السؤال الاول الذي يطرح نفسه غداة اعلان هزيمة داعش في حرب تحرير الموصل هو لماذا اختارت عصابات الردة هذه المدينة لتكون منطلق “دولة الخلافة “وليس اية مدينة عراقية او سورية كانت قد اجتاحتها؟
ولهذا السؤال مخرجات وتفاصيل تحتاج من الباحث الكثير من التقصي الموضوعي عابر المجاملات وانصاف الحقائق، ولعل الحشوة الاولى في الاجابة تتمثل في ان للمدينة بيئة تاريخية ودينية منتجة للصراعات والتمرد، قدر ما هي خلاقة في مجال الانتاج الثقافي والحضاري، والحال فان هزيمة داعش العسكرية لا تعني هزيمة فكر التطرف وثقافة التمرد تماما، كما لا تعني نهاية تجاذبات الانتماء (القديمة) الى الدولة العراقية.
فهي المدينة الوحيدة من بين مدن العراق كانت، في خلال قيام الدولة العراقية المعاصرة في اواخر العقد الاول من القرن الماضي، تخوض معركة انتمائها الجغرافي، ومنذ ذلك الوقت شقت المدينة سبيلا مميزا في بناء حاضرها الذي يتسم بالتنوع الاثني والديني، مستعارا من التاريخ البعيد، حيث كانت مهداً للأشوريين ومحجا للبابليين ومركزا للآراميين، سكنها الجرامقة القدماء واقترن اسمها نينوى بامبراطورية الآشوريين، وسقطت عام 612 قبل الميلاد على ايدي الكلدانيين والميديين، فاتجهت الهجرات صوب تل قليعات بالموصل على الطرف الايمن من دجلة، ثم سيطر الفرس الأخمينيون على المنطقة بعد القضاء على الأمبراطورية الكلدانية عام ( 537 قبل الميلاد) وشجع كورش العرب والفرس على السكنى في هذه المنطقة لما تمثله من أهمية استراتيجية بمواجهة الأغريق، حتى انتهت الموصل المعاصرة الى مدينة ذات شأن بسبب التنوع القومي والديني لسكانها، من عرب وكرد وتركمان وسريان وكلدان وآثوريين وارمن، سنة وشيعة وايزيدية وشبك ويهود، ويشهد على هذا الأمر وجود المئات من المآذن الاسلامية وعشرات من الأديرة والكنائس والمزارات الخاصة باتباع الديانات والأقليات.
الى ذلك اخفقت محاولات إخضاع المدينة لأرادات سياسية لتكون تحت هيمنة مكون او عقيدة بامرة فريق من الفرقاء المتصارعين، وانتهت تلك المحاولات، في الغالب، الى حروب محلية كارثية، لكن سرعان ما تعود الى هويتها الاولى، ويظهر على نحو واضح وبعد كل معركة انه: لايمكن للمدينة ان تتمتع بالسلم الاهلي إلا من خلال تعايش جميع المكونات، من جانب، وان يكون ثمة حكم رشيد ومتوازن على مستوى البلاد، من جانب آخر.
ان سقوط الموصل بيد غزاة داعش الهمج قبل ثلاث سنوات، لم يكن فقط سببه ضعف وهرب الادارة العسكرية لحماة المدينة، بل وايضا لاسباب تتصل بموروثات الصراع المديد بين الشرائح الدينية والقومية والاجتماعية والقبلية ووجود تيار مجتمعي محلي حاضن للعنف والتجييش والتمرد، الامر الذي يلزم اعادة ترشيد العلاقات بين المكونات المتنافرة لسكان المدينة بموازاة اعادة بناء ما خربته حرب تحرير المدينة.
***
ابيقراط:
“ كل مرض، معروف السبب، موجود الشفاء“.