ثمة قناعة سائدة ولكنها غير صحيحة لدى غير العراقيين بل حتى لدى بعض العراقيين أنفسهم عن شخصية العراقي "العام" مفادها أنه شخص متجهم، ثقيل الدم، قليل الضحك، بعيدا عن المرح وروح الدعابة والنكتة.
هذه القناعة يكررها بوعي أو بدونه كثيرون من باحثين وأشباه باحثين ومدونون على مواقع التواصل والصحافة الرقمية.
أما الحقيقة على أرض الواقع وبشهادات كثيرة فهي عكس ذلك كثيرا ومن هذه الشهادات شهادة الأديب المصري إبراهيم المازني الذي كتب عن نقيضها بعد زيارته في ثلاثينات أو أربعينات القرن الماضي للعراق خير مثال تدحض هذه النظرة (ورد ذكرها في مقالة للصديق عبد الأمير الركابي قبل سنوات ولكنها ليست بحوزتي ولا هو احتفظ بنسختها الأصلية كما أخبرني للأسف).
وأستدرك، أن هذا التقديم لا ينفي وجود مسحة من الحزن المديد والعريق تغلل سمات هذه الشخصية ومعها الفن وميادين الإبداع الأخرى في العراق لأسباب تتعلق بتاريخ هذا الشعب والمحطات الأكثر مأساوية فيه وما أكثرها في العقود بل والقرون القليلة الماضية (فيضانات عاتية واوبئة وجوائح كاسحة كالطاعون والاحتلالات والغزوات الخارجية وخصوصا التركية والإيرانية، ولكن السخرية وروح الدعابة والمرح ظلت تنبجس وارفة وغزيرة كما تنبجس الأزهار والنباتات بين الصخور والجلاميد القاتمة.
في هذه الحلقة حول بغداد العباسية سنجد دحضا آخر لهذه القناعة أو الرأي السائد والمغلوط. فالعراقي العام ليس خفيف الدم ومحبا للنكتة فحسب بل أنه جريء حتى في هذا المضمار لدرجة انه كان يتحرش "بالمقدس" الديني والسلطوي والجنسي (الثالوث المحرم بعبارة المعلم الراحل بو علي ياسين. يمكن ان تُفهَم وتفسَّر هذه الجرأة بوضعها في سياقها التاريخ: ففي فترات الصعود الحضاري يكون المقدس طبيعيا وبسيطا يعيش مع الناس دون تحريمات أو تكفير.
أما في فترات الارتداد والنكوص الحضاري حيث تشيع الخرافات والفكر التكفيري فنجد ما يعاكس ذلك فيتحول حتى الفقيه الصغير والذي لم يسمع باسمه الكثيرون الى رمز مقدس لا يجوز الاقتراب منه ومحايثته.
لقد ألف ابن الجوزي البغدادي أهم وأخطر موسوعة للطرائف والنكات في العصر العباسي عنوانها (أخبار الحمقى والمغفلين من الفقهاء والمفسرين والشعراء والمتأدبين والكتاب والمعلمين والتجار والمتسببين وطوائف تتصل للغفلة بسبب متين).
وابن الجوزي هذا، لم يكن من رجال الفقه والدين المنفتحين أو المتساهلين بل كان متشددا ومتعصبا إلى درجة أنه ألف كتابا كفَّر فيه القطب الشهيد الحلاج عنوانه "تلبيس إبليس"، ولكنه -وهذا ما قد يدهشنا اليوم-لا يتردد عن إيراد أقوى الطرائف والنكات التي لا يجرؤ على روايتها اليوم أكثر رجال الدين تسامحا وتفتحا.
وهناك كتاب آخر في هذا الصدد وهو أضخم من كتاب ابن الجوزي من حيث المحتوى للأديب والفقيه والشاعر والوزير منصور أبي سعد الآبي عنوانه "نثر الدر في المحاضرات".
ومن هذين المصدرين استنقيت لكم هذه الباقة من الطرائف والنوادر (كنت قد نشرتها سابقا في كتابي " المستطرف الممتع / دار التيار بالتعاون مع الكنوز الأدبية – بيروت 2004 / مع ملاحظة ان عناوين الطرائف من وضعي) وكما ستلاحظون فهذه الباقة تحايث وتعابث وتتحرش بقوة بالمحظورات الثلاثة: المحظور الديني والجنسي والسلطوي، لتكون بمثابة الخاتمة المسكية لهذه السلسة من المنشورات عن بعداد العباسية، بغداد المجد والسؤدد، حبيبة الصادقين الأوفياء، وأسيرة أهل الرثاثة والتكفير والتحريمات من المحاصصين الطائفيين.
- بإجماع المذاهب: جاء رجل إلى أحد الفقهاء وقال له: أنا عبد الله وعلى مذهب أبي حنيفة وإني توضأت وصليت فبينما أنا في الصلاة إذ أحسست ببلل في سروالي يتزلق وشممت رائحة كريهة خبيثة فما قولك؟ فقال له الفقيه: عافاك الله!
لقد خربت بإجماع المذاهب!
-رزقكم في السماء: سمع أحدهم قارئا يقرأ قوله تعالى (وفي السماء رزقكم وما توعدون) فقال له: ومن أين لنا بسلم لننال رزقنا ذاك؟
- متاع أمير المؤمنين : قال الخليفة المأمون لمحمد بن عباس: ما حال غلتنا "محاصيل مزارعنا" بالبصرة والأحواز وما حال أسعارها؟
فأجابه محمد: أما متاع "بتاع" أمير المؤمنين فقائم على سوقه وأما متاع أم جعفر "زوجة الخليفة" فمسترخي!! فصاح به المأمون: اغرب عليك اللعنة! -مجوسي صار مسلما : أسلم مجوسي في شهر رمضان فصام فثقل عليه الصيام فنزل إلى سرداب في داره وجلس يأكل فسمع ابنه حسه فقال: من هناك.
