أمسى اللصوص في العصر العباسي الثاني حركة، وظاهرة اجتماعية قوية، وهم يعودون إلى أصول اجتماعية فقيرة ومظلومة فالتطورات الاجتماعية التي عرفها المجتمع العراقي وقيام المدن الكبرى خلقت فئات اجتماعية عاجزة عن تحصيل معاشها، ناقمة ومتمردة. وقد ترك لنا الجاحظ البصري (159 هـ-255 هـ) فقرة تبين لنا اتساع هذه الفئة، فكتب على لسان أحد اللصوص وهو يتباهى مفاخرا: (خرجت قاطع طريق، و صرت للقوم عينا ولهم مجهرا. سَلْ عني صعاليك الجبل وزواقيل الشام "جمع زقل وهو اللص يرخي طرف عمامته كعلامة مميزة. ع ل" ورؤوس الأكراد ومردة العرب وفُتاك نهر بط ولصوص القَفْصِ ( القَفْص أي النصب وهي مفردة لا أدري كيف انبعثت حية في العراق بعد الاحتلال الاميركي أو قبله بسنوات قليلة. ع ل) سل عني القيقانية، والقطرية، وسل عني المتشبهة وذباحي الجزيرة.
سل عني الكتفية والخليدية والخربية و البلالية (كلها أسماء عصابات لصوص وقطاع طرق. ع ل).ويروي لنا التنوخي قصة لص الكرخ فيقول على لسان اللص ( نشأت فلم أتعلم غير معالجة السلاح فجئت الى بغداد أطلب الديوان للجندية فما قبلني أحد فانضفت إلى هؤلاء الرجال وطلبت قطع الطريق ولو كان السلطان انصفني ونزلني بحيث أستحق من الشجاعة وانتفع بخدمتي ما كنت أفعل هذا بنفسي).
كان موقف اللصوص متعارضا مع الأوضاع السائدة ونظرتهم حاقدة إلى رجال السلطة والمال. قال أحد اللصوص ( اللص أحسن حالا من الحاكم المرتشي والقاضي الذي يأكل أموال اليتامى).
وانشد أحد اللصوص الشعراء :
وأني لأستحيي من اللهِ أنْ أُرى ...
أطوفُ بحبلٍ ليس فيه بعيرُ
وأسألُ ذياكَ البخيلَ بعيرَهُ ...
وبعرانُ ربي في البلادِ كثيرُ.
وأوصى عثمان الخياط ( لم يكن عثمان خياطا بل سمي بذلك لأنه نقب دار ثري فسرقها ثم أعاد بنائها بما يشبه الخياطة فلم يشك أحد في أنها نقبت. ع ل) وهو شيخ الفتيان والعيارين والشطار البغادة، أوصى تلامذته و فتيانه فقال (جسروا صبيانكم على المخارجات - شجعوهم على المعارك بالعصي. ع ل- وعلموهم الثقافة، وأحضروهم ضرب الأمراء لأصحاب الجرائم لئلا يجزعوا إذا ابتلوا بذلك، وخذوهم برواية الأشعار من الفرسان، وحدثوهم بمناقب الفتيان وحال أهل السجون.
وإياكم وشرب النبيذ فإنها تورث الكظة وتحدث الثقل، ولا بد لصاحب هذه الصناعة من جراءة " جرأة" وحركة وفطنة وطموح، وينبغي أن يخالط أهل الصلاح ولا يتزيا بغير زيه.) وضع الخياط ضوابط أخلاقية كثيرة لجماعته منها (ما سرقتُ جارا، وإنْ كان عدواً، ولا كريماً، ولا كافأت غادرا بغدره) ومن مظاهر فتوتهم الصدق والوفاء بالعهد والأمانة في المعاملة وعدم التعرض للفقراء والنساء. يقول شيخهم عثمان الخياط (ما خنت ولا كذبت منذ تفتيت).
أي منذ أصبحت فتىً. وقال أيضا لفتيانه اللصوص (أضمنوا لي ثلاثا أضمن لكم السلامة، لا تسرقوا الجيران، واتقوا الحرام، ولا تكونوا أكثر من شريك مناصف) ويوضح اللص ابن حمدي الذي عرف بظرفه وخفة دمه، المقصود بالمناصفة فيقول إنها خاصة بـ ( أرباب البضائع اليسيرة، التي تكون دون الألف درهم، وإذا أخذت ممن حاله ضعيفة شيئا قاسمه فيه، و اترك شطر ماله في يديه).
وقال عثمان الخياط ( لم تزل الأمم يسبي بعضهم بعضا ويسمون ذلك غزوا وما يأخذونه غنيمة من أطيب الحلال. وأنتم – مخاطبا فتيانه من العيارين والشطار – في أخذ مال الغدرة والفجرة أعذر ، فسموا أنفسكم غزاة كما سمى الخوارج انفسهم شراة ثم انشدهم هذه الأبيات :
سأبغي الفتى إما جليسُ خليفةٍ ...
يقومُ سواءً أو مخيفُ سبيل
وأسرقُ مالَ اللهِ من كلِّ فاجرٍ ....
وذي أكلةٍ للطيباتِ أكول
وبرر ابن سيار حقده على التجار بقوله لأحد ضحاياه ( أما قرأت ما ذكره الجاحظ قال: إن هؤلاء - الأغنياء - خانوا أماناتهم ومنعوا زكاة أموالهم فصارت مستهلكة بها، واللصوص فقراء إليها، فإذا أخذوا أموالهم وإنْ كرهوا أخذها كان ذلك مباحا لهم لأن عين المال مستهلكة بالزكاة – غير المدفوعة – وهؤلاء يستحقون الزكاة بالفقر، شاء أرباب الأموال أم كرهوا).
وفي القرن الرابع الهجري تواترت كبسات للصوص الليلية داخل العاصمة العباسية يجردون حملات متصلة على الدور ينقبونها ويسطون على ما فيها.
وفي سنة 309 هـ كبس اللصوص منزل احد الصيارفة فأخذوا له ذهبا بقيمة 30 ألف دينار.
وتروي بعض مصادر التراث أن ابن شيرزاد أحد قواد أمير الأمراء الديلمي توزون خلع على أحد زعماء اللصوص وضمَّنه بغداد على ان يدفع 15 ألف دينار مما يسرقه هو وأصحابه.
ونظم اللصوص أنفسهم في عصابات وكان عدد بعض هذه العصابات يبلغ أحيانا المائة شخص مجهزين بالسفن والقسي والنشاب. أما الفتيان، من العيارين والشطار فنظموا أنفسهم في أخويات دقيقة ومنظمة وهرمية و (احتل الرفيق ـ وهو العضو العادي في سلك الفتوة ـ سفح الهيكل التنظيمي لها، وانتسب ـ في العادة ـ إلى كبير وهو بمثابة الأب التنظيمي، يعلوه في المرتبة الجد).
كما يخبرنا الباحث عمر الشبراوي، وكان لكل عصابة لصوص أو مجموعة فتية من العيارين أو الشطار رئيس وأعوان منهم العين "جامع المعلومات عن الهدف" والشاغل " من يشغل الناس عن صاحبه اللص والطراد " الذي يتدخل عند القبض على زميله فيضربه أمامهم ويوبخه ثم يطلقه"..الخ، كما كتب الجاحظ.
يتبع....