في أستراليا، يتوجّب على الأطباء العراقيين خوض امتحان معادلة الشهادة الصعب، لم أشعر حينذاك، بالاستعداد والرغبة في الدراسة من جديد، فقد وصلت الى أستراليا ناضبا من أي طاقة، سواء نفسية أو جسدية. هكذا شعرت، وكان شعوراً مؤلماً، لكني كنت مدركاً تماماً، أن لا مجال للعودة الى الوراء ولا بد من إكمال المشوار الى نهايته، كانت معركة يجدر بي خوضها ولكلّ حرب نهاية.
أمضيت أسبوعين من اليأس والكآبة، استلمت مبلغ المعونة الاجتماعية الذي تخصّصه الدولة الأسترالية لمن هم مثل حالي، كان مقداره 300 دولار أسترالي. اشتريت ملابس وحذاء مستعملاً وعلبة سكائر.
أحياناً، أخرج الى مكتبة المدينة لقراءة بعض الكتب والجرائد، تعلّمت استخدام الكمبيوتر المجاني في ركن من المكتبة، كان الغرض تصفّح الأخبار باللغة العربية.
ذهبتُ يوماً الى مزارع العنب والتفاح بحثاً عن عمل في قطف الثمار والحصول على بعض المال، كان الجوّ بارداً بشكل قاسٍ، وكان في المزرعة عشرات العمال العراقيين، يسكنون في بيت واحد بلا تدفئة، يفترشون الأرض الباردة ولا يأكلون بشكل جيّد طمعاً في توفير المال، ذكّرني حالهم بحال العمال المصريين في العراق ابان ثمانينيات القرن الماضي، لم أستطع الصمود أكثر من يومين، بالرغم من أن العيش بظروف مماثلة قاسية، ليس غريباً عني تماماً.
عُدت إلى بيرث والشقّة الكئيبة.
أثناء ذلك، تعرّفت على أصدقاء عراقيين، منهم كريم غانم أحد طلاب دورتنا في كلية الطب الذي سبقني لأستراليا بسنتين، التقيته في بيرث، شجّعني باتجاه سلوك طريق واحد فقط، هو إنهاء الامتحانات والعمل في مهنة الطب.
قال كريم غانم: انسى كلّ ما خلفك والسنوات الـ31، أضف لها سنة أخرى ضائعة، لتبدأ حياتك في الـ32، العمل في مهنة الطب هنا ممتاز جدّاً.
كان أقرب امتحان للغة الانكليزية يجرى بعد شهرين، وهو شرط يؤهلك لدخول امتحان الطب، قدّمت أوراقي وباشرت حضور دروس اللغة الانكليزية استعداداً للامتحان.
استدنت 400 دولار من كريم لرسوم امتحان اللغة، عرفت أنَّ في أستراليا يتوجّب دفع أجور أي امتحان!
لم يدخل بهاء كورس اللغة، لكنّه قدّم أوراقه للامتحان واستحصل المبلغ من جمعية خيرية تهتمّ باللاجئين، كان واثقاً من لغته واعتمد عليّ في تزويده ببعض الأمثلة والأوراق التي أحصل عليها من الجامعة المنظّمة للكورس.
اجتزنا امتحان اللغة الانكليزية بنجاح، فرحنا جدّاً وتعزّزت ثقتنا بأنفسنا، وبقي أمامنا امتحان الطب الأهم، وأقرب موعد له كان خلال ثلاثة أشهر، وآخر يتم بعده بـ 6 أشهر، احتجنا وقتاً إضافياً كي نستعد جيّداً، فاخترنا الأبعد.
كانت أجرة دخول امتحان الطب 1200 دولار أسترالي. يا... إلهي، كيف ساتدبّر الأمر؟
هذا مبلغ لم ولن نحلم به في ظل تلك الظروف، فكّرت بالاستدانة من أصدقائي في اليمن، أو من صديقي عادل الذي يعمل في سدني، فأنا لا أحبّ مراجعة الجمعيات الخيرية أو أي متصدّق، فذلك يشعرني بالذلّ والهوان.
في غمرة انشغالي وحيرتي بتدبير مبلغ دخول الامتحان، اتصل بي زميل آخر وقال: يوجد رجل أعمال أسترالي تبرّع بالمبلغ، يا الله.. جاء الفرج!
