في حافظتي الكثير من الحكايات والمدونات عن مدينة عدن اليمنية، بعضها الكثير يمت باواصر الصلة والتشابة الى ناحية العراق، وبعضها يتمايز عنها بمسافات كبيرة، كما ان لدي ما يصلح كتابا في أداب السفر والرحلات عن خمس سنوات عشتها في تلك المدينة الى جمعت من التناقضات فوق ما يتصوره العقل، تكفي الاشارة الى طباع الناس الباردة ما يقترب من الثلج، وسط مناخ يقترب الى جهنم من وجوه كثيرة.
عدن، شبة جزيرة بركانية، تمسك بالطرق البحرية المارة من المحيط الهندي إلى أوروبا، وتتكون من مدينة عدن القديمة التي تسمى عدن أيضاً وقد سماها البريطانيون بعد احتلالها بعدة مسميات تمييزاً لها، مثل "كريتر" التي لا يزال العدنيون يتداولونها، وتتبعها مستوطنات وجزر منها جزيرة سوقطرة، وهي جزيرة بدائية في خاصرة الخليج عملت حكومات مرحلة الاستقلال في بداية السبعينات على الوصول اليها وتمدين حياة سكانها البدائيين، وقد روى لي الرئيس اليمني السابق علي ناصر محمد كيف اقتحموا الجزيرة آنذاك وكيف نفر منهم السكان وهربوا لائذين بالاشجار العصية كلما نزلوا ارض الجزيرة. وذُكرت عدن في نقش يوناني قديم يعود الى القرن الأول الميلادي، وسماها صاحب كتاب "الطواف حول البحرالأرتيري" بالعربية السعيدة، وهو أسم عمم على اليمن كله فيما بعد، وثمة في ساحلها خليج يسمونه "رامبو" اشارة الى الشاعر الفرنسي الذي عاش في القرن السابع عشر في عدن، وكان يتخذ من هذا الخليج مكانا لكتابة مذكراته، تلك المذكرات التي حفلت بالمفارقات والجماليات والمكابدات، وشاءت الظروف مرة ان اجرب السباحة في هذا الخليج غير ان حركة المياه كانت اقوى من تدابيري للعوم وكدت انجرف الى القاع لولا نجدة عاجلة من قارب لصياد سمك عدني.
في عام الف وخمس واربعين ميلادية ومضت نجمة في برج الثور، ثم هاجرت الى مدار آخر، غير انها بقيت تومض، وتومض، طوال ثلاث وعشرين يوما قبل ان تنطفئ، والى الابد. لكن، ثمة في عدن من يتحدث عن تلك النجمة بوصفها حصانا من الضوء انشطر الى مسارين، سقط الاول منهما على قلعة صيرة التاريخية في عدن، وحط الثاني في آثار بابل المهيبة في العراق، وذكر الشاعر اليمني الحميم محمد حسين هيثم الذي سمى ديوانه الثاني (الحصان) ان اسطورة النجمة لا ثبت لها في المدونات التاريخية او العلمية، لكن امرأة عدنية نسجتها منذ زمن بعيد وصارت على كل لسان، والاصل ان ابنها هاجر الى العراق ومات هناك فجُنت عليه وتخيلته نجمة على هيئة حصان شارد، وضحك هيثم وهو يروي القصة بيننا، نحن اصدقاؤه المهاجرين من العراق قائلا: قد تُجن واحدة من امهاتكم لتعيد نصف حصاننا الينا. في مجالس(مقايل) العدنيين يحضر العراق طالما نكون ضيوفا عليها، وما اكثر ما كنا نشاركهم، ملاطفة، سهرات القات، وندخل معهم في دورة السجالات والطُرف، ومرة قال الصديق الدبلوماسي احمد ابكر الذي يعد نفسه خبيرا في تاريخ العراق: انكم شعب استوطنته الاحزان وصرتم لا تبكون على انسان عزيز فقدتموه فقط، بل وايضا على الجماد، ولكي يعزز رايه فقد استطر الى التأكيد بان ابن الجوزي ذكر في كتاب المنتظم ان عراقيي واسط حزنوا على منارة مدينتهم التي انهارت العام 497 هجرية وكانت قد بنيت في عهد المقتدر وعمّرت مائة وخمسين عاما، ولم يهلك جراء انهيارها احد، لكن اهل المدينة عمهم حزن عظيم وارتفع بينهم عويل استمر سبعة ايام.
غير ان مهاجرا عراقيا اختص في التاريخ اليمني رد بالقول: ان اليمنيين القدامى كانوا يحزنون حزنا شديدا على موت الحيوان، لا الجماد كما هو حال اصحابنا، فقد اورد صاحب المستبصر قبل ما يزيد على سبعمائة عام ان عرب اليمن كانوا يقيمون مجالس العزاء ومناسبات الحزن للغزال الميّت لعدة ايام، وانهم اذا ما وجدوا غزالا ميتا اخذوه وغسلوه وكفنوه ودفنوه واقاموا له واجب العزاء، مشققين الجيوب، مقطعين الشعور، ذارين التراب فوق مفارق الرؤوس.
حين يقول قائل من العدنيين: انكم ايها العراقيون من بلاد مسكونة بالكوارث منذ القدم، كان واحد من المهاجرين العراقيين ينبري الى القول: ولكن بلادكم سبقت جميع البلدان الى الكوارث حين انهار سد مارب وجرفت المياه الغاضبة الحلال والانفس وتأسفون حزنا على ذلك حتى الان، وحين يقول اليمني: ان قدماءكم تفننوا في حرق كتب ومؤلفات الادباء وان فهرست ابن النديم يفضح خطاياهم، يعقب العراقي بالقول: كان قدماؤكم قد احرقوا كتب المفكر الاسماعيلي سليمان بن حسن عام 1496 في تعز وهم يقيمون لهذه الخطيئة احتفالات باذخة، ومفيش حد احسن من حد.