حتى أحاول الإجابة على مثل هذا السؤال، وهو شديد التعقيد، وقد لا أتوفر على إجابة له سأبدأ بمثل هذا السؤال الأكثر تعقيداً:
ــ الآن، لو لم يكن قبلنا من شعر، هل يمكن أن يولد شعراء وأن ينتجوا شعراً سواء الآن أو ما بعد الآن؟
حتى أحاول الإجابة على مثل هذا السؤال، وهو شديد التعقيد، وقد لا أتوفر على إجابة له سأبدأ بمثل هذا السؤال الأكثر تعقيداً:
ــ الآن، لو لم يكن قبلنا من شعر، هل يمكن أن يولد شعراء وأن ينتجوا شعراً سواء الآن أو ما بعد الآن؟هذا نوع من الأسئلة الافتراضية التي عادةً ما يكرهها السياسيون في المقابلات التلفزيونية وسواها ويتهربون منها بدعوى(افتراضيتها)، لكن الشعر شأن آخر غير السياسة؛ هو، بوجهٍ من وجوهه، ضربٌ من التيه في الاحتمالات ومغامرة في غير المتوقع وبرهانٌ على غير المعقول، يقيم الشعرُ في الافتراضات ويهيم بالتخمينات.
الطبيعة الافتراضية ستكون مهمة في مثل هذا السؤال؛ ذلك أن التطلع الافتراضي إلى راهن أو مسقبل بلا شعر يعيدنا حتماً إلى (البداية) التي انطلق بها الشعر في التاريخ الإنساني. حين نريد أن (نخمّن) فإننا نضطر إلى نعود بشكل ما إلى خبراتنا لنستعين بها، بما يقدمه التاريخ لنا من معلومات، هكذا نعود إلى البداية الأولى وتكون عودتنا ضرورية من أجل التوفر على تصور حالٍ يكون فيه العالم بلا شعر.
لكن هل كانت هناك بداية فعلاً لصلة الإنسان بالشعر؟
في العلم نستطيع الوقوف على مثل هذه البدايات التي ينمو عنها ويتطور علم من العلوم أو نظرية من نظرياته، فكرة الجاذبية مثلا وارتباطها بتفاحة نيوتن، وقبلها، في العصور الكلاسيكية، كانت لحظة حمّام أرخميدس بدايةً مهمة في الفيزياء من خلال اكتشاف عالِم الطبيعة والفيزياء والرياضيات القاعدةَ التي سُمّيت باسمه (قاعدة أرخميدس) واقترانها بصيحته الشهيرة:(أوريكا،أوريكا)، وجدتُها وجدتها.
في الفلسفة أيضاً نستطيع بصيغة ما الوقوف عند بدايات تأسست معها الفلسفة كـ (علم)، ونستطيع تبعاً لذلك الوقوف على تاريخ للأفكار. لكن هذه الامكانية تبدو متعذرة في حالة الشعر؛ الشعرحياة محايثة لحياة البشر على الأرض. الخيال والتأمل والتصورات، ومعها المعارف والآثار وما تتيحه علوم الانثربولوجي والآركيولوجيا، تساعد على افتراض بدايات شبحية للحياة الإنسانية، بينما لا شيء يعيننا في سبر أغوار تاريخ الروح الإنساني، والشعر نبت الروح. نستطيع الاستعانة بآثارالشعر، بنصوصه، من أجل صنع افتراضات عن داعي الحاجة إلى الشعر، حاجة إنسان الماضي إليه، فالشعر مثل أي عمل إنساني آخر نتاج ومن ثمّ تلبية لحاجة. لكن هذه تظل افتراضات متحصّلة من التاريخ المنظور؛ ماذا عما كان الحال عليه في ما قبل هذا التاريخ، ماذا عما قبل التاريخ؟
سيكون من العبث الوقوف عند داعٍ معينٍ، لا سواه، لصلة الإنسان بالشعر، غير أن داعيا عاما مشتركا يمكن الوثوق به وتعميمه وذلك هو الداعي الروحي للشعر، حاجة الروح الإنسانية إليه. لا نملك تاريخاً للروح لعيننا، لكننا نملك آثار هذا التاريخ، نصوص وأعمال الشعر والفن والأدب وقد نستطيع توسل الحلول منها.
لا يسبر تاريخَ الروح، وهو تاريخٌ بأثر شعري، إلا بالشعر نفسه. إنه تاريخ لا يُقرأ (وبالتالي لا يُعرَف) ما لم يجرِ النظرُ إليه بوسائلِ الشعرِ نفسه. لكي نتطلعَ في هذا التاريخ يجب أن نتطلعَ فيه بوسيلة الشعر؛ الشعر، ككينونة، هو سَفَرٌ في الروح، وتطلّع فيها، الشعرُ سِفْر الروح.بهذا نقترب من إمكانية محتملة للتفاهم مع ذلك السؤال الافتراضي الذي استخدمناه وسيلة لبلوغ الإجابة عن سؤال العنوان: (الآن،لو لم يكن قبلنا من شعر، هل يمكن أن يولد شعراءُ وأن ينتجوا شعراً سواء الآن أوما بعد الآن؟).
فمثلُ هذا السؤال ومعه سؤال العنوان (وسواهما المماثل الكثير) هي أسئلة عقلٍ؛ تحديات الروح للعقل، ومحنة العقل مع الروح.. كيف يستوعب المحدودُ (العقلُ) اللا محدودَ (الروح). من عبقريات اللغة العربية هذا الاشتقاقُ الحاذق لكلمة (العقل) بوصفه قيداً، وهو تقييد يُراد به الإيجاب؛ المنعُ عن الخطأ والزلل، القيدُ هنا هو أيضاً مقيّدٌ بوجوب الامتناعِ عن الخطأ، وإلا لا يكونُ العقلُ عقلاً أي قيداً وعاصماً. لا ينبغي توريط العقل باختباره وسؤاله عما لا يعرف، عن رؤية ما لا يرى؛ كيف له التطلع في مستقبل تاريخ الروح فيما لم ولن نحسم تطلعنا في الماضي، ماضي الروح؟
لقد قلنا في مناسبة سابقة (كتاب ــ طريقٌ لا يسعُ إلا فرداً ــ) إن الشعر يكتب بناءً على حاجة مؤلفيه (الشعراء) إليه وليس تلبيةً لمتطلبات وحاجة سوق القراءة والسماع إليه. إنها حاجة (في أرفع حالاتها) روحيةٌ محكومة بقدرات روح الفرد الشاعر.
لا أحد يستطيع تقرير انتفاء أو خلق وتصنيع هذه الحاجة الروحية الفردية.
لا أحد يعرف كيف يكون امرؤٌ شاعراً ولا يكون سواه.
الكلام عن (موت الشعر) ضربٌ من سوء استخدام العقل وما يرافقه من سوء ما يتحصّل عليه من نتائج.
يمكن لغير الشعراء أن يكفوا وأن يتذمروا من الشعر، لكن الشعراء (من مؤلِّفي الشعر ومن المفتونين به بأسمى ما تكون عليه أراحهم) مستمرون.