في العراق ما بعد 2003 كان العقدُ الثاني من القرن الحادي عشر هو الرحم الزمني الذي نما فيه الاحتجاج الشعبي المتفاقم، وكان احتجاجاً يتركّز ضد الفساد والمحاصصة. المحاصصة هي الشكل الأكيد من الفساد السياسي؛ فساد إدارة الحكم، وعمل المؤسسات، وفساد التشريعات. لم يشأ المجتمع أن ينتهي ذلك العقد قبل أن يتوفّر (المجتمع) على دواعي ميلاد حركة احتجاج نادرة في التاريخ الوطني العراقي، وغريبة على مسار احتجاجات ما سُمّي بـ (الربيع العربي) في عدد من دول المنطقة. احتجاجات بغداد والمحافظات الأخرى في أكتوبر 2019 هي بداية عراقيّة لما يمكننا تسميته بتجربة (ما بعد الربيع العربي).
في (الربيع العربي) كانت شعوب بعض البلدان العربية بمواجهة الدكتاتوريات وتعسّف حكم الفرد، لكن في الحراك الاحتجاجي العراقي تواجه الجماهير أشكالاً متباينة من تزييف الديمقراطية والانحراف بها نحو مفاسد كادت تحطّم كلّ شيء.
لا يريد الحراك الاحتجاجي العراقي التراجع عن الديمقراطية قدر ما هو يسعى إلى إنقاذ الديمقراطية مما شابها من فساد سياسي ومالي وإداري وأمني، وكان من أسباب هذا التشوّه الولادة والنمو غير الطبيعيين للديمقراطية.
في أكثر من مرّة كنت أقف بمناسبات مختلفة عند تصريحات تلفزيونية لشبان محتجّين وكانوا كما هو متوقع بمستويات ثقافة ومعرفة متباينة، وبوعي سياسي يجري التعبير عنه باختلافات كثيرة تتباين عن بعضها تبعاً لتباين مستويات الثقافة والمعرفة السياسية للمتحدثين. كان تأمل في التعبير الذي ما زال يتردّد كثيراً على ألسنة معظمهم: (نريد نظاما رئاسيا، نريد رئيساً، ولا نريد نظاماً برلمانياً، لا نريد أحزابا). في مكان آخر وظرف آخر، غير المكان العراقي وغير الاحتجاج الشعبي العراقي، ستكون فحوى هذا التعبير (التخلّص) من الديمقراطية لزيف أنموذجها واستبدالها بنظام آخر لحكم الفرد. لكن هذا ليس في وارد تفكير المحتجّين.
إنّهم محتجّون سلميّون، يستخدمون وسيلة الديمقراطية من أجل التغيير، وهم ينشدون الحصول على رئيس منتخب (بوسيلة ديمقراطية)، وليس رئيسا يختطف السلطة. يؤكّد هذا التأويل أنّ المطلب الأساس لجماهير المحتجّين هو تغيير الحكومة والحصول على قانون انتخابات أكثر عدلاً بضمانة مفوضية انتخابات يجري اختيارها على أساس مهنية ونزاهة واستقلالية عناصرها.
هذه جماهير ليس في برنامجها شخص معين يُراد إيصاله للسلطة. شخص السلطة، بموجب ما يعلنه المتظاهرون، هو مرشَّح يحظى بالرئاسة عبر انتخابات ديمقراطية يريدونها حرة ونزيهة وعادلة منصفة للجميع قدر ما تكون العدالة والإنصاف ممكنين.
لا ديمقراطية بلا برلمان.
هذه التصريحات حتى وإن قالت (لا نريد برلمان) لا تتعارض، بالوجه الآخر لفحواها الأهم، مع وجود برلمان منتخب، من ينتخب رئيساً ينتخب برلماناً. لكنّها غاضبة على أحزاب البرلمان، وعلى فشل الأداء البرلماني والشبهات التي بقيت تطول مجالس المحافظات.
إنّها صرخات تُدين الحياة الحزبيّة التي لم تستطع تأهيل نفسها لتكون أحزاباً تعمل في ظل دولة ديمقراطية معقدة التركيب. إنّها أحزاب بقيت تحتفظ بطبيعة التفكير الشمولي الملازم لأحزاب الحقب الماضية (أحزاب تروم الإمساك بالسلطة وترتيب كلّ شيء بعد ذلك لصالح بقاء أي منها في السلطة حين يصل إليها)، تريد تغيير الديمقراطية بما يناسب طبيعتها الشموليّة أكثر من أن تفكر بتغيير طبيعتها لصالح إدامة الديمقراطية وتطويرها وتغييرها حين يتطلب تقدمها وتصويبها التغيير. وهذه مشكلة ملازمة لهكذا أحزاب في مختلف الدول وليست قرينة بالوضع العراقي وانتقاله المفاجئ من إدارة حكم شمولي لإدارة ديمقراطية (نظرياً). نجاح أية ديمقراطية وليدة يظل منوطاً بقدرات المجتمعات على إنتاج أحزاب وقوى ديمقراطية فعلاً وبقدرة أحزاب الحقب الشمولية على تأهيل نفسها ديمقراطياً أو بقدرة المجتمع، حين يكون مؤمنا بقيم الديمقراطية وصاحب مصلحة بالديمقراطية، على إقصاء العمل الحزبي والتفكير الشموليين ومن خلال وسائل الديمقراطية وحدها دون سواها.
