القول ان "ما لا يقبله العقل مشكوك في صحته" بمثابة مغامرة غير محسوبة النتائج على قائلة، وبخاصة حين يكون الجمهور من الجهلة، والظرف التاريخي في التباس، ولا يطعن في هذا الاستنتاج ان متعلمين او مشتغلين في العلم والمهن العقلية ينخرطون في ذلك الجمهور، الامر الذي يعقد مهمة الوصول الى الحقيقة بما هي في الواقع والثِبْت. تفيد احدى العقلانيات المعاصرة ان الامم التي تعاني من اضطراب تاريخي، والمهزومة، تلوذ من مخاوفها في الخرافات، بل وتسعى الى انتاج أوهام وقائية تسهل لها تحمّل الهوان، وقد يبرز من بينها منتجون محترفون للخرافة، او يجري تلفيق اساطير من جنس "اساطير الاولين" باسم عظماء او باسم مجهولين.
ومن بين موجبات العقلانية هذه تصويب النظر الى الماضي على اساس انه –كما هو الحاضر- فيه الغث وفيه السمين، وقد وضع الامام علي هذه المعادلة في كيمياء الصح حين وضع (في نهج البلاغة) موروث العصبية تحت معاينة عميقة بقوله: ”إنْ كان لا بد من العصبية، فليكن تعصبكم لإجتناب المفاسد في الارض".
نعم هناك الان شكوك في سلامة ومصداقية المدونات التي ارخت الثورات، مثلا، من ثورة سبارتوكوس وثورة الزنج وثورة اكتوبر حتى الثورة العلمية التكنولوجية، وثمة نصف تلك الشكوك (كما يقول الروائي الاميركي المصلح هيرثورن) يمكن ان يكون صحيحا، ولو عدنا الى رواية "وداعا يا غولساري" لجنكيز ايتماتوف، والى رواية "السيد الرئيس" لاوسترياس سنجد اننا لم نلتقط كفاية تلك الحقائق العميقة في ما بين السطور، يكفي ان نتذكر ان ايتماتوف كان يسأل ثائرا عما دفعه الى الثورة فكان الاخير يجيب "لا اتذكر" ولكن ايتماتوف، مثلنا، كان سليم النية، بل وكان صادقا في كفاحه من اجل الحرية الى ابعد الحدود.
القضية برمتها بسيطة، فان ما يُعد حقيقةً في جانب من جبال البرانس (كما يقول باسكال) هو غير حقيقي في الجانب الآخر، ويُزعم ان نيوتن اكتشف قانون الجاذبية الارضية لمّا لاحظ تفاحة تسقط من الشجرة، لكن الوثائق العلمية لأكاديمية العلوم البريطانية تبطل رواية التفاحة وتؤكد انه تم التوصل الى صياغة قانون الجاذبية بعد نيوتن بسنوات.
والحال، ان التاريخ كمدونات مطلقة يبدو كمهزلة، حالها حال مهازل المقولات التي صارت تتشبه بالحقائق، ويشار هنا الى مقولة النعامة التي ترسخت في ذاكرتنا على انها تتقي الخطر عن طريق دس رأسها في الرمال، ثم يخبرنا العلم ان هذه الرواية لا ثبت لها ولم يشاهد احد نعامة تزاول هذه الحركة الملفقة، ويمكن ان نضيف الى حكاية النعامة الزائفة حكاية اخرى (اكثر زيفا) تتصل بدموع التماسيح، إذ نكتشف ان التماسيح لا تذرف الدموع لسبب بسيط هو انها لا تملك غددا دمعية.
ما هو مشترك في جميع هذه المنقولات انها تبدأ من نقطة اضطراب في تاريخ تلك الامم، وهو ما فسره اصحاب علم الميثولوجيا بـ (التعويض) حيث تجد الذاكرة الشعبية نوعا من السلوى في حكايات خيالية يجري تنمية عناصرها الدرامية بمرور الاجيال:
التعويض عن مأزق.. لنمسك هذا الخيط.
نصيحة:
"عندما تتحول أحلامك إلى تراب فقد حان وقت الكنس".