فقال الأب: هذا أبوك الشقي يأكل خبزه ويفزع من الناس.
-البوسات قصاص: جاءت جارية إلى أبي ضمضم القاضي والفقيه وقالت له: هذا الشاب قبلني عنوة. فقال أبو ضمضم للشاب: يا فتى أذعن لها بحقها، هيا قبليه عافاك الله كما قبلك، فإن الله يقول (والجروح قصاص).
- قبيح في جهنم : شاهد رجل جاره يستغفر الله ويدعوه أن يدخله الجنة.
وكان الجار قبيح الوجه بشع السحنة فقال له الرجل: ليس من حقك يا جار أن تبخل بوجهك هذا على جهنم!
– نبي السفلة : تنبأ رجل في زمن المنصور فجئ به إليه فقال له: أنت نبي السفلة.
فقال الرجل: جعلت فداك يا مولاي، كل نبي يبعث إلى أمثاله!
- لذة الجديد : كان صاعد بن مخلد نصرانيا فأسلم فجاء أبو العيناء " شيخ ظرفاء بغداد" لزيارته فقيل له إنه مشغول يصلي فهذب وعاد ثانية في المساء فقيل له إنه مشغول يصلي فقال أبو العيناء : دعوه يصلي فلكل جديد لذة.
- حلال وحرام: وجد رجلٌ يهودي رجلا مسلما يأكل لحما مشويا في شهر رمضان نهارا والناس صائمون فجلس وأخذ يأكل معه فقال له المسلم: وكيف تأكل معي وذبيحتنا نحن المسلمين لا تحل لليهود؟
فقال له اليهودي: أنا في اليهود مثلك أنت في المسلمين!
- أبو عبد الله الجصاص :
- أ- كان أبو عبد الله الجصاص يكسر ذات يوم لوزا ، فطارت لوزة من يده فقال متعجبا :لا إله إلا الله كل شيء يهرب من الموت حتى البهائم.
- ب-ونظر يوما في المرآة فقال: اللهم بيض وجوهنا يوم تبيض وجوه وسودها يوم تسود وجوه!
- ج ـ وقال ذات يوم: أشتهي أن تكون عندي بغلة مثل بغلة النبي "ص" فقيل له لماذا؟ فقال: لكي أسميها دلدل على اسم بغلة النبي!
- سارق المصحف: عن أبي عبد الله بن عرفة قال قدَّم رجل ابنا له إلى القاضي وقال: أصلح الله القاضي هذا ابني يشرب الخمر ولا يصلي.
فقال القاضي: ما تقول يا غلام فيما حكاه أبوك؟ فقال الابن: إنه يقول غير الصحيح، فأنا أصلي وأصوم.
فقال الأب: أصلح الله القاضي وهل تكون صلاة بلا قراءة قرآن؟
فقال القاضي: يا غلام هل تقرأ شيئا من القرآن؟ فقال الغلام: نعم وأجيد القراءة.
ثم أنشد: علق القلبُ ربابا بعد ما شابت وشابا إن دينَ اللهِ حقٌ لا أرى فيه ارتيابا فصاح أبوه: والله يا حضرة القاضي ما تعلم هاتين الآيتين إلا البارحة حين سرق مصحفا من جيراننا.
- دعاء الكروان الجائع: قال الجاحظ رأيت أبا سعيد البصري يدعو ربه و يقول: يا رباه.. يا سيداه.. يا مولاه.. يا جبريل.. يا إسرافيل.. يا كعب الأحبار.. يا أويس القرني... بحق محمد وجرجيس عليك، أرخص على أمتك الدقيق.
– مطعم "باجة الجنة": دخل منصور النعمان على أحمد أبي حاتم وهو يتغدى برؤوس خراف "باجة" فدعاه أحمد وقال : هلم يا أبا سهل فإنها رؤوس الخراف الرضع. فقال له منصور: هنيئا لكم، أطعمنا الله وإياكم من رؤوس أهل الجنة.
-آية موسى : ادعى رجل النبوة في عهد الخليفة المعتصم فجيء به إليه فسأله: ما آيتك؟ قال الرجل: آية موسى. فقال الخليفة: ألقي بعصاك تكن حية تسعى. فقال الرجل سأفعل ذلك إن قلت ما قاله فرعون (أنا ربكم الأعلى). -
فتح الفتوح : اشترى الشاعر علي بن الجهم جارية على اعتبار أنها بكر فلما اكتشف أنها ثيب "لست عذراء" قال لها : ما حسبتك إلا بكرا.
فقالت له الجارية: يا سيدي لقد كثرت الفتوحات في زمن الخليفة الواثق!
عجيزة الخليفة: قال الأوزاعي: دخل خريم الناعم على معاوية بن أبي سفيان فنظر معاوية إلى ساقيه وقال: أي ساقين لو أنهما على جارية.
فقال خريم: في مثل عجيزتك يا أمير المؤمنين. فقال معاوية: واحدة بواحدة والبادئ أظلم.
-الحجاج والتقوى : قال الحجاج يوما لرجل : اقرأ لنا شيئا من القرآن.
فقرأ الرجل الآية (إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يخرجون من دين الله أفواجا...) فقاطعه الحجاج مصححا وقال له: بل يدخلون في دين الله أفواجا. فقال الرجل: كان ذلك قبل ولايتك أيها الأمير!