كنّا خمسة أطباء عراقيين، بقلوب متلهفة وجيوب فارغة، نتطلّع بصبر مضنٍ لمعادلة شهادات الطب الذي درسناه في بغداد.
ضرب الزميل موعداً لنا مع رجل الأعمال، ذهبنا الى بيته الفخم المطلّ على نهر ماركريت في ولاية بيرث الغربية. لم نجد رجل الأعمال (المحسن) ووجدنا زوجته فقط، اهتمت بِنَا كثيراً، أجلستنا في شرفة تطلّ على منظر رائع، وقدّمت لنا بنفسها القهوة السوداء في أكواب صغيرة، تعاملت معنا كثروة سقطت عليها من السماء.
قالت: إن استثمار مبلغ بسيط لتخريج خمسة أطباء للمجتمع هو صفقة رابحة بلا شكّ، واضافت، ندرك أنا وزوجي أنَّ عملية تخرّج طبيب مكلفة جدّاً للدولة والمجتمع وذلك يحتاج الى عمل سنين طويلة، نحن سعداء لأن عملية تخرّج خمسة أطباء لا تكلّفنا، سوى 6000 دولار أسترالي فقط!
الحديث نفسه سمعته من مدرّسة اللغة الإنكليزية في أوّل أسابيع وصولي، عندما سألتني عن صدام، فقمت بإعادة السؤال وطلبت رأيها به أوّلا؟
قالت: لا أريد أن اتحدّث عمّا فعله من حماقات أو ارتكبه من جرائم، لكنّي أستطيع أن أميّز أنّه غبي جدّاً، حيث ينفق الكثير على تخريج هذا العدد من الأطباء، ثم يجبرهم في النهاية على الهجرة، كأنَّه يهديهم لنا مجّاناً، نحن لا ننفق دولاراً واحداً، لكننا نربح الكثير من وصول طبيب جاهز للعمل!
في أستراليا، لا يكفي الادعاء أنَّك طبيب وتقديم أوراقك الثبوتية، بل عليك معادلة الشهادة عمليا ونظريا من خلال اجتياز الامتحان النظري أوّلا، والعملي لاحقاً، وفق مقياس الطب في أستراليا، وبعد اجتياز الامتحان النظري يحقّ لك العمل تحت إشراف اختصاصيين وبعضوية مشروطة لذوي المهن الطبية حتى تجتاز الامتحان العملي لتكون مستقلّا وتمنح عضوية كاملة.
بعد الاطمئنان على مبلغ دخول الامتحان، اشتريت كتب طب، الأطفال، الجراحة، الباطنية، واستعرت كتاب النسائية من صديقي الدكتور كريم، وقمت بنسخ كتاب النفسية، فليس لدي القدرة المالية على شراء كلّ هذه الكتب.
بدأنا برنامج دراسة مكثّفا، بأهداف واضحة ومحدّدة، تتلخص باجتياز امتحان الطب والعمل.
لتسعة أشهر تقريباً، واصلت الاستعداد لأداء امتحان الطب، أقرأ صباحاً، اتغدّى مما تصنعه يداي، أقرأ بعد الغداء وبعد العشاء نحو ساعة ونصف، ثم آوي الى فراشي بوقت مبكر.
بهاء يفضّل السهر والنهوض متأخرا جدّاً، يفطر معي بالشاي والجبن وأنا اتغدّى بالرُّز والمرق في الساعة
الواحدة ظهرا، يخرج في مشاوير صغيرة الى المكتبة المحلية، وأفضّل القراءة في البيت، وأقوم بمكافأة نفسي بين فترة وأخرى بسيكارة، كنوع من رفاه مفقود!
تحضيرات بهاء للامتحان بدت قلقة ولم يشعر أنَّها كافية، خاصة أنَّ موضوع الديون المستحقَّة عليه لبعض الأصدقاء باليمن أثير حينها، وأربكه كثيراً.
دخلنا امتحان معادلة شهادة الطب في الشهر الخامس من عام 2001، أي بعد سنة واحدة من خروجنا من معسكر اللجوء الى المدينة، وتعلن نتائج الامتحان بعد شهرين من ذلك التاريخ.
