول بالعاطفة وشاعر ينشد للحب وللإنسان يغرد حيث يكون الحب ويغضب حيث يكون الظلم
- الى اي الاجيال تنتمي في الشعرية العراقية؟ وما الذي ظل من جيلكم الشعري؟
بداياتي من سبعينات القرن الماضي كشاعر شاب يشق طريقه بصعوبة في خضم تجارب شعريه مستحدثه لا يمكن اعتباري شاعرا سبعينيا.
بسبب عدم اكتمال النضوج مما يفرض طابعا مستقلا يميز عن تجارب الاخرين يمكن ان اعتبر نفسي شاعرا تسعينيا لشعوري باستقلاليتي عن التأثر والتقليد على الرغم من فاعليتي في المشهد الشعري طيلة السنوات التي سبقت ذلك.
اما تأثري بمن في الوقت الراهن لا يوجد اي شاعر وسبق وان قلت بأني امتلك تجربتي وخصوصيتي ولكن هذا لا يمنع اعجابي باي نص جميل.
- بوصفك شاعرا يميل الى الوزن والايقاع كيف نظر الى قصيدة النثر؟
النثر جنس ادبي ولا شك ولكن لا علاقة له بالشعر كجنس ادبي مستقل خصوصيته الوزن والقافية اللذان من دونهما لاوجود له بغض النظر عن التفاصيل المتعلقة بمدى احتوائه من صورة شعريها ومن عدمه ومن جانبي ارى توافد الطارئين وتسللهم على المشهد الثقافي من باب النثر مستسهلين كتابته وليس بالضرورة لمن يكتب النثر انه لا يجيد الكتابة على الوزن والقافية فهناك العديد من شعراء الوزن والقافية يلجأون الى النثر ولكن على دراية بحيث تأتي نصوصهم لا تختلف عن الشعر من طرف المضمون وكمثال الشاعر رعد زامل في مجاميعه النثرية (خسوف الضمير) و(انقذوا اسماكنا من الغرق) أيا يكن انا مع النثر كجنس ادبي مستقل على ان يتسم بقدر من الوضوح والشعرية وليس كما نقرأ لطارئين يغرقوننا بسيل من الغموض والالغاز التي يعجز عن فكها امهر المنجمين وقراء الفال.
- نزحت من الموصل الى ميسان. هل الوطن منفى؟ ما تقول عن تجربتك كشاعر يستبدل مدينة باخري من اجل السلام؟
كان نزوحي من مسقط رأسي في محافظة نينوى الى جنوب العراق اضطراريا بسبب توافد الارهاب واجتياحهم للمدينة برمتها فاخترت النزوح الى محافظة ميسان لمعرفتي مسبقا بطيبة وكرم اهلها الذين لم يدخروا جهدا بإيوائي واحتضاني كفرد منهم وما افادني اليهم اطلاعي على تاريخهم المشرف والاختلاط بهم لمزاولة عادات مختلفة مما اعتدت عليه في محافظتي وتبين لى من خلال ذلك بساطتهم وطيبهم وكرمهم المفرط بما يعجز عن وصفه اللسان هذا اضافة الى شعوري بآمن مطلق وانا بين ظهرانيهم.
اما سؤالك هل ان الوطن منفى اقول كلا فالوطن هو الام التي تحتضن ابناءها حيث ما صاروا وانما اعنيه في البعض من قصائدي عن المنفى اقصد به منفى الروح فالروح شبيهة بشجرة حينما تقتلع من جذورها وتزرع في مكان اخر حتما سوف تؤول اوراقها للذبول ما لم تعهد بالرعاية والسقي وهكذا كنت حين زرعت بتربة هذه المحافظة المعطاء لدرجة انستني جذوري في تربتي الاولى.
- في بعض النصوص التي سمعتها لك تقترب كثيرا من تجربة الشاعر العراقي مظفر النواب. بم تعلل ذلك؟
اذا كان المتنبي قديما مالئ الدنيا وشاغل الناس فالنواب اليوم يشغل نفس الصفة والمساحة في نفوس قراءه ومتابعيه على اختلاف ما في ارجاء الوطن العربي في واقعنا المعاصر، ومن جانبي اعتقد لم اترك شاعرا قديما او حديثا لم اقرأ له وكان من الطبيعي ان اقرأ للنواب ايضا وما لاحظته في كتاباته انه يعتمد اسلوب التدوير في كتابة النص وهو اسلوب ليس بجديد فقد كتب الكثيرون على نفس الاسلوب وانا واحد منهم وهذا لا يعني تأثري بالنواب حصرا وهذا الاسلوب من الاساليب الصعبة لأنه يعني صياغة الفكرة من دون توقف، على عكس الانماط الاخرى في كتابة قصيدة التفعيلة، وعلى العموم ليس بالضرورة كل من كتب بأسلوب النواب يكون قد تأثر به فهو اسلوب مشاع للجميع.
- هل حققت كل ما تصبو اليه روحك في الشعر؟
لم احقق ما اصبو اليه ذلك ان الظروف الحياتية لم تكن في صالحي البته. فمنذ بداياتي في السبعينات من القرن الماضي وحتى عام ١٩٨٢ وهو العام الذي بدأت فيه الحرب العراقية الإيرانية لم تكن هناك وسائل نشر كثيره والنشر كان يقتصر على وجود ثلاث او اربعة صحف تتبنى اصدارها السلطة ومقرها جميعا في العاصمة بغداد فكان على من يروم نشر نتاجه ارساله عن طريق البريد العادي ونظرا لمحدودية الصحف والزخم الذي يرد اليها يتأخر النشر ربما لأشهر احيانا ما لم يشجعني التعامل معها فلم طيلة تلك السنوات سوى قصائد محدودة بسبب الروتين الممل غير اني وللفترة من عام ٧٩-٨١ شغلت منصب نائب رئيس اللجنة الثقافية العمالية مختصا في مجال الشعر من ثم تركت اللجنة بعد ان طلب من الانتماء الى حزب البعث فقد كان عملي في اللجنة تطوعا وبعد ذلك حين قيام الحرب العراقية الإيرانية تخليت عن الكتابة والمشاركة في اي نشاط ثقافي لعدم قناعتي بالحرب ورفضي ان اكون بوقا للظلم.
على ان الضربة القاضية لأرشيفي الثقافي حصل يوم استولى الارهاب على مدينتي وتمت مصادرة ارشيفي الثقافي كاملا.
- اين تضع نفسك في مشهد الشعر العراقي؟
العراق منبع الحضارة الإنسانية وهو مصدر الالهام لتطور الفكر البشري في شتى مناحي الحياة وهو الذي علم الانسانية القراءة والكتابة حيث كان الانسان يغط في جهل عميق وهو من اخترع العجلة لتدور بدورانها نحو رقي الانسان ومن اخترع الثياب ليغطي عورته بعد ان كان شأنه شأن الحيوان فليس غريبا ان نجد فيه العامل والفلاح يتغنيان شعرا على الفطرة.
فكيف بالمثقفين الشعراء وربما لا ابالغ اذا قلت ان هناك شاعرا بين مواطن واخر وامام هذا الكم الهائل من الشعراء فمن الطبيعي ان لا يكون بمقدوري تقييم نفسي الا من خلال ما يقيمني فيه الاخرون، وعموما انا شاعر يحاول ان يجد له مكانا ومساحة بين الآلاف من الشعراء الذين يحتفون بوطنهم ويحتفي بهم الوطن.
- تركت احلامك وكتبك على الرفوف في بيتك. كيف كان شعورك وانت تودع بيتك في مدينة الموصل؟ هل انكسر شيء ما في داخلك؟
سؤال لطالما يثير الاسى والشجن والمعاناة في القلب لأحيا مشردا في وطني لأكثر من ثلاث سنوات كنازح بعيدا عن مسقط راسي ومنزلي الذي كلفني جهد سنوات طوال من الكفاح لأجعل من عشا احتمي فيه واسرتي واذا اجدني هاربا منه مضطرا دونما ذنب ارتكبه لأتركه وما فيه من مقتنيات عرضة للتخريب والسرقة بأناس من حثالات البشر يدعون بالدواعش ففي حين كان هؤلاء الاراذل يعيثون فسادا في الارض بتهديم دور كل من لا ينتمي الى اجرامهم او يخالفهم في العقيدة والمعتقد فاستباحوا المدينة قتلا وتدميرا وكانت تقابلهم في تخريب البلاد سلطة حاكمة اتخذت لنفسها نظاما محاصصيا، وبموجب هذا النظام المقيت اجازت لنفسها تقاسم ثروات البلاد فيما بينها على حساب تجويع الغالبية العظمى من الشعب العراقي ولم تقف عند هذا الحد بل خلقت الطائفية بين ابناء الشعب الواحد بعد الاف السنين من التعايش السلمي فيما بينها بناء على ما ترتب على نظام المحاصصة وعلى هذا الاساس يمكن ان نعتبر اجراءات السلطة هى الصفحة الثانية في مساعدة الارهابيين في تدمير العراق وتحت ظل هكذا حكومة فاسده وما يعانيه الشعب من الامرين باسم حكومة فاسده مستمده وجودها من خلال دعم خارجي وارهاب متوحش يكون من الطبيعي وجود فجوه وشرخ كبير بين المواطن والسلطة اساسه الانكسار النفسي وعدم الثقة ما بين المواطن والسلطة كنتيجة حتميه ومن جانبي كمثقف لم تعد لي اية ثقة بالسلطة لممارساتها التي تصب في خدمة نفسها واحزابها من جهة وبين مشاركتها الارهاب في تخريب البلاد فهم من وجهة نظري وجهان لعملة واحدة.
- هل بالإمكان ايضاح نبذة عن سيرتك الشعرية؟
بسبب فقداني لأرشيفي الثقافي على يد الارهاب لا يمكنني الحديث عن سيرتي الشعرية تفصيلا لكني سوف استعرض ما في بالي متسلسلا:
1.عضو اللجنة الثقافية (مديرية الثقافة الجماهيرية) ١٩٧٠
2.نائب رئيس اللجنة الثقافية العمالية ٧٨-١٩٨١
3.عضو اتحاد الادباء والكتاب في العراق
4.عضو شعبة المبدعين العرب
5.عضو جمعية الخطاطين العراقيين
6.الفائز بالمرتبة الثانية على القطر مسابقة وزارة الثقافة ١٩٩٧
7.الفائز الثاني عربيا مناصفة مع الشاعرة المغربية بشرى عبدالله ٢٠١.
نماذج من نتاجات الشاعر حامد البياتي
منفى
هي المنافي وعمرا فيك تختزل
اين ارتحالك يا مازلت ترتحل
امنفذ ودروب العيش مغلقة
والموكلون على ابوابها رحلوا
ها انت ذا وجل تلتاع في شجن
على حنين لمن اشتقت يشتعل
قوادة هذه الدنيا بلا خجل
وليس تصفو لغير الدون او تصل
هبوط
مذ غادرني الفردوس
وفؤادي مملوء بالحزن
وطعم التفاح
على شفتي لازال طريا
واريج الجنة يملأني
من ازهار ونخيل
اغواني لهبوطي في شهوة بطن
شيطان يشبه ساستنا في التمثيل
ربيع الوطن الموعود
(نظمت بعد سقوط النظام ٢٠٠٣)
رحل البوم
ذى اسراب الطير
تعود الى الاعشاش المهجورة
تزاحم في جنات الوطن الابهى
تحت سماء غادرها دخان البارود ورائحة الموت
تزقزق .. أمن.. أمن
تنفض عن سعف النخل
غبار الصمت
وتمسح جدب الارض
تفزز برعمها
لربيع الوطن الموعود
سلام للفرح القادم
هذا وطن
ينهض من بين رماد حرائقه
يستيقظ في احداق الفجر
يومئ للعشاق هلمو
ولى زمن الخوف
نزوح
ران فينا الأسى وجل المصاب
مذ نفينا وصاح فينا الغراب
وارتحلنا من خلفنا ذكريات
سوف تبقى يرن فيها الغياب
للأحباب ما نعمنا بعيش
للحياة وقد طواها السراب
يا اسفا على بلاد تداعت
مثل ثور تكالبته الذئاب
لم يعد فيها من مكان لحر
واللصوص تسيدو والقحاب.