عملياً لم تحصل مراجعات حزبيّة بعد 2003 إلّا بالحدود السطحية التي تريد من وسائل الديمقراطية الناشئة وسيلةً لبلوغ الأحزاب السلطة.
كان كل شيء قد ظلَّ مقترناً بالسلطة وسبل بلوغها واحتكارها، حتى ما حصل من انشقاقات وتمزّقات عاناها أكثر من حزب وقوة سياسية بعد 2003 كان، بمعظمه، نتيجةَ تصارعٍ على السلطة أكثر مما كان تعبيراً عن جدلٍ فكري واختلاف في البرامج الاقتصادية والسياسية التي تتقدّم الأحزابُ بها، وبها وحدها، في تنافسها الانتخابي.
في خضم التظاهرات ومناسبتها العاصفة يمكن لكثير من الأحزاب والقوى أن تجعل من هذه العاصفة فرصةً للمراجعات وتقويم المسارات.
النظرة المتعالية على الجماهير والتي تدّعي احتكار المعرفة والصواب والحقيقة لم تعد مجدية. الحقيقة الوحيدة التي يمكن أن يراها الشعب هي حقيقة سعادة أو تعاسة الواقع، أن تكون حياتُه حرةً وكريمة وعادلة.
مطالب ملايين الشبان لم تبتعد عن هذه الحقيقية ببداهتها وبساطتها التي يمكن أن يهتدي إليها أي شعب عبر معاناته، وما أعظم معاناة العراقيين خلال العقود. هذه احتجاجات جيل لم يعش مشكلات أجيال سبقته؛ لم يعش الخوفَ من بطش السلطة، لم يعش أساليب ودواعي تشكّل المعارضات في عقود سابقة، وكانت أساليب غالباً ما تمرّ بالكتب والنظريات والإيديولوجيات، وهو جيل لم يعش التفكير بعقائد كبرى تنظّم له مسار وعيه وتدعوه للاحتجاج أو الطاعة بناءً على أنماط وعيها وتفكيرها، إنه جيل وُلد وهو ينشد حياةً أخرى لم يعشها لكنّه تعرّف عليها عبر الميديا المعاصرة، إنّه جيل عاش المقارنة المفجعة، ولكن المنتجة، ما بين حياة مكفهرة وكئيبة يعيش تحت وطأتها وحيوات أخرى تتبدى له عبر بوابات الميديا المشرعة على كلّ شيء. المقارنات هي بعضٌ مما يحفّز العقل والوجدان الإنساني ويثير في البشر الأسئلة والطموح ويدعوهم من ثمّ للتغيير.
لكن لا مقارنة من دون معاناة، وكانت معاناة هذا الجيل أكثر من قاسية، كانت طفولة هذا الجيل قد شبّت بهم وسط انفجارات العنف والفوضى، وكان صبا هذا الجيل قد فتّح عيون أبنائه على الحرية، حرية أن يقول الإنسان ما يؤمن به وما يتمناه، وأن يغضب إذا ما حيل دونه ودون هذه الحرية.
لا خوفَ من الغضب، الخوف هو من فقدان الحرية أو التنازل عنها، ومن كتمان الغضب. هذا ما يجب أن تفهمه السلطات والأحزاب؛ دعوا الغضب يعبّر عن نفسه سلميّاً واصغوا لصوت الغضب، استجيبوا له. هذا جيلٌ لم يشأ أن يتنازل عن حريته التي لم يشغل نفسه بفلسفتها، الحياة والتجربة، لا النظرية، هي ما تلهم الشبان فلسفتها.
لم يشأ هذا الجيل أن يكظم غيظه، لكنّه نظّم هذا الغيظ مهتدياً بحريته. تبدأ الحرية مما هو تلقائي وبدهي، وإذا ما جرى التفريط بما هو تلقائي وبدهي فإنّ كلّ مظاهر الحرية الأخرى تظلّ تزييفاً للحرية.
من هذه البداهات؛ من مطالب خدمات، من أعباء حياة يوميّة ملؤها التعاسة، من غياب الشعور بالعدالة، من انتكاس قيم المواطنة، من رعب الماضي، من ضعف الاطمئنان في الحاضر، ومن ارتياب الثقة بالمستقبل، بلغ الحراكُ الاحتجاجي الأهدافَ السياسيةَ الكبيرة، التي تريد إعادة صياغة السياسة، الأهدافَ التي جعلت من جيل شاب غير مسيّس أن يضع يديه على إمكانية عمل سياسي سلمي لإعادة بناء دولة من بعد ما أرادت لها سياسات الحكم، باختلاف نسخها وطيلة عقود، أن تتقوّض.