بحسابات ومراجعة الأجوبة مع الزملاء تأكّدت من نجاحي، لكن بهاء رجّح عدم اجتيازه الامتحان، عاش شهرين من العذاب الحقيقي، رعب وكوابيس الفشل تلازمه، يعيد عليّ بعض الأسئلة أكثر من مرَّة، هل حقّاً جواب السؤال الخامس من مادة الأطفال B وليس C؟ نعم بهاء هو B.
عُرف بهاء على الدوام بتميزه على اقرانه، حصل على ترتيب الطالب الأوّل على إعدادية الجمهورية في منطقة بغداد الجديدة، حيث تخرّجنا منها معاً، لم يتأخر أي سنة في كلية الطب، الفشل في هذا الامتحان يعني كارثة حقيقية بالنسبة اليه وفشلاً ما بعده من فشل، كان يعيد السؤال نفسه كلّ يوم، ماذا سأقول لأهلي إن فشلت، كيف سأواجه أصدقاءنا؟
حاولتُ جاهدا طمأنته، حتى حان يوم وصول النتائج عبر رسالة بريدية.
جلسنا من الثامنة صباحاً ننتظر ساعي البريد بدراجته الصغيرة وخرجه البرتقالي، وهو يهمّ بدسّ حُزمة أوراقه في صندوق الرسائل، تلقفتها من يده وأسرعت إلى داخل الشقّة، قرأت رسالة بهاء أوّلاً، ركّزت بأوّل عبارة: I am pleased to ..
عرفت اننا اجتزنا الامتحان، دخلت الشقة وقلت: بهاء passed، بدأ يرتعش، لم يستطع أن يقرأ شيئاً، أعدت عليه.. بهاء أنت ناجح.. ناجح.
بدأ يبكي بصوت عالِ، استمر لدقائق، تناول الهاتف الأرضي وتحدّث مع أهله وبشّرهم بنجاحه، كانت درجة نجاحه في مادة الباطنية 51 فقط، وكان ذلك مبعث قلق لمن تعوّد النجاح بتفوّق مثل بهاء، فضّل البقاء في الشقّة والاسترخاء، بينما خرجت للمدينة بفرح وثقة، أستطيع الآن القول: إنّني طبيب. عند محطة القطار وجدت الشقراء (أم النظارات) تشجّعت وسلّمت عليها، عرّفتها بنفسي وسكني بجوارها، فقالت: أعرف ذلك.
لم تكن لي وجهة محدّدة، اخترت وجهتها وعرضت عليها مصاحبتها، فرحّبت بالفكرة!
قضينا ساعات جميلة على البحر الذي أزوره لأوّل مرّة، كانت ممتعة ومرحة وعرفت أنَّها مهاجرة من روسيا.
قالت: إنَّ لديها صديقاً، لكنّه يسافر كثيراً، لذلك تبدو وحيدة.
عدت للشقّة متأخراً بعض الشيء، وجدتُ بهاء قلقاً وسألني عن سبب تأخري على غير العادة، أخبرته بما حصل، صفّق وقفز غير مصدق وطلب أن أحكي له من الألف الى الياء، فحدّثته عن بعض التفاصيل.
بدأنا البحث عن عمل في المستشفيات الأسترالية، بعد أن أصبحنا مؤهلين لذلك.
لم تبدُ على بهاء علامات التفاؤل بعد اجتيازه امتحان الطب، كان متشائماً جدّاً، يسهر بافراط ولا يحبُّ الخروج كما كان.
تكرّرت لقاءاتي بالروسية وبدأنا نخرج معظم أيام الأسبوع، تحدّثني عن هجرتها من السويد الى أستراليا صحبة زوجها الذي انفصلت عنه في أستراليا، وأحدّثها عن أيامي في اليمن وكيف وصلت الى أستراليا عن طريق البحر، أغبطها على ماضيها، وتحسدني على مستقبلي المشرق في أستراليا، بعد أن تعرّفت على مهنتي، نتحدّث سيراً على الأقدام معظم الوقت، فكلانا لا يملك سيارة، ثم تطوّر الأمر الى قضاء اوقات مسلّية في الليل.
صار بهاء لا يتناول العشاء الا قليلاً، وعندما أذهب الى فراشي يسألني باستغراب، عن كيفية تمكّني من النوم بهذه السهولة؟
بعد ذلك أخذ يتحدّث بسوداوية ولا يجد متعة في أي شيء، لم تنفع معه عبارات التشجيع أو التحفيز، أكرر عليه حقيقة أنّنا اجتزنا المرحلة الأصعب والأهم، ولا بد من أنَّ القادم أفضل.
فقد الثقة بنفسه تماماً، وصار يداهمه إحساس فظيع بالذنب، بدأ يعتذر لي عن أشياء قديمة قالها أو فعلها معي غير ذات أهمية، لكنّه يكرّر أسفه! وبدأ يفقد وزنه الخفيف أصلا، لا ينام الا ساعة أو أقل، لا يهتم بهندامه كما كان دائماً.
جلسنا ذات ليلة وتحدّثنا بجدية تامة، بعد أن لاحظت عوامل انهياره، فأخبرني أنَّه يعاني الكآبة، وقد زار طبيباً قريباً من الشقّة، لكن المشكلة، أنَّه لا يتناول علاجه، لأنه لا يرى فائدة منه.
في تلك الأيام، ومثلما لم يفعل من قبل، حدّثني بهاء عن أشياء كثيرة؛ عائلية وغيرها، أشياء لم أكن أعرفها رغم صداقتنا الممتدة لأكثر من 10 سنوات.
لم أجد لذلك تفسيراً محدّداً، الا بعد حين ربّما.
بدأ يتحدّث عن رغبته في وضع نهاية لعذاباته، فبدأت أقلق إن تركته لوحده.
انتهت علاقتي بالروسية بعد أقل من شهرين، بعد عودة صديقها من السفر، واتّضح أنَّه أحد اخوتنا العراقيين!
مرَّ شهران على اجتيازنا امتحان الطب ولم نحصل على فرصة عمل، أخذ وضع بهاء يزداد سوءاً، الحديث المتكرّر عن تفكيره بوضع حدٍّ لعذابه أقلقني جدّاً، أخذته قسرا الى مستشفى كبير لمراجعة اختصاصي النفسيّة.
في قسم الطوارئ وبعد معاينة سريعة قرروا إدخاله للمستشفى، دخلت معه قسم الأمراض النفسيّة.
بحدود الساعة الحادية عشرة صباحاً، ونحن نجلس في صالة المستشفى المشتركة وفيها كتب ومجلات وأوراق تسلية مع تلفاز كبير، قطع البث!
America under attack !!
إنَّه الحادي عشر من أيلول عام 2001، حيث تغيّر العالم إلى ما قبل هذا التاريخ وما بعده!
شارفت نهاية العام على الاقتراب، قضى بهاء أياماً كثيرة في المستشفى، أزوره بانتظام، لكنّ حاله لم تتحسن كثيراً.
وسط الوضع النفسي العصيب الذي يعانيه بهاء، استطاع أن يقنع مدير قسم النفسيّة في مستشفى بيرث - كنّا قد تقدّمنا بطلب للعمل به - بأنَّه طبيب جيّد وشاطر، أثنى عليه المدير كثيراً ووعده بأن تكون فرصة العمل المتوفرة من نصيبه دون بقية المتقدمين، وبالفعل حصل على عقد عمل مقيم أقدم نفسيّة في المستشفى.
أعرف أنَّه ما زال يعاني حين قال لي: تخيّل كم هو (أثول) طبيب النفسيّة هذا، عندما لم يشخّص حالتي النفسية!
بعد أسبوع من ذلك، حصلت على عمل في مستشفى كبير في ولاية ادليد جنوب أستراليا وباشرت في الأول من كانون الثاني 2002، لكني لم أحصل على عضوية كاملة في نقابة الأطباء الأسترالية الا بعد النجاح في الامتحان العملي.
ودّعت بهاء وباقي المعارف في بيرث وبقينا على اتصال بين فترة وأُخرى، عبر حديث مقتضب وقصير، أشعر بتواصل معاناته من خلال نبرة صوته الحزينة وكلماته القليلة، ثم أخذت الاتصالات تتباعد بيننا.