تجنبت الاستعارات والأنماط القديمة
سمر الشيخ .. شاعرة تتوغل خارج محيط السائد شعريا
لا يرتقي العمل الفني بنفسه ما لم يرتق بمتلقيه الذي حرص على التوغل بداخله عبر قراءة أو رؤية أو أية وسيلة أخرى للتلقي، وفي الشعر تحديداً يتفق النقاد على إن القصيدة التي لا تؤثر بالمتلقي ولا تمنحه أفقاً آخر هي قصيدة ميتة منذ ولادتها، وبتعبير أدق هي خالية من الروح أصلاً.
والحس الصادق هو الذي يمنح النص الشعري العلاقة المطلوبة بين الشاعر والمتلقي، لذلك يجب أن يحرص الشاعر على توظيف كل أحاسيسه بداخل نصه الشعري دون الالتفات الى جوانب مجتمعية قد تقيد شعريته أو شاعريته، فالأدب ليس تجربة حسية فحسب، بل هو اتحاد تجارب إن لم تدون كاملة فإنها في وقت آخر ستكون محض مذكرات غير مرتبة.
وحتما يبقى أسلوب الشاعر مرتهن بشخصيته، لذلك فهو يعكس داخله ويمثله تمثيلاً صادقاً.
معي الآن مجموعة شعرية بعنوان "انشقاق" تعود للشاعرة السعودية سمر الشيخ وجدت فيها الكثير من الأحاسيس الصادقة واللغة المشبعة بالشعر، ومن خلال تلك النصوص تعرفت على شخصية الشاعرة عبر الأسلوب المثير والراقي الذي منحني حق الاحتفاظ بالنصوص في العمق، كونها اقتحمت داخلي وداعبت بي ذائقتي التي طالما بحثت عن هكذا أحاسيس متمردة.
مرة قرأت عبارة لـ شوبنهاور يقول فيها: "الأسلوب هو تقاطيع الذهن وملامحه" وأنا أقول: اني ومن خلال نصوص هذه الشاعرة وصلت الى اغلب ملامحها ووجدتها تحتوي تجربة إبداعية كبيرة وحاسة جمالية غير تقليدية، وحين توغلت بها أكثر وجدت ثيمة التمرد تعتلي مشهدها الشعري لكن بدون فوضى أو إخلال بالموازين الثقافية الراقية، بل وجدتها فنانة تزاول الشعر بحرفة وذائقة تليق بالكبار فكانت كبيرة، ولعل هذا المقطع الشعري الذي اخترته من قصيدة "الحب رجل" والذي تقول فيه:
"فسيلةٌ أنا مغروسةٌ على العتبات / وأنت مطر / مصابهُ بعيدٌ.. بعيدْ / والجدبٌ يحتلني / فكل الأبواب مُوصدة / والنوافذ عيون مُعلقة / تترقبني /تقتص أثركَ، لتنفيكَ عني".
يمنحكم صورة أولى عن التقنية الشعرية التي تمتلكها شاعرتنا الراقية والتي تبدع فيها من خلال التعبير العاطفي، وقد صادفتها في أكثر من صورة شعرية وقد اعتلاها سيل من الوله والهيام والولع الصوفي، رتبته وفق اندلاق الذات على طاولة الأنوثة الحقّة، لذلك لم يكن من الصعب على المتلقي لشعر سمر أن يعثر على ذاتها وهواجسها اللا متخفية كما يفعلن بعض الشاعرات اللوات يشفّرن حوارات العمق خشية ثورة القبيلة.
كما إن هذه الشاعرة تمتاز بكونها قادرة على اخذ المتلقي الى أكثر من عالم من خلال تكوينها لـ (انطولوجيا) تترجم كل انفعالاتها بدون أن تجد تكرارا أو تشابها في الصور الشعرية، فهي قادرة على التلاعب بالمفردة وجعل منظومة البث عندها غير مستقرة على ثيمة أو لغة معينة، بل إنها وربما لست مبالغاً حين أقول إنها الوحيدة بين بنات جيلها القادرة على نقل الرائي الى أزمنة مختلفة عنه، ومحيطات لم يمر بها مركبه، كونها مجموعة تجارب رصّت نفسها دون أن تتقولب.
ولعل قصيدتها الموسومة "قصيدة شبه جسد" والتي اخترت منها هذا المقطع ليدلنا على ثيمة مغايرة تماماً للسائد، تكفي لإثبات قدرتها على التلاعب بالمفردة وتحقيق أكثر من إزاحة بضربة شعرية واحدة.
وها هي هنا تقول:
"ها أنت ذاهب.. / للغياب / غفوةٌ قصيرة / أحلامٌ خصبة / كما امرأة هجرت فراشك سنيناً / لتمتلئ بك.. / بأجنةٍ يسبحون على مدائن جسدها / يقتاتون دمها / دون أن يكبروا / فتشيخ.. / قبل أن تأتي .."
ألم تكن سمر الشيخ هنا متفوقة على السائد من خلال التصعيد الدلالي للنص؟
ألم تختزل اغلب هواجس الأنثى عبر هذا التمرد على المتداول في الأحاسيس المختنقة؟ لعمري إنها كانت أكثر من متفوقة.
في تجربة أخرى للشاعرة، وهي تجربة وجدانية خالصة، وجدتها تعيش التصوف في حضرة الوطن، تناغي به عمقه وتاريخه، وتبتهل إليه بحوار قدّاسي اعتلاه عتاب حنون، ومناجاة لا تفسد للود المتبادل أية قضية، فرقّة سمر بدت اكبر بكثير من المعتاد، كيف لا والمتلقي هنا (الوطن) الذي تخشى عليه من نفسها والآخرين، لقد عاشت شاعرتنا في قصيدة "منفاي وطن" طقوساً خالية من البكاء، لكنها لم تخل من الشجن والألم الذي كفكفت دواخله وقلمت أظفار تساقطه، خوفاً من كشف وجعها على الآخرين حيث قالت:
"لما يا وطني / أمسحُ جبينك / فتقطع يدي.. / أُشرع لك أبوابي / ونوافذ روحي / فلا تعرفني بواديك / أُرضعك نهدي / أمد لك حبلي السُري / أعبُّ هواءك / فتخنق كل رجفاتي / وصوتي المنسي".
لقد كانت الشاعرة هنا وبعيداً عن الحوار مع وطنها، تمتلك بيان اتجاهات الرؤى الخاصة بها، وترسمها عبر تسربل شفيف وراء قلبها الذي تواجد بداخل النص عاشقاً / ثائراً / متمرداً.. لذلك أنتجت نصاً غير متكلف، وخال من شوائب النواح او الصراخ الجنائزي، بل جعلته عتاب محبين.
وفي الشجن العاطفي لم تتخلف شاعرتنا كثيراً عن ركب الأنثى الشرقية المواظبة على وضع نفسها بصفة الاستثناء عن باقي النسوة، فهي تنظر نفسها مكتملة وغير قابلة للاستبدال، وان حصل فإنها حتما ستكون تلك الناقمة الفاضحة لوجعها عبر منظومة البث الشعري الذي تجيده كثيراً شاعرتنا التي نحتفي بها هنا. وقد وجدت ذلك جلياً في قصيدة "تلافيف.. حلم عابث" التي استعرت منها هذا المقطع الذي تقول فيه:
"أنت.. والحب / عنقودانِ من اللهبِ / يصرانِ على الاشتعالِ ../ ليحترق عُمري و.. أنا / زوارقٌ من التوق.. / تنتشر في دمي.. / فـ.. عُد إليّ / وأغرز أصابعك / في هذا.. / الجسدِ الفائض حزناً".
لقد تجنبت الشاعرة هنا الاستعارات والأنماط القديمة في النشيج الكتابي، بل خلقت لنفسها مجازات أوسع وتوغلت بعيداً حيث روحها التي تعيش اللهفة والعشق الصادق لذلك مررت لنا وبكل سهولة عاطفة وانفعال حقيقيين، فكان لزاماً علينا ان نقرّ بإبداعها الشعري الذي تواجد في قصائد أخرى تحتويها مجموعة النصوص التي حصلت عليها من الشاعرة ذاتها فهناك أكثر من نص يشير لها شاعرة متمكنة قادرة على أن تخلق لها عالماً خاصاً وطريقاً متفرداً في المشهد الشعري